لست طبيباً ولا أعي في علم الطب كلمة واحدة، إلا أنني عندما استلقيت على كرسي طبيب الأسنان كنت أعلم مسبقاً الفرق بين ما تسببه من ألم "سوسة" قد تتشرنق فوق بعض ضروسي، وألم ضرس العقل الذي أحضرني إلى عيادته. فالتسوس عبارة عن بكتيريا خبيثة تنخر بنموها وحدة صف الأسنان المتناسق، أما ضرس العقل فهو ينمو خارج مسار نمو صف الأسنان المعتاد لهدف معنوي وآخر مادي، نضج العقل وسد الفراغات بين الأسنان وجعلها قريبة من بعضها، وعوضاً عن أن يرد العقل وصف الأسنان على هذا الصنيع بالشكر فإنهما يتناغمان في سيمفونية غاضبة تطلب اجتثاث ذلك الضرس والقضاء على جذوره!

Ad

قبل أن أحضر إلى عيادة الطبيب، وعندما كانت سيمفونية الغضب الخاصة بي تشتد تدريجياً كنت أنظر في المرآه إلى الضرس الذي نما في فكي السفلي باحثاً عن سبب منطقي يدعوني لمقته، فلا أثر للتسوس على سطحه ولا المكان الذي نما فيه يتحمل هو وزره!

رغم كل ذلك فقد شيعته بعد أيام بنظرة أخيرة، وهو ملطخ بالدماء على طاولة كرسي طبيب الأسنان، ولم تكن تهمته الوحيدة إلا أنه كان يناضل بعنف للتقريب بين الأسنان ومنع تراكم الفضلات بينها. هكذا شيعته عيني وشيعه عقلي وبقية صف أسناني بسيمفونية تراقصت على أنغامها معاني السرور والحبور!

ومع أن الألم زال بزواله فإن أثره المعنوي لم يزل فيكفي حتى ولو مجازاً أنه قد شهد لي يوماً "حسبما تقول إحدى النشرات الطبية"، أنني قد بلغت فترة النضج العقلي والفكر المتزن.

همسة غير طبية: قد تتعرض بعض الأفكار التي تنمو خارج مسار النص المعتاد لهجمة شرسة من أفكار تقليدية تتكتل لإجهاضها وإسكات أصواتها الإصلاحية، وقد يتم تأليب الرأي العام ضد حركاتها التصحيحية فيُحكم عليها بالسكوت، إلا أن آثارها الإيجابية على الصعيدين المعنوي والمادي ستبقى ماثلة حتى في حياة من ينبذها ويستعديها!