تصدر قريباً عن «دار الجمل» في بيروت الترجمة العربية لرواية «رؤى الانقسام» لصاحب مؤلَّف «المريض الإنكليزي» السريلانكي المقيم في كندا مايكل أونداتجي، والذي ألَّفَ سابقاً أربع روايات، ومذكرات، وكتاباً غير خياليّ عن السّينما، وبعض دواوين الشّعر. حازت رواية أونداتجي «المريض الإنكليزي» جائزة «بُوكر»، أما «شبح أنيل» فحصدت الجائزة العالمية للرواية الممنوحة من مجلة «الأزمنة» الايرلندية، كذلك نالت جائزتي «غيلير» و{الميديسيس». وُلِد أونداتجي في سريلانكا، وهو يقيم الآن في تورنتو، كندا. في رواية «رؤى الانقسام» (ترجمة الشاعر شارل شهوان)، يعود المؤلف إلى سبعينيات القرن التاسع عشر من حيث الزمان، ومن حيث المكان إلى شمالي كاليفورنيا، قرب «غولد راش كانتري»، حيث يلتقي بأب وابنتيه المراهقتين آنا وكيلر، الذين يعملون في مزرعتهم بمساعدة شاب غامض يُدعى «كوب». غير أن هذه الحياة العائلية تجتاحها حادثة قوامها العنف المريع، عنف اليد والقلب والتي تشعل النار في حياة الجميع.تنقلنا الرواية من مدينة سان فرانسيسكو إلى غرف كازينوهات نيفادا الخلفيّة، ثم إلى رحاب المشاهد الطبيعية في جنوب فرنسا ووسطها بسماتهما وخصائصهما كافة، حيث تنغرس آنا في حياة كاتب ينتمي إلى زمن أسبق هو لوسيان سيجورا.قصة حياة هذا الكاتب التي تستقطب الاهتمام، تضرب بداياتها في أوائل القرن العشرين وتدور حول «الحقيقة الفجة» لحياة آنا نفسها، الحياة التي خلّفتها وراءها، لكنها لا تستطيع الابتعاد عنها أبداً، ومع انتقال السرد إلى الأمام وإلى الخلف في الزمان والمكان نكتشف كل شخصية من شخصيات الرواية وهي تفلح في إيجاد موطئ قدم لها في حاضر نُحت من الماضي نحتاً.يشير عنوان الرواية، الذي لم يتمّ اختياره عبثاً، إلى اسم أحد شوارع سان فرانسيسكو والذي استمدّ من الكلمة الأسبانية التي تعني الانقسام. وهذه الرواية، التي تجمع بين القوة والجمال، تدور حول انقسام هذه الحيوات الثلاث إلى جزئين، وهو تفرُّع يحدث عندما يكتشف والد آنا جلّية الأمور التي تحدث في الظلام وينفجر غضباً.هنا جزء من الترجمة العربية خصّت بها «دار الجمل» «الجريدة»:عندما أرتمي بين ذراعيكَ، تسألني أحياناً في أيّة لحظة تاريخية أودّ أن أكون موجودة، فأقول باريس في الأسبوع الذي توفيت فيه كوليت... باريس الثالث من أغسطس، 1954. وفي خلال أيّام، أثناء مراسم دفنها، ستوضع آلاف الزّنابق بجانب قبرها. وأريد أن أكون هناك، أمشي في ذلك الشارع المليء بأشجار الزيزفون الرّطبة حتى أقف تحت شِقّتها الكائنة في الطبقة الثانية في منطقة «الباليه روايال». تاريخ أناس مثلها يملأ قلبي، فهي كانت كاتبة ترى أنّ فضيلتها الوحيدة هي الشّكّ بذاتها. (قبل يومين من موتها، قيل إنّ جان غانيت كان قد زارها ولم يسرق شيئاً. آه، يا للِّص الرائع!).يقول نيتشه «لدينا الفنّ، لا تدمّرنا الحقيقة». والحقيقة الخالصة لأيّ حدث لا تنتهي، كما الحال في قصة كوب ونطاق حياة أختي وهما لا ينتهيان بالنّسبة إلي؟ فهما الاحتمال الفجائي كلّما رَفَعْت سمّاعة الهاتف، عندما يرنّ، بعد منتصف الليل. أنتظر صوت كوب، أو نفس كلير العميق قبل أن تعلن عن نفسها.فلقد ارتَحَلَتْ نفسي عمّن كنت معهما، وعمّا كنتُ سابِقاً، عندما كنت أدْعى آنّا.بجانب كوخ جدِّنا، على مرتفع عالٍ، مواجه لمنحدر من أشجار الكستناء، تمتطي كلير حصانها، وقد لفّت نفسها بحرام ثخين. كانت قد خيّمت طوال الليل مُوْقِدةً النار في مدفأة ذلك البناء الصّغير الذي شيّدهُ جدُّنا منذ نحو جيل، ثم عاش فيه كناسك أو ما شابه وذلك عندما قَدِم الى هذه البلاد. كان عازِباً مُكْتَفِياً انتهى به الأمر إلى امتلاك الأرض حواليه. وعندما أصبح في الأربعين تزوّج بفتور وحظيَ بصبيٍّ واحدٍ أوْرَثه تلك المزرعة على طريق «بِتلوما».تتحرّك كلير بهدوء فوق المرتفع المطلّ على وادِييْن مليئين بضباب الصباح، وشاطئ المحيط الى يسارها. وإلى يمينها الطريق إلى سكرامنتو ومدن الدِّلتا كريّو فِسْتا وسكّانها المتحدّرين من أيّام هجمة الذهب.تُقنِعُ الحصان بالنـزول عبر بياضٍ مُحاذٍ لأشجار كثيفة، فهي ما زالت تشتمّ رائحة دخان منذ عشرين دقيقة، وعلى أطراف غلين إلين، ترى حانة المدينة مشتعلة. لقد ضرب مضرم النيران المحلّي ضربته باكراً، متأكّداً أنّ الحانة خالية. تشاهدُ الحريق عن بعد من دون أن تنـزل عن الحصان، واسمه تِرتوريتال (المناطقي)، لأنه لن يدعها تمتطيه مجدّداً ذات النهار إلاّ نتيجة خدعة ما. فهما لا يثقان الواحد بالآخر كلّياً، رغم أنّه حليفها الأقرب. وهي تستعمل كلّ الحيل اللاقانونية لكي تمنعه من التراجع أو الوثب.فقد تحمل أكياساً بلاستيكية مليئة بالماء تفقشها على رقبته فيظن المسكين أنّ دمَه يسيل فيهدأ لدقائق. عندما تمتطي كلير حصانها تفقد ضعفها أو عرجها وتصبح سيّدة الكون أو سنتوراً (ذلك الوحش الخرافي والذي نصفه الأعلى إنسان ونصفه الأسفل حصان). يوماً ما ستلتقي سنتوراً وتتزوّجه.يأخذ الحريق ساعة لينجو. وحانة غلين إلين كانت دائماً مَرتعاً للمشاكل، وهذه اللحظة ترى كلير المشادّات تندلع في الشارع، ربّما للاحتفاء بهذا الحدث. تنسلّ وحصانها بعيداً عن الغابة الحمراء المنزلِقة والمؤلّفةِ من نبات الزعرور، فتأكل بعض ثمارها، ثم تركبه نزولاً نحو المدينة بمحاذاة النار، فترى النيران الأخيرة تتهاوى كقصفِ الرعد فتقود حصانها بعيداً عن هذا الصّوت.في طريقها الى المنزل تمرّ بالكروم ونفّاخات الحرارة القديمة قِدم الزمن والتي تبقي الهواء في حركة دائمة كي تمنع الكرمة من التجمّد. لعشر سنوات خلت، في صباها، كانت الأباريق الملطّخة تغلي كلّ الليل لتُبقي الهواء دافِئاً.بداية، كل يوم، تقريباً، كنا معتادين على المجيء الى المطبخ القائم كي نقطع بصمت، قطعاً من الجبنة ونتناولها. كان والدي يشرب قدحاً من النبيذ الأحمر. ثم كنا نذهب إلى المزرعة، حيث كان كوب قد سبقنا إليها مُمَهِّداً الأرض الترابية وفاصِلاً عنها القش.وحالاً كنا نبدأ بِحَلْب الأبقار مُلقين برؤوسنا على أجنابها. كنا الوالد وابنتيه البالغتين الإثني عشر عاماً و{كوب}، الأجير الذي يكبرنا بسنوات قليلة. ولم نكن قد تكلمنا فلا يُسمع سوى صوت الأدْلية والبوابات التي تُفتح.ونادِراً ما تكلّم {كوب} في تلك الأيام، وإذا فعل فبصوت خفيض محدّثاً ذاته وكأن اللغة شيء غير مؤكد. بالأساس كان يحدّد ما يراه. ضوء، المخزن والموقع الذي سيتسلّقُه في السياج، والدجاجة التي سيطوّقها ويأسرها ويحملها تحت إبطه. وكنا، كلير وأنا، نستمع إليه عندما نقدر. إذ كان كوب روحاً مكشوفةً في تلك الأيام. لقد أدركنا أن قلة كلامه لم تكن رغبة في الانفصال بل اختبار في اختيار الكلمات. كان ماهراً في العالم المادي حيث كان يحمينا غَيْر أنّه كان تلميذنا في عالم اللغة.في ذلك الوقت، كنّا، كأختين، تقريباً وعلى سجيّتنا، فقد ربّانا والدنا بمفرده وكان منشغلاً في العمل فلم يهتمّ بجُزئيّاتِنا. كان مكتفِياً بأن نقوم بأعمالنا، لكنّه يتحوّل عدائياً في حال جهل مكاننا.ومنذ وفاة والدتنا قام كوب بعملية الإصغاء إلى شكوانا وقَلقِنا، معطِياً إيّانا فرصة التعبير عن ذاتنا. نظر إلينا والدنا من خلال كوب، وكان يدرّبه كي يصبح مزارعاً ولا شيء غير ذلك. أمّا ما كان كوب يقرأه فهو الكتب المتعلّقة بمخيمات الذّهب ومناجمه في شمال شرق كاليفورنيا، كما قرأ القصص المتعلّقة بأولئك الذين ضحّوا بكل شيء في منحدر نهرٍ ما لكيتشفوا الثروة. لكن، في النصف الثاني من القرن العشرين، كان كوب قد تأخّر مئة عام، لكنه كان يعلم بأن هناك المزيد من محاصيل الذهب في الأنهر، وتحت العشب وعلى جبال الصنوبر.وكان هناك كتاب لا يتعدّى النّبذة مع خلفيّة بيضاء كنت قد وجدته على رفٍّ في إحدى غرف المزرعة: مقابلات مع نساء كاليفورنيّات منذ الأيام الأولى وحتى الزّمن الراهن! وبما أنّ معظم هؤلاء النساء لم يستطِعْنَ الكتابة، فقد سافر إليهنّ مُؤَرْشِفو جامعة بيركلي مع مسجّلات صوت لكي يلتقطوا حياتهنّ في أجواء الماضي.تضمّن المصنّف تقارير تعود الى أوائل القرن التاسع عشر وصولاً الى الحاضر، من «نصّ دونّا بولاليا الى نصّ ليديا منديز». وكانت ليديا منديز أمّنا. وفي هذا الكتاب اكتشفنا المرأة التي ماتت في الأسبوع نفسه الذي وُلِدْتُ فيه أنا وكلير.ومن بيننا نحن الثلاثة، كان كوب هو الوحيد الذي كان على معرفة بها عندما كانت حيّة، بما أنه كان يشتغل في المزرعة منذ كان صبيّاً. أما بالنسبة إلي وكلير فقد كانت شبحاً أو إشاعة نادراً ما ذكرها والدنا. كانت شخصاً تمّت معه مقابلة لبضعة مقاطع في هذا الكتيّب وظهرت فيه من خلال صورة سوداء وبيضاء باهتة.تمتّع كل شخص في الكتاب بالتواضع وبِحِسّ أنّ التاريخ كان حولهم وليس فيهم.
توابل
رؤى الانقسام لمايكل أونداتجي... عنف اليد والقلب!
17-08-2011