تنشر «الجريدة» على حلقات كتاب «زمن البعث السوري: تاريخ موجز» للكاتب حازم صاغية قبل طباعته وتوزيعه قريباً، وتنبع أهمية الكتاب خصوصا من تزامنه مع «الربيع العربي» و«الثورة السورية» على نظام «حزب البعث» في نسخته النهائية المتمثلة بحكم الرئيس بشار الأسد. يحتوي الكتاب بين دفتيه قصة «موجزة» لهذا الحزب الذي طبع الحياة السياسية العربية مدة نصف قرن؛ من خلال سيرة شخصياته الأساسية وتفاعلهم مع أحداث سورية والمنطقة منذ نشوء الفكرة البعثية مع «الأساتذة» الأولين، مروراً بحكم العسكر الحزبي، وخصوصاً فترة الأسد الأب التي امتدت ثلاثة عقود، وانتهاء بمرحلة الأسد الابن التي تكرر المشاهد الدموية لكل العهود البعثية. كانت وجهة المنطقة وتحوّلاتها تشير جميعاً إلى أنّ توثيق التحالف مع إيران سيغدو الهمّ الأبرز لنظام الأسد، فهذا وحده ما يعوّضه ضعف علاقاته العربية، لا سيما وقد خرجت مصر، مع معاهدة كامب ديفيد، من دائرة الصراع العربي– الإسرائيلي، فضلاً عمّا يوفّره ذلك من تقديمات ماليّة ونفطيّة يحتاجها على نحو قاهر اقتصاد سورية المتداعي.«حادثة المنصّة»صحيح أنّ أنور السادات قد قُتل في "حادثة المنصّة" في 1981، إلاّ أنّ الخيارات الاستراتيجيّة لخليفته حسني مبارك لم تتغيّر إلاّ في الأداء والشكل، كذلك بات معظم لبنان في عهدة إسرائيل بينما تحرر معظم الثقل الفلسطيني من الوصاية السوريّة من خلال الانتقال إلى تونس وبلدان أخرى إثر اجتياح 1982.أمّا العراق الذي كان يخوض "معركة الدفاع عن البوّابة الشرقيّة للوطن العربيّ"، فانتزع من الأسد ورقة "القوميّة العربيّة" بمعناها الأكثر بدائيّةً وابتذالاً، محوّلاً الحدود الشرقيّة لسورية مصدر قلق وإزعاج متواصلين، وبدوره وقف الأردن، المتّهم هو الآخر بدعم الإخوان المسلمين السوريّين وتسليحهم وتدريبهم، يحالف صدّام حسين، ويبالغ في هذا، مزعجاً سورية من جنوبها ومهدّداً بتعزيز أيّ موقف فلسطينيّ يغاير موقف دمشق.ابتزازكان للتحالف مع إيران، إذن، أن وضع أوراقاً قويّة في يد الأسد الذي بات أقرب إلى وسيط دائم بين طهران وعواصم الخليج، يبتزّ الأخيرة سياسيّاً وماليّاً بالاستفادة ممّا تتيحه العلاقة بالأولى، وأهمّ من هذا أنّ التحالف ذاك كان ما أتاح تحويل بعض نقاط الضعف إلى نقاط قوّة، وفي هذا المعنى رتّب غياب مصر بسبب كامب ديفيد وانشغال العراق في حربه مع إيران فرصةً غير مسبوقة لما وصفته اللغة الرسميّة بانتقال سورية من ملعب، على ما كانته في الخمسينيات، إلى لاعب كبير.وأمّا انسداد عمليّة التسوية، في ظلّ تكتّل ليكود، ما بين إسرائيل وباقي أطراف النزاع معها، فجاء بمنزلة تعزيز للعب ذاك اللاعب، فضلاً عن مساهمته في رسم الطريقة التي يتمّ اللعب وفقاً لها.نبوغ استرتيجيوعلى العموم تحوّل الأسد من الاشتغال على جمع صعب بين صداقتي السوفيات والسعوديّين إلى الجمع الأصعب والأشدّ مدعاة للتركيب بين الصداقتين هاتين معطوفةً عليهما صداقة إيران، وبسبب النجاح في إدارة هذه المهمّة، حدث ما يشبه الإجماع في العالم العربيّ وفي العالم على "النبوغ الاستراتيجيّ" لذاك الضابط البعثيّ البسيط من القرداحة.هكذا لبس "القائد إلى الأبد"، والذي باتت ولاياته الرئاسيّة تُجدّد بنسب تفوق الـ99 في المئة، خوذة حرب جديدة، متعدّدة الجبهات، خاضها في وقت واحد، من أجل أن يتجنّب الحرب الوحيدة التي كان يهدّد بخوضها، مصرّاً على أنّه يبني لأجلها "توازناً استراتيجيّاً" مع الدولة العبريّة.وفي تكرار يكاد يكون باهراً في نموذجيّته، بدا قمع الفلسطينيّين ملازماً لقمع المسيحيّين اللبنانيّين، أو أنّ القمعين كانا وجهين للعملة ذاتها. ذاك أنّ الطموح إلى بناء دور إقليميّ مسكون بهاجس إمبراطوريّ بدا محكوماً بالصدام مع العصبيّتين الوطنيّتين الصغريين في المشرق، تلك اللبنانيّة التي شكّل المسيحيّون قاعدتها وصوتها، وتلك الفلسطينيّة التي أنتجتها منظّمة التحرير الفلسطينيّة. فالقوّات العسكريّة للأخيرة التي بقيت في شمال لبنان وفي أجزاء من البقاع، باتت هي الهدف الرئيس للقوّات السوريّة التي احتفظت بوجودها في تلك المناطق نفسها.شق منظمة التحريرهكذا عملت دمشق على شقّ منظّمة التحرير في 1983 وعلى إفقادها الإجماع على شرعيّتها التي بذلت جهوداً مضنية لاكتسابها، كما استنزفت مقاتليها في مواجهات طرابلس التي أودت بمناطق وأحياء معتبرة من عاصمة الشمال اللبنانيّ.وفي السياق نفسه، تمّ في البقاع اغتيال سعد صايل (أبو الوليد)، أحد أبرز القادة العسكريّين لحركة "فتح"، بينما استمرّت، بضراوة لا تكلّ، الحرب على "العرفاتيّة"، لا سيما وقد استكملت انحيازها إلى المحور العراقي– الأردني ضد المحور السوري– الإيراني.ففي أواسط الثمانينيات، وردّاً على خطّة أردنيّة– فلسطينيّة لمباشرة عمليّة السلام مع إسرائيل، رُوّعت عمّان بالسيّارات المفخّخة، واستهدف الموت سفارات الأردن ومكاتب شركة "عاليه" للطيران في عواصم العالم، وما لبثت أن انفجرت "حرب المخيّمات" في جنوب بيروت، في أواخر 1985، لتستمرّ حتّى 1988.وفي خلالها تولّت حركة "أمل" الشيعيّة، حليفة دمشق، محاصرة تلك المخيّمات الفلسطينيّة وإخضاعها بقسوة لا ترحم، وفي موازاة ذلك لجأت القوى اللبنانيّة الحليفة للسوريّين والإيرانيّين إلى تبديد الأطراف اللبنانيّة التي تحالف الفلسطينيّين.هكذا مُنعت بالقوّة أحزاب "الحركة الوطنيّة"، التي أنشأت "مقاومة وطنيّة لبنانيّة" ضدّ الإسرائيليّين، من المضيّ في هذه المقاومة، وحيل بينها وبين التحكّم بخطوط التماس الحسّاسة معهم في الجنوب والبقاع، كما اغتيل بعض الرموز السياسيّة والثقافيّة للحزب الشيوعيّ اللبنانيّ الذي كان العمود الفقريّ للمقاومة تلك.الحرب في الضاحيةواستؤنفت الحرب، بضراوة أكبر، على السلطة المركزيّة اللبنانيّة وقاعدتها المسيحيّة، فبعد مصرع بشير الجميّل، اختير شقيقه الأكبر، أمين، ليخلفه في رئاسة الجمهوريّة، واستطاع اللبنانيّون والإسرائيليّون، برعاية أميركيّة وعبر عدد من جولات التفاوض، التوصّل إلى اتّفاق 17 أيّار (سبتمبر) 1983 الذي يفضي إلى انسحاب إسرائيلي من دون الاضطرار إلى توقيع معاهدة سلام على غرار كامب ديفيد.هكذا فجّرت دمشق، من خلال حلفائها اللبنانيّين، عدداً من الحروب في الضاحية الجنوبيّة من بيروت، ثمّ في بيروت نفسها، آلت إلى إخراج السلطة اللبنانيّة من العاصمة ومن ضاحيتها وإلى انشطار الجيش اللبنانيّ على نحو يجعل ترميمه بالغ الصعوبة، كذلك استدعى سلوك "القوّات اللبنانيّة" الجلف والمتعجرف حيال المواطنين الدروز ما عُرف بـ"حرب الجبل" التي ضربت ما يُعدّ تقليديّاً "الإقليم– القاعدة" للوحدة اللبنانيّة الهشّة.فالإسناد الكبير الذي وفّره الجيش السوريّ و"الفصائل" الفلسطينيّة الموالية لدمشق للمقاتلين الدروز سمح لهم بتهجير المسيحيّين منه، ومن ثمّ تصديع البقعة التي وُحّد من حولها لبنان كما تشكّل، منذ أواخر القرن التاسع عشر، مهد ما عُرف بـ"النهضة العربيّة" أفكاراً وقيماً.ولادة حزب اللههكذا أضيف خراب الجبل إلى خراب طرابلس التي أضيف خرابها إلى خراب حماة.على أنّ المساهمة السوريّة الأبرز لبنانيّاً تمثّلت بإنشاء "حزب الله" بالتشارك مع الإيرانيّين، فالرواية الأكثر شيوعاً والتي لم تتعرّض لأيّ دحض، تقول إنّ حجّة الإسلام محتشمي هو من رعى تأسيس هذا الحزب من موقعه يومذاك كسفير لـ"الجمهوريّة الإسلاميّة" في دمشق.وقد كان ذلك جزءاً من سياق لبناني مرعي سورياً، بدأ في 1981 مع تفجير "حزب الدعوة" الشيعيّ العراقيّ السفارةَ العراقيّة في بيروت، وهو سياق تراءى لوهلة أنّ الاجتياح الإسرائيليّ قد طواه.وبالفعل برهن "حزب الله" أنّه الثمرة الأكبر التي أنجبها اللقاح السوري– الإيرانيّ، والاستثمار الأنجح لوالديه.«أمل الإسلامية»فابتداء بشقّ حركة "أمل" وإنشاء "أمل الإسلاميّة"، وببضع عمليّات انتحاريّة خلّفت دويّاً كبيراً، مستهدفة المقرّ العسكريّ الإسرائيليّ في مدينة صور، والقوّات الفرنسيّة والأميركيّة التي جاءت إلى لبنان في عداد قوّات متعدّدة الجنسيّة بعد غزو 1982، تعاظم نفوذ هذا الكيان الجديد وذاعت شهرته.ومقابل الاعتماد على الدعم الماليّ الإيرانيّ وعلى الجهد التدريبيّ الذي تولاّه أفراد من "الحرس الثوريّ" تجمّعوا في مدينة بعلبك، غير بعيدين عن القواعد التي وفّرها السوريّون لـ"حزب العمّال الكردستانيّ"، أمّنت سورية البعثيّة مرور النفوذ الخمينيّ واستقراره في لبنان.ولأنّ الطرفين الشريكين يجمع بينهما العداء لصدّام حسين، ساد الإرهاب وخطف الطائرات في مطار بيروت وانطلاقاً منه، كما نشأت ظاهرة خطف الرعايا الأجانب بقصد التأثير في مواقف الدول الغربيّة حيال حرب الخليج.هكذا لم يكن يمرّ أسبوع خلال 1984– 1987 إلاّ ويخرج من يشكر الرئيس حافظ الأسد على شاشة التلفزيون، والشاكر قد يكون رهينة غربياً بعد طول احتجاز في الضاحية الجنوبية من بيروت، وقد يكون شاباً أو فتاة يذيعان رسالة إلى العالم قبل تنفيذ عمليّة انتحاريّة ضدّ الإسرائيليّين.وفي الحالات جميعاً، لم يكن ذاك التماهي الذي أحدثته دمشق بين "المقاومة" وبين حزب دينيّ ومذهبيّ شيعيّ، بعد تاريخ من تماهي "المقاومة" مع الفلسطينيّين السنّة، غير حجّة إضافيّة على طائفيّة النظام البعثي.الطائفيّة وحاشية السلطانفي 1983، أقعد المرض حافظ الأسد، وسط الحروب والمكائد الكثيرة التي كان ينسجها على جبهات عدّة، وهكذا اندلع ما عُرف بـ"حرب الوراثة" التي خاضها شقيقه رفعت ضدّ معارضي توريثه، فلم تُحسم إلاّ بعد تعافي الشقيق الأكبر في 1984.ورفعت كان يبدو لكثيرين الأجدر بالوراثة: فهو ليس فقط شقيق الرئيس، بل خائض المعارك المفصليّة التي حمت النظام في الداخل، وإن كان إسهامها كبيراً في تسويد صفحة ذاك النظام وسمعته، وفي صبغه بالدم والإمعان في تسميم العلاقات الأهليّة عموماً.ليس هذا فحسب، ذاك أنّ الشقيق الأصغر نُسبت إليه علاقات وأهواء كثيرة تشكّل في مجموعها وجهةً متكاملة، فهو، كما ذهبت الأوصاف، أقلّ تمسّكاً بلفظيّات العروبة والسوريّة والبعث واشتراكيّته، وأكثر علويّة وعائليّة وجرياً وراء المصالح، الكبير منها والصغير، التي بدأت تزدهر بعد حرب 1973، وخصوصاً بعد 1976.وهو، في نظر نقّاده- إعلانا وجهرا صريحين بما يضمره، أو يُضطرّ إليه اضطراراً- شقيقه الأكبر وباقي نظامه، فهو يستعجل الانخراط في شبكة المصالح التي باتت تربط الاقتصاد السوريّ باقتصاد التهريب اللبنانيّ، فضلاً عن اقتصادات الريع النفطيّة العربيّة.وقد رأى الكثيرون في علاقة حافظ برفعت، في طوريها الالتحاقيّ ثمّ الصدامي، برهاناً على سمة مافيويّة راحت، على نحو متعاظم، تسم النظام برمته، فلم يكن بلا دلالة، على ما تنقل الروايات شبه الرسميّة، أنّ والدتهما لعبت دوراً تحكيميّاً في خلافهما وفي محاولات تفاديه، وأن أعيان الطائفة والمنطقة المحيطة بالقرداحة كان لهم سهمهم في ترشيد ذاك النزاع أو تقديم الاقتراحات بشأنه.تأهيل باسل للقيادةولئن هُزم رفعت في "حرب الوراثة"، بعد أن هدّد الصراع معه بانفجار حرب أهليّة بين أجنحة السلطة، مهّدت هزيمته لإعداد باسل الأسد، النجل الأكبر لحافظ، كي يكون وريثه، ولدهشة كثيرين، لم يكن النظام الجمهوريّ ولا الاشتراكيّة ذات الصوت المطنطن في دمشق ليحدّا من هذه الوجهة التوريثية، أو ليشكّلا قيداً محرجاً عليها.والحال أنّ النزعة المافيويّة تلك ارتبطت بتنامي اللون الطائفيّ للنظام، كما انبثقت منه، وهو الواقع الذي لم يُفد منه إطلاقاً العلويّون السوريّون ممّن شاطروا باقي السكّان فقرهم وتعاستهم، بينما ظهرت في أوساطهم بعض أشجع الأصوات في نقد النظام ومعارضته.بيد أنّ ذلك لم يحل دون تركّز السلطات الفعليّة، عبر شبكات الجوار والقرابة والاستزلام، في أيدي عدد من الضبّاط العلويّين، فإلى رفعت الذي انتهى الصراع بهزيمته أوائل 1984، كان هناك ثالوث الجنرالات الذي يمسك بالشأن الأمنيّ في البلد، وهو في النظام البعثيّ العصب الأكثر حساسيّة، والمتشكّل من علي دوبا ومحمّد الخولي ومحمّد ناصيف.«العليون الثلاثة»وفي مقابل قيادة رفعت لـ"سرايا الدفاع"، كان علي حيدر يقود "القوّات الخاصّة"، وعدنان مخلوف، شقيق زوجة الأسد، يقف على رأس "الحرس الجمهوريّ"، وعدنان الأسد على رأس "سرايا الصراع"، وهذه كلّها جيوش موازية للجيش الرسميّ الذي أثار على الدوام شكوك النظام، وإلى هؤلاء تمتّع شفيق فيّاض وعلي أصلان بقوّة ملحوظة في مجمّع الجنرالات النافذين.وفي سياق كهذا، سكّ الساخرون تعبير "العليّين" الثلاثة، إشارةً إلى دوبا وحيدر وأصلان، فجاء بالغ الدلالة الطائفيّة، حتّى بالأسماء، على مكامن التأثير والفعالية في النظام البعثي.صحيح أنّ صفحات كثيرة حُبّرت عن أدوار ومواقع بات كبار الأغنياء والتجّار السنة، الدمشقيّين والحلبيّين، يستحوذون عليها، وقد نهضت النظريّة تلك على أنّ المصاهرات بينهم وبين الضبّاط العلويّين، فضلاً عن تشارُكهم في بعض المشاريع التجاريّة، هو ما أنجب هذا المركب السلطويّ العابر للطوائف.بيد أنّ ما قفز التحليل المذكور فوقه أنّ الضبّاط ظلّوا الطرف المقرّر الذي يحدّد للشريك المدنيّ موقعه، والذي يستطيع أن يسحب منه التفويض حين يشاء، بينما الشريك المدنيّ لا يملك أيّ تعبير سياسيّ يعكسه ويمثّله، وهذا معطوف على أنّ المدنيّين، في نظام البعث العسكريّ، لا يستطيعون، تعريفاً، أن ينافسوا في طلب السلطة الفعلية أو يسعوا في ذلك.إثراء غير مشروعلقد استعرضت سنوات حكم البعث أسماء مدنيّين كثيرين من السنة، إلاّ أنّهم جميعاً ظلّوا ثانويّين بقياس صنع القرار وتنفيذه، بحيث اقتصر دورهم على الشقّ التقنيّ البحت من التنفيذ، فلمعظم هؤلاء فُتحت أبواب الإثراء غير المشروع، كما أتيح لهم استخدام المناصب لترتيب صفقات تجاريّة وتناول عمولات من حكومات ومن شركات أجنبيّة، إلاّ أنّ كبار الضبّاط العلويّين ظلّوا يتقدّمونهم أشواطاً في ما هو حاسم وأساسي، وبدرجة أو أخرى يصحّ هذا التقدير في وجوه سياسيّة وحكوميّة وحزبيّة كعبدالحليم خدّام، وهو أهمّهم، وعبدالله الأحمر وعبدالرؤوف الكسم وزهير مشارقة ومحمود الزعبي وسواهم.والراهن أن أغلبيّة هؤلاء صدروا عن مناطق ريفيّة وطرفيّة، فباستثناء الكسم الدمشقي، جاء خدّام من بانياس، والأحمر من ريف دمشق، والزعبي من درعا، ومشارقة من ضواحي حلب، ووحده الكسم قضى فترة طويلة في رئاسة الحكومة، بينما الدمشقيّون الآخرون الذين كُلّفوا رئاسة الحكومة، كعبدالرحمن خليفاوي ومحمود الأيوبي ومحمد علي الحلبي، كانوا يتناوبون على العبور السريع قبل تسليم المنصب إلى سواهم.وتكاد تجربة الزعبي، الذي تسلّم رئاسة الحكومة كما تسلّم رئاسة "مجلس الشعب"، تختصر بعض أوجه العلاقة وترسم حدود السلطة والنفوذ المتاحين، فهو اتُّهم بالضلوع في صفقة فساد وعمولات وُضع على إثرها في الإقامة الجبريّة وقيل، في 2000، إنّه انتحر، بينما كان المشكّكون بهذا الانتحار أكثر من مُصدّقيه.الإخلاص للأسدعلى أي حال فالقاسم المشترك الآخر بين هؤلاء جميعاً أنّهم كانوا "أوفياء" و"مخلصين" لحافظ الأسد، وقفوا معه في معاركه السابقة، لا سيّما منها مواجهته مع صلاح جديد و"اليسار" البعثيّ، وهذا ما ينطبق خصوصاً على العسكريّين السنّة الذين برز منهم في عهده ثلاثة هم مصطفى طلاس وحكمت الشهابي وناجي جميل.فأوّلهم، وهو من الرستن قرب حمص، تولّى وزارة الدفاع من دون انقطاع، مكافأة له على صداقته للأسد وحلفه معه منذ شبابهما الأوّل. إلاّ أنّ دور طلاس في الوزارة كان تزيينيّاً، طغت عليه اهتماماته بشؤون لا حصر لها من نشر كتب رثّة عن ملكات الجمال والزهور واللاساميّة إلى توطيد الصلة ببعض رجال الأعمال العرب والإفادة منها.أمّا ناجي جميل، صديقه القديم أيضاً، وهو من دير الزور، فتولّى قيادة القوّات الجويّة، ورئاسة "مكتب الأمن القوميّ" في الحزب، إلاّ أنّه اختفى من المشهد فجأة في آذار 1978 وقيل إنّ النظام حمّله المسؤوليّة عن تدهور الأمن حينذاك، كما تردّد أنّ الأسد استاء من تعاظم طموحه الذي حمله على التجرّوء على الرئيس القائد في بعض أوساط الحزب والدولة.وبدوره تولّى حكمت الشهابي رئاسة أركان الجيش ورئاسة المخابرات العسكريّة، لكنّ تكليفه في أواخر 1994 أمر التفاوض المباشر مع الإسرائيليّين كان مثار تعليقات كثيرة، فقد ذهبت التكهّنات إلى أنّ الأسد اختار وجهاً سنّيّاً لكي يحمّله وزر التفاوض مع "الأعداء الصهاينة"، وفي الحالات جميعاً، تأخّر التخلّص من الشهابي عدّة سنوات من دون أن تتغيّر القاعدة العامّة للثواب والعقاب.ففي 2004، ومع انقضاء أربع سنوات على عهد بشّار، أُبعد رئيس الأركان الذي وُجّهت إليه اتّهامات علنيّة بعلاقة مشبوهة مع الأميركيّين، كما لاكت الألسنة ما سُمّي ضلوعاً في مؤامرة قيل إنّ عبدالحليم خدّام ووزير الداخليّة غازي كنعان يحيكانها ضدّ الرئيس النجل.ولم تكن سيرة الشهابي هذه غير توكيد متأخّر للحقيقة القائلة إنّ المقاعد الأماميّة لن تتسع لسني، حتى لو كان عسكرياً وبعثيّاً و"وفيّاً للرئيس".
دوليات
زمن البعث السوري - تاريخ موجز - للكاتب حازم صاغية (7): الأسد ينجح في تحالف استراتيجي مع إيران ويخضع الفلسطينيين ومسيحيي لبنان بالحروب والعنف
18-09-2011