اجتذبته أصوات النساء المتزايدة فنهض من فراشه وتحرّك على رؤوس أصابعه بحذر، وأطلّ من فرجة بين شرفتين على بطن البيت. لأوّل مرّة يشاهد ابنة عمّه نوف في منزله. كانت بصحبة أمّها وأختيها. كن يتحدثن بهدوء احترامًا لجثمان والدته المسجّى. تأمّل وجهها. تغيّرت كثيرًا عن ذلك اليوم الذي ضمّها وأحرق أشواق قلبه على جسدها الظامئ. أزالت السنين من بشرتها وهج المراهقة وتشقّقاته. هدأت ملامح وجهها واختفت منه البثور. صارت امرأة في منتصف العمر. ازداد جسدها امتلاءً في مناطق الأنوثة. أصبحت أطول من أمّها وأطول من أيّ امرأة تقف إلى جانبها. اختلطت الأمور بين حبيبته المنتصبة في بطن بيته وأمّه التي ستدفن بعد قليل وتختفي من حياته إلى الأبد. امرأتان أحبّهما بعنف. واحدة ستترك وجه الأرض بعد قليل والأخرى ستبقى معه إلى يوم موته. انتزع عينيه من وجهها وطاف بهما على النساء الأخريات. وقعت عينه على منيرة النحيفة زوجة جارهم عبد الرحمن تتحدّث إلى نساء لا يعرفهن. كان حديثًا حماسيًّا لا يتّفق مع الموقف. كانت منيرة تتحدّث طوال الوقت والمرأتان اللتان تقفان معها صامتتان تنصتان بانتباه وحماسة وكأنهما توافقان على كل ما تقول. لا يمكن أن يكون لغوًا نسائيًا. ربّما كانت تقدّم توجيهات. عجز عن التعرّف على المرأتين برغم أن وجهيهما مألوفان، لكن من الصعب تبيّن هويّتيهما. ربّما كانتا من نساء الجيران اللواتي لم يسبق له أن رآهنّ قبل أن يتحجّبن عنه.اعتاد أن يشاهد يوميًا النساء اللواتي يخرجن وقت الضحى يتزاورن أو يرمين بقايا الطعام والغسال أو يفاصلن مع فرقنا بائع الأقمشة المتجوّل. كان قد استأجر غرفة صغيرة اقتطعها الدويرع من بيته وأجّرها له لتكون ورشة إصلاح سياكل. استغراقه في إصلاح السياكل، وتبتّله بحبّ ابنة عمّه جعلاه يتجاهل ميله إلى النساء. كان ينهمك بإصلاح السياكل وتلبيسها في عمل محموم ليجمع قوت يومه ويدرك مستقبله الذي يقوم على هدفين لا ثالث لهما: الزواج بابنة عمّه مهما تقادم الزمن، وقتل الرجال الذين انتهكوا رجولته.ترك منيرة تكمل حديثها الذي لم ينقطع وتحرّك إلى الشرفة التالية، فشاهد زوجة أبو دحيم وزوجة البويز وزوجة صالح وغيرهنّ من النساء. أحسّ أن بطن البيت اتّسع أكثر من حجمه. أكثر من عشر نساء يتحرّكن فيه بسهولة. رمى ببصره على وجه نوف مرّة أخرى. وجه الحبيبة الذي تركه في ذلك السطح في ذلك المساء الصيفي الذي غيّر حياته. ستّ عشرة سنة أمضاها يتابع أخبارها ويتحسّس شغف الرجال بها وينتظر اليوم الذي سوف يمتلكها فيه. تابع زواجها ونهايته. لن يجرؤ بعد اليوم أحد على الزواج بها. لقد وضع حدًّا لشغف الرجال بجسدها. ابن شويب هو أقرب الرجال المرشّحين لخطبتها. تمنّى من كلّ قلبه ألاّ يفعل، لأنّه سوف يموت حتّى قبل أن يدخل عليها. لقد أصبحت نوف ملكه بحكم الدم المُراق.تحرّك ناحية الظلّ حتّى لا تلاحظه أيّ من النساء وتظنّ أنه يتجسّس عليهنّ، فظهرت الغرفة التي ترقد فيها أمّه. حاول أن يرى من فتحة الباب طرفًا منها دون جدوى. تركها ليلة البارحة ممدّدة في طول الغرفة. يبدو أن أحدهم غيّر وضعها. لو تركت بالصورة التي كانت عليها آخر مرّة لشاهد رجليها تطلان من الباب. تحرّك ناحية الروشن لعلّه يلمح طرفًا منها من الجهة المقابلة. صار مطبخ البيت تحت نظره. شاهد امرأة مليئة الجسد حسناء عمرها لا يتجاوز الثلاثين. بيضاء مشوبة بحمرة خفيفة تكاد تنافس نوف على جمالها. حاول أن يعرف من هي، فعدد الفتيات الجميلات في حلة ابن بخيت قليل. يتذكر منهنّ بنت ماجد، وأخت فهد وبنت مريم الفلسطينية. لكن هذه لا تشبه أيًّا من أصدقائه أو رجال الحارة الذين يعرفهم. يبدو عليها الحزن والكرب. لعلّها واحدة من قريبات نوف من ناحية الأمّ. انتزع عينيه عن المرأة بعد أن أحسّ بقليل من تأنيب الضمير. ليس من العدل التفرّج على نساء الآخرين في هذا الوقت على الأقلّ. أعاد نظره إلى وجه الفتاة قليلاً قبل أن يشيح بنظره ليبحث عن بنت عمّه التي لم يجدها في المكان الذي تركها فيه. دار على كلّ الشرفات المنتصبة على الحائط القصير. حاول أن يجد نوف لكنّها اختفت. سحبها القدر من المنافسة، ربّما ذهبت إلى الديوانية تستقبل المعزّيات. وقعت عينه على سعاد شقيقة سعندي. تذكّرها جيّدًا. كان يراها قبل أن تتحجّب عنه. عرفها من وجهها القبيح وعينيها المريضتين. ضاعت بشرتها الخمرية في حبّات الجدري الكبيرة التي تبدو من بعيد كأنّها ذبابات صغيرة. شعر بالاشمئزاز من شكلها. تساءل عن هذه العدالة التي تستثني فتاة مسكينة من الجمال بهذه الصورة المروّعة، لكنه قمع التجديف في داخله وردّد اللهم لك الحمد والشكر.لاحظ أن عدد النساء يزداد. شاهد ثلاث نساء جديدات وقفن يسلّمن على والدة نوف. قدّر عدد النساء في بطن البيت بخمس عشرة امرأة في هذه اللحظة. لأوّل مرّة يشاهد هذا العدد من النساء مجتمعات دون أن يسمع صخب الأصوات الحادّة. لقد بسط الموت هيبته على المكان.بلغت أمّه فجر هذا اليوم الذي توقّفت فيه عن الحياة التاسعة والستين. عمر مديد على إنسان تجنّبته السعادة كثيرًا. اشتكت منذ سنوات بعيدة من كلّ عضو في جسدها. أوجاع حقيقية وأوجاع متوهّمة. ارتبطت معظم مطالبها في السنة الأخيرة بآلامها. كان يذهب إلى إحضار العزيمة والقراءات وغيرها من العلاجات من كلّ مكان يذكر له فيه معالج أو مقرئ قرآن. اعتاد أن يراها طريحة الفراش تئنّ وتتوجّع وتربط رأسها بعصابة وتتذمّر من الجنّ والشياطين وعيون الناس التي لا ترحم. يغذّي الشيخ سويهم مخاوفها بقراءاته المسلّطة على الجنّ. لكن تطوّرات مرض السلّ تفاقمت في الأشهر الأخيرة فالتهمت جميع أمراضها الأخرى. تأكّد أنها سوف تموت في أيّة لحظة. كانت هي نفسها مقتنعة بذلك. تناقص اهتمامها بشؤون حياتها حتّى كاد يتلاشى. عاشت حطام حياة حتّى قبل أن تتزوج. دخل والده حياتها كأنما قرّر القدر أن يمنحها طفلاً قبل فوات الأوان. عاشرها بضعة أشهر إلى أن حبلت ثم هجرها. كان والده مهووسًا بالنساء ولكن فقره يجبره على الزواج بالكبيرات في السنّ والأرامل وقليلات الحظّ.كثرة زيجات أبيه تركته من دون إخوة حقيقيين. سوف يستقبل المعزّين وحيدًا. لا يتوقع أن يأتي إخوته من أبيه. لم يعرف منهم سوى مساعد. التقاه قبل أشهر عدّة في حراج ابن قاسم. قدّم المحرج أحدهما إلى الآخر. تبادلا التحيّات الخفيفة كغريبين وتساءلا عن بقية الإخوة والأخوات. اكتشف أن مساعد لا يعرف كثيرًا عن العائلة التي استنبتها والدهما في كل مكان. بعضهم كما عرف لاحقًا يعيش خارج الرويض. خمسة عشر صبيًّا وبنتًا. يفترض أن يكون العدد أكبر من هذا بكثير لكن من حسن الحظّ أن غالبية زوجات والده كنّ كبيرات في السنّ. أيّ واحدة من أولئك المسِنّات اللواتي يقفن في بطن البيت يمكن أن تكون واحدة من زوجات والده. طلّق بعضهن قبل أكثر من ثلاثين سنة. من الصعب تتبّع تاريخ والده وتاريخ النساء اللواتي عاشرهن. عندما يستمع إلى أمّه تتحدّث عن أهل الرويض، لا بدّ أن يسمع أن فلانة سبق أن تزوجت أباك وأمّ فلان كانت زوجة أبيك وخالة فلان كانت زوجة لوالدك. تتحدّث عن زوجات زوجها دون حسرة أو غيرة كأنّما كنّ زميلات عمل. لم تكن تعرف على المستوى الشخصي سوى عدد محدود منهّن. معظمهنّ فارقن الحياة.حدّثته قبل أسابيع عن عدد من إخوته زاروها في طفولته ولكنها لم تنصحه بالاتّصال بهم برغم أنهم يمتّون لها بصلة قربى. ثم أشارت إلى إخوته في الحسيوي وإخوته في جويبة وإخوته في الكوت وإخوته في كلّ مكان سافر إليه والده. عندما كانت تقصّ عليه الشؤون العائلية تتأثّر وتعاودها نوبات الكحّ.دهمتها قبل ثلاثة أيام نوبة كحّ شديدة حتّى تعثّرت قدرتها على الكلام فنقلها إلى المستشفى. لم يجد الأطباء ما يمكن أن يقدّموه إليها سوى نصحه بأخذها سريعًا إلى مصحّة السود بالطويف والاستمرار في تناول العلاج. كان الأطباء قد اكتشفوا منذ البداية أنها مصابة بتدرّن الرئة، وفي مرحلة متقدّمة من المرض، ويجب أن تنقل إلى المصحّة. لم يقدر المسؤولية حينذاك. تأخّر في مراجعة الوزارة وإتمام الأوراق اللازمة، ساعده على ذلك تحسّن حالتها في الأشهر الأخيرة. خفّ سعالها وتوقّف الدم النازف مع البلغم. ظنّ أن كل شيء صار على ما يرام. فسارت الأمور بشكل عادي حتّى اعتادها مريضة.عاد ليلة البارحة. دخل متسللاً حتّى لا تستقبله وتُجبره على صلاة الفجر. في طريقه إلى الدرج سمعها تسعل بطريقة غريبة. أطلّ عليها في الحجرة فوجدها منبطحة على بطنها غير قادرة على السيطرة على نوبة الكحّ والسعال. قلبها على وجهها فوجد بقعة من الدم على المخدّة. حاول أن يتواصل معها فبدا أن عقلها مختلط. أصبحت غير قادرة على الاستجابة الواعية. مسح فمها وسقاها قليلاً من الماء ثم رطب وجهها ورقبتها وقرّب منها المروحة. أخذ السعال يخفّ، وعادت أنفاسها إلى الانتظام. خطر بباله أن ينقلها إلى المستشفى ولكنه أجّل الموضوع إلى صباح الغدّ راجيًا أن تتحسّن أكثر ويكون هو قد أفاق من سكره. استلقى على الفراش. أغمض عينيه. حاول أن يرخي جموح خياله حتّى الصباح. تعذّر عليه النوم. هناك شعور معتم يجتاحه. إذا ماتت فسيبقى وحيدًا. كان منغمسًا في جحيم حياته. لم يتصوّر البتة أن الفراق سمة الحياة. كان يعتقد أن الحياة جزء واحد غير منقطع. كل شيء في الحياة يخلق في هذا البيت ومع هذه المرأة. وما وراء الباب الخارجي عالم متعفّن لا يستحقّ أن يُعاش. تتصارع فيه عفونة رضيع المقبرة مع رائحة جسد نوف مع المهانة التي تلوّث رجولته. البيت هو المكان الوحيد الذي يعطيه الدفء والإحساس الإنساني والأمان. من الصعب تخيّل ما يمكن أن يحدث بعد موتها. سيلتقي أشباح البيت وجهّا لوجه. البيت صغير ومع ذلك لا يعرف فيه سوى حجرتها حيث تنام وغرفته في الدور الأول والمطبخ العاري.لم يقوَ على النوم. تقلّب كثيرًا في فراشه وأخيرًا طارت السكرة فنهض وعاد يتفقّدها. ناداها كما يناديها عادة فلم تجب. أدارها على وجهها، وجد عينيها مفتوحتين. هزّها لعلّه يوقظها لكنّها ترامت بين يديه كخرقة خفيفة. تراءت له الحقيقة الملقاة في حضنه. أسند رأسها إلى صدره وأخذ يخاطبها. يحاول أن يذكّرها بالعهد الذي ضربته على نفسها ألا تتركه أبدًا. شاهد خيطًا جافًّا من اللعاب يمتدّ من فمها ويتلاشى على الخدّ. ظنّ أنّه شيء يمكن أن يتعلّق به.
توابل
شارع إبليس
09-07-2011