في سياق اهتماماته الثقافية يتابع «مركز البابطين للترجمة» إنجاز مشاريعه المتعدّدة، ومنها سلسلة كتب تتناول عرضًا وشرحًا مسهبًا وتقنيًّا لأهمّ تكنولوجيات العصر وعلومه الحديثة، وقد وقع اختياره على ابتكارات علمية عدّة منها قصة تكنولوجيا «الهاتف» التي أصدرها بالتعاون مع «الدار العربية للعلوم ناشرون» في بيروت.

Ad

تؤدّي التكنولوجيا دورًا متممًا في الحياة اليومية لجميع الأشخاص بمختلف الأعمار، فهي تؤثر على المكان الذي نعيش فيه، وطريقتنا في العمل، وطريقتنا في التفاعل مع بعضنا بعضاً وما نطمح إلى تحقيقه.

ولدينا في هذا المجال كتاب وضعه ديفيد ميرسر يروي فيه «قصة حياة» الهاتف مروراً بسنواته الأولى وتحقيقه الشهرة، إلى التطوّر الهائل الذي وصل إليه راهنًا.

3 أطوار

تتألف حياة الهاتف من ثلاثة أطوار، هي التلغراف (المبراق) والهاتف العادي (الأرضي) والهاتف النقّال (الخلوي). لكن يُشار إلى أنّ هذه الأطوار تتقاطع وتتداخل بدلاً من أن تتّبع نمطاً من البدايات والنهايات البسيطة. وكما يمكن أن يُتوقَّع، ثمة عددٌ من الأمكنة حيث الأحداث والتطوّرات التكنولوجية لا تأخذ مكانها بالضبط في فترات محدّدة. مثلاً، في حين أنه من الصحيح أن نصرِّح بأنّ الهاتف قد اختُرِع في عام 1876، وهي سنة براءة الاختراع الشهيرة لألكسندر غراهام بِل، إلا أنه من المهمّ أن نتذكّر أنّ الأمر قد استغرق عددًا من السنوات ليأخذ الهاتف الشكل والمعنى المألوفَين.

تواجد الهاتف «الأول» مع صناعة تلغراف ناجحة ونشيطة. وقد استُحِثّ اختراعه بمحاولة تحسين التلغراف الكهربائي، ووُصِف في أيامه الأولى غالباً بأنه «التلغراف الناطق». وعلى نحوٍ مماثل، وبصرف النظر عن الازدهار الحديث الهائل للهاتف النقّال، فإنّ «الهاتف العادي» لا يزال أساسيًا للحياة اليومية لغالبية الناس. وما يزيد تعقيد كتابة قصة كرونولوجية (مرتّبة زمنيًا) صرفة، إمكان تتبُّع «مفهوم» الهاتف النقّال وصولاً إلى أربعينيات القرن الماضي، حين جرت محاولات للربط بين الراديو (الاتصال اللاسلكي) والهاتف، على رغم أنّ الهاتف النقّال (الخلوي أو العادي المحمول Handy) لم يصبح بالفعل مُنتَجًا مُستهلَكًا على نطاق واسع إلا في تسعينيات القرن الماضي.

بأخذ هذه التحدّيات في الاعتبار، يُقسَم هذا الكتاب إلى تسعة فصول تتتبّع بترتيب زمني الأطوار الثلاثة لقصة حياة الهاتف.

النظام التلغرافي

يتتبّع الفصل الأول الفترة الممتدة بين عامي 1780 و1870 ويوثِّق اختراع وتطوّر التلغراف، مبتدئًا بأنظمة التلغراف البصرية الأولى المطوّرة من الأخوَين «شاب» في فرنسا زمن الثورة الفرنسية تقريبًا. حينها أصبح تلغراف «شاب» إحدى أهمّ تكنولوجيات فرنسا النابليونية، إذ استخدمته الدولة للتنسيق في أثناء الحرب والحفاظ على السيطرة السياسية. وقد مثّل أحد أوّل أنظمة الاتصال التكنولوجية واسعة النطاق واستحثّ نطاقًا من طرائق التفكير الجديدة بشأن المعلومات، والشيفرات، والقدرة على التحكّم بالزمان والمكان، ونتائج ذلك التحكّم. ويتابع الفصل ليتتبّع منشأ التلغراف الكهربائي.

استحوذت الكهرباء في أوائل القرن التاسع عشر على فكر عدد كبير من العلماء، ومع مرور السنوات توافر عددٌ كبير من المخترعين المنذهلين بالاستعمالات العلمية الممكنة للكهرباء. في عام 1837، طوّر كوك وويتستون نظام التلغراف الكهربائي الأوّل في بريطانيا وصانا اختراعهما ببراءة اختراع. وسرعان ما طوّر مورس نظامًا مشابهًا في الولايات المتحدة في العام 1841. كان نظام مورس أبسط من الناحية التكنولوجية، لكنه اعتمد على تعلُّم مستعمليه لشيفرة، وهيمن في النهاية على الإرسال البرقي. أصبح التلغراف الكهربائي أكثر من مجرّد أداة للدولة وشُرِع في استخدامه أيضًا كأداة لإدارة الأعمال، متيحًا تنسيق السلع والتجارة، والأخبار. استولى التلغراف الكهربائي، في زمن ظهوره، على خيال المفكِّرين وعامّة الناس، الذين أدركوا أنه مع إمكان انتقال الرسائل مسافات هائلة بصورة لحظية تقريبًا، فإنّ الزمان والمكان لن يعودا كما كانا. ظهر التلغراف في الثقافة الشعبية بمظاهر عدة: كتمثيل للجهاز العصبي للشعب، وكأداة لتشجيع السلام العالمي، استنادًا إلى الافتراض بأنّ أحد المصادر الرئيسة للحرب كان ببساطة رداءة الاتصال. أمّا ذروة عصر التلغراف فقد كانت مدّ الكيبل عبر الأطلسي الذي أتاح إرسال الرسائل آنيًا (على الأقلّ نظريًا) بين لندن ونيويورك، وقد وصفه كثر بأنه الانتصار التكنولوجي الرئيس في القرن التاسع عشر.

ولادة الهاتف

يركّز الفصل الثاني بشيء من التفصيل على السنة الفريدة الأهمّ في حياة الهاتف، وهي سنة ولادته، 1876. يشير الفصل إلى الطريقة التي نشأ بها الهاتف، أو «التلغراف الناطق» كما كان يُسمّى أحيانًا، من محاولات لبناء أنظمة تلغراف توافقي ستتيح إرسال رسائل متعدّدة عبر خطّ التلغراف نفسه في وقت واحد.

يتتبّع الفصل أيضًا الجدل حول ما إذا كان الفضل في اختراع الهاتف يجب أن يُنسَب إلى ألكسندر غراهام بل أو إلى منافسه إليشا غراي!

صراعات

يبدأ الفصل الثالث بعام 1876، وهي سنة اختراع الهاتف، ويتتبّع الأحداث حتى سنة 1893، وهي السنة التي انتهت فيها صلاحية براءات اختراع الهاتف الأصلية لغراهام بِل. كذلك يوجز الفصل الصراعات الأولى لترويج الهاتف وإيجاد استعمالات له. فبالنسبة إلى كثيرين في ذلك الوقت، لم تكن المزايا التي أتاحها التحدّث عبر الهاتف، بالمقارنة مع إرسال نصّ، واضحة على الفور.

وفي هذه الفترة أيضًا كافح عددٌ من المخترعين مثل توماس إديسون لتحسين الهاتف، وتجادلوا حول استحقاق بِل براءة اختراعه. أظهرت هذه الحقبة أيضًا تطوير نماذج العمل الأولى لتنظيم الاتصالات الهاتفية وظهور أولى شركات بِل المحتكرة للهاتف.

شركة «بل»

يبدأ الفصل الرابع بوصف فترة منافسة قصيرة الأمد بدأت في عام 1893 وواجهت فيها شركة «بِل» المحتكرة للهاتف تحدّيات لمدة وجيزة من عدد من الشركات المستقلة.

ويتابع الفصل ليوجز إعادة تدعيم شركة «بِل» المحتكرة تحت إدارة مديرها العام ألفرد ثيودور فيل في مدّته الثانية لشغل هذا المنصب. خلال هذه الفترة، ساعد فيل على وضع الأساس لنظام هاتف «بِل»، الذي كان سيرتكز على دمج الخدمات المحلية وبعيدة المدى، وعقَد اتفاقات مع الحكومة من خلال ضخ مزيد من الاستثمارات في مجال التكنولوجيا الجديدة وتوسيع الخدمات، مقابل حصول الشركة على حماية الحكومة من المنافسة.

وظّفت شركة «بِل» في هذه الحقبة أعدادًا كبيرة من عاملات مقسم الهاتف مُفضِّلةً ذلك على تطوير محوِّلات أوتوماتيكية. أمّا الحدث الأهمّ في فترة تكنولوجيا الهاتف هذه، فقد كان الافتتاح الناجح لخطّ الهاتف الممتدّ عبر القارة من نيويورك إلى سان فرانسيسكو في عام 1915. ويختم الفصل بتوثيق سرعة انتشار الهواتف خلال هذه الفترة في الولايات المتحدة بالمقارنة مع البلدان الأخرى.

للأعمال والمحادثة

يتابع الفصل الخامس ليرسم خارطة تدعيم نظام هاتف بِل بين الحربَين العالميّتين الأولى(1918) والثانية (1945)، ويُولي اهتمامًا خاصًا للتحوّل من ترويج الهاتف مع بداية هذه الحقبة كأداة لإدارة الأعمال إلى ترويجه كوسيلة لتعزيز الجوانب الاجتماعية والمحادثة اليومية.

تطوّر معلوماتيّ

يتتبّع الفصل السادس الهدوء الذي يسبق العاصفة بين عام 1945 والسبعينيات من القرن نفسه. شهدت هذه الفترة التالية للحرب العالمية الثانية ولادة تكنولوجيات هامّة عدة مثل الترانزستور، ونظرية المعلومات، والرادار، والموجات الصغرية، والألياف الضوئية، والكومبيوتر؛ تكنولوجيات كانت سترتبط في النهاية بظهور ما يُسمّى بمجتمع المعلومات في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته.

وبينما كانت هذه التغيّرات التكنولوجية الجذرية آخذة في الحدوث، استمتع الهاتف العادي، من وجهة نظر المستخدِم، بفترة استقرار طويلة، ليصبح جزءًا مسلَّمًا به من الحياة اليومية.

مجتمع المعلومات

يشير الفصل السابع الى اضطراب إلغاء تنظيم الاتصال عن بُعد وصناعة الإلكترونيات الدقيقة الجديدة الناشئة في أواخر سبعينيات القرن الماضي وأوائل الثمانينيات منه، وهو اضطراب لا يزال مستمرًّا حتى اليوم.

يتتبّع الفصل أيضًا الطريقة التي يأخذ فيها الهاتف مكانه في عصر التقارب الرقمي الحالي لمجتمع المعلومات.

الهاتف النقّال

يناقش الفصل الثامن ولادة الهاتف النقّال، مُركِّزًا بصورة خاصة على الفترة من ثمانينيات القرن الماضي إلى اليوم.

في هذا الفصل، تُحوِّل قصة حياة الهاتف مركزَ اهتمامها من نشاطات شركة بِل في الولايات المتحدة، أو موقع النشاط الرئيس لتطوير الهاتف العادي، إلى رسم خارطة الهاتف النقّال كظاهرة عالمية.

ويتضمّن الفصل أيضًا مقارنة موجزة للطريقة التي شكّلت بها سياسات دول مختلفة التطوير المبكر للهاتف النقّال.

التأثيرات

تركِّز المناقشة في الفصل التاسع بشكلٍ رئيس على الفترة الممتدة من تسعينيات القرن الماضي حتّى يومنا هذا، وتستكشف تأثيرات اجتماعية هامّة للهاتف النقّال.

كذلك يتطرّق هذا الفصل مجدداً إلى بعض المواضيع التي تمّت تغطيتها في الفصل السادس، حيث تُناقَش التأثيرات الاجتماعية للهاتف العادي، مثل ما إذا كان استخدام الهاتف النقّال يقود إلى أنماط اتصال أكثر سطحيةً أو أكثر عمقًا.

وضوح وتوثيق

يتجنّب الكتاب قدر الإمكان استخدام اللغة الاصطلاحية التقنية، لكنّ توثيق بعض القضايا التقنية أمرٌ لا محيد عنه في كتابة تاريخ التكنولوجيا. تُشرح المواضيع التقنية قدر الإمكان عند بروزها ضمن النصّ مع الاستعانة بعدد من الرسوم الخطيّة لشرح المبادئ ذات الصلة بتلغراف «شاب»، والتلغراف الكهربائي، والتحويل الهاتفي، والهاتف العادي، ونظام الهاتف الخلوي، والطيف الكهرومغنطيسي. كذلك يظهر في نهاية متن الكتاب مسردٌ موجز يشرح المصطلحات والألفاظ الأوائلية التقنية. أمّا مسرد الأحداث بتسلسل زمني فهو شامل قدر الإمكان، لكن من المحتوم أنه لا يمكن تغطية كلّ وجه من تطوّر الهاتف بعمق، وقد يجد القارئ المتحمّس أنّ بإمكانه تتبّع قضايا متنوّعة بشكلٍ أوسع بالرجوع إلى المصادر في مسرد المراجع.

وفي حين أنّ النّص لا ينهمك صراحةً في مناظرات نظرية في حقول العلم الأكاديمية ودراسات التكنولوجيا أو التاريخ الاجتماعي للتكنولوجيا، إلا أنّ جهدًا قد بُذِل لدمج المعارف العميقة من مجالات الدراسة هذه في السرد.

يتّضح للقارئ أنّ قصة حياة الهاتف لم تتكشّف ببساطة على طول مسار تكنولوجيا حتمي من نوعٍ ما، بل إنّ العلماء، والمخترعين، والمصمّمين، ومديري الأعمال، والعاملين، والمستعملين قد أدّوا جميعًا دورهم، وإنّ قصة حياة الهاتف هي قصتهم أيضًا. وهكذا يعلو شأن البشرية بأكملها، ويخدم العلم الإنسان في كلّ زمان ومكان.