أحدث مسلسل «في حضرة الغياب» (عن سيرة الشاعر الراحل محمود درويش) للمخرج نجدت أنزور، تمثيل فراس ابراهيم وإنتاجه وكتابة حسن م يوسف، صدمة سلبية لدى جمهور الشاعر الفلسطيني وكثير من المثقفين، حتى إن بعضهم لجأ إلى الاعتصام مطالباً بوقف المسلسل واتّهم الممثل بـ{البلط».لا أخفي أني لم أتحمّس يوماً لمتابعة مسلسلات السيرة الذاتية في العالم العربي. ربما يعود الأمر إلى رغبتي في القراءة أولاً، وفي متابعة الأفلام الوثائقية والواقعية ثانياً. حين شاهدت الممثل المصري الراحل أحمد زكي يؤدي دور جمال عبد الناصر في فيلم «ناصر 56»، شعرت بـ{التقزّز» والملل وبدا الزعيم المصري أمامي كأنه مهرّج وليس حاكماً ومؤثراً في «الجمهور العربي»، والأمر نفسه حدث عندما مثّل زكي دور أنور السادات في فيلم «أيام السادات» إذ لم يحضر السادات بقدر ما بقي زكي أمام الكاميرا. لقد برع هذا الممثل في أدواره العادية وعندما لجأ الى تمثيل الشخصيات السياسية والفنية لم أحبّذه سواء في دور عبد الناصر أو في دور عبد الحليم حافظ. ومنذ البداية، لم أتشجّع لمتابعة «في حضرة الغياب» للمخرج السوري نجدت أنزور عن سيرة حياة الشاعر الفلسطيني محمود درويش على رغم الدعايات والبهرجة واسم الشاعر وشهرته، تماماً كما لم أتشجّع لمتابعة مسلسل «نزار قباني» الذي قُدّم قبل سنوات بتوقيع المخرج باسل الخطيب، إذ بدا غزل الشاعر الدمشقي للنساء كأنه حجارة. وحتى حين تابعت حلقة من مسلسل «الملاك الثائر» عن سيرة جبران خليل جبران وجدته سمجاً وبليداً ولا يشبه صاحبه بشيء. بالطبع هذا الرأي يتبع مزاجي كمشاهد قبل كل شيء، ونفوري من مسلسلات سيرة المشاهير الذاتية يعود إلى معرفتي بسير حياتهم على الورق قبل أن تتجسّد على الشاشة، وقبل أن يلجأ الأشخاص الى تمثيل أدوارهم، فليس كل مشهور تنجح سيرته في التلفزيون وليس كل صاحب اسم يجذب الجمهور، فإذا كان مسلسل «أم كلثوم» (على رغم الاعتراض) نجح جماهيرياً وساهم في ترويج أغنياتها مجدداً لدى جيل جديد، فمسلسل «نزار قباني» ساهم في تحطيم صورة «شاعر المرأة»، وإذا كان مسلسل «أسمهان» (ربما بسبب شخصية أسمهان ونجوميّتها وجمالها)، ساهم في إعادة وهجها لدى جمهور لم يعرفها، فمسلسل «ليلى مراد» جاء بنتيجة عكسية تماماً.ثورةطالما أحببت شعر محمود درويش ونصوصه النثرية، وطالما تشجّعت على شراء دواوينه أو محاولة تقليده في الكتابة، لكن نادراً ما فكّرت في أن أعرف شيئاً عن سيرة حياته طوال مرحلة المراهقة. بقي «شاعر فلسطين» في ذاكرتي هو ذلك الشاعر الذي يعرف كيف ينسج قصائده، ولم أكن على علم حتى أنه تزوّج مرتين في حياته، فقد تشكّلت صورته من خلال حضوره وشعره.لاحقاً، بعدما خرجت من حظيرة «المقدسات» و{الأوهام» «والثورة»، بدأت أتأمل وأكتب عن سيرة حياته، وتجلّت صورة أخرى عن الشاعر، صورة أكثر واقعية ودرامية وأحياناً صورة سلبية. من هذا المنطلق، يمكن القول إن معظم الجمهور العربي لديه صورة شعرية عن «شاعر فلسطين»، صورة محاطة بهالات مقدسة، ومن المتوقع مسبقاً أنها ستصطدم بالصورة التمثيلية التي يقدّمها فراس ابراهيم. لذا لم أستغرب محاولة الممثل إضفاء شعرية على الحوار، وبدا كأنه يزايد على درويش في اللغة. مشهد واحد من المسلسل كان كافياً لأقلب على محطة أخرى. فمتابعة المسلسلات ليست إلا وسيلة لتزجية الوقت، وكانت اللحظة التي شاهدت فيها درويش بنسخة فراس إبراهيم أشبه بنكتة سمجة وثقيلة، أشبه بتورّم على الشاشة، ويزيد التورّم حين نسمع الشعر متلفزاً.غلاةمن البديهي أن يعترض «غلاة» محمود درويش على مسلسل يتطرّق الى سيرة حياته، طالما أن صورته ارتبطت في مخيّلتهم بصورة شعره الذي دخل القلوب والعقول، إن من خلال الأغاني التي قدّمها الفنان مارسيل خليفة أو من خلال الأمسيات الشعرية التي قدّمها الشاعر نفسه، وصورة الشاعر المثالية لا تزال طرية إذ لم تمر ثلاث سنوات على غيابه، فكيف يمكن للممثل أم المخرج تفكيك «المقدس» الذي يسجن هذه السيرة ويزجرها، وكيف يمكن جعل الشاعر من لحم ودم في عالم يضجّ بالأوهام خصوصاً في الأمور التي تتعلّق بفلسطين؟! ومن البديهي أيضا أن يختار مخرج مسلسل محمود درويش بعض الجوانب الصادمة في حياته (لأنه يبحث عن النجاح والجمهور)، وأن يعترض غلاة الشاعر على ذلك، لأنهم يتصرّفون مع سيرته كفتاة طاهرة وعذراء ترى فجأة أموراً مدنّسة وقبيحة تخدش الحياء، هم لا يتخيّلون في شاعرهم إلا صورة رمز القضية والثورة وصاحب الشعر المنمّق والصاخب بالصور اللغوية والطباق والجناس، والغارق في الإيقاع الذي يجعل الأذن تغلب العقل، والسماع الذي يسيطر على الحواس.كان ينبغي على منتج مسلسل محمود درويش أن يتمهّل قليلاً بدل التسرّع في التهام سيرة شاعر ما زال حياً بشدّة في ذاكرة الجمهور! أو الأحرى، كان ينبغي وضع سيرته على نار هادئة ريثما تنضج. في المقابل، على جمهور درويش التعامل مع شاعرهم على أنه من جنس البشر وليس ملاكاً. ولنقل هنا، إن الروائي الفلسطيني (المناضل) غسان كنفاني كتب رواية عن فتيات الهوى في زمانه، ولم تتجرأ المؤسسة التي أصدرت أعماله على نشرها بحسب علمنا وبقيت في أدراج الذاكرة، وحتى حين تجرأت غادة السمان على نشر رسائل كنفاني الغرامية إليها قامت الدنيا ولم تقعد، فكيف لها أن تخترق «تابو} رجل الثورة الفلسطينية المقدس؟! فهل يتحمّل غلاة محمود درويش أن يقال عنه إنه كان «نسونجي» وأتى ذات مرة الى بيروت وطلب مقابلة هيفا وهذه الأخيرة اعترفت بالأمر وقالت إنها بكت يوم رحيله وندمت لأنها لم تقابله؟!ثمة فريق يقدّس درويش وثمة فريق آخر يصف موته بالنفوق، ولا يتوانى فريق ثالث عن الشماتة بموته والقول بأنه لم يستطع تلبية رغبات معجباته(!!)، ومن هنا فضح موت درويش الواقع العربي الغارق في الحقد والأوهام والأفكار الكبيرة والمقدسات.صباحصورة محمود درويش على عكس صورة الفنانة اللبنانية صباح التي كانت في حياتها متحرّرة من كل قيد وهي في ذهن جمهورها تروي كل شيء عن حياتها من دون قيد أو شرط، ومع ذلك حين لجأت شركة «الصباح» الى تقديم مسلسل «الشحرورة» اصطدمت بأكثر من مطبّ، بدءاً من بعض أزواج صباح كفادي لبنان ومروراً ببعض أصدقاء الفنانة كآل فريحة، ووصولاً إلى ابنتها هويدا وزميلتها الفنانة فيروز التي قدّمت دعوى مستعجلة لوقف المسلسل بسبب أنه يلمّح إلى حياتها مع زوجها الراحل عاصي الرحباني.مسلسل «الشحرورة» أعجز من أن يواكب تفاصيل سيرة هذه الفنانة التي لم تترك أمراً في حياتها إلا وتحدّثت عنه في حوراتها الصحافية أو مقابلاتها التلفزيونية، فهي كشفت المستور من علاقتها الصعبة بوالدها الى مقتل والدتها على يد شقيقها وصولاً إلى علاقتها بالرجال وإلى طريقتها في الحب والتقبيل، وعلى هذا يبدو اعتراضها على بعض مضمون مسلسل سيرة حياتها في غير محلّه ولا يقدّم ولا يؤخّر، ويبدو أنها مربكة بين أن تنصاع للمنتج أو لذاتها أو للمحيطين بها.أكثر ما يقال عن مسلسلَي «في حضرة الغياب» و{الشحرورة» إنهما تناتش على سيرة شخصين، تناتش وصراع يشبه الصراع على كل شيء في العالم العربي، ربما لأن كل فريق يحاول توظيف «الرموز» في المكان الذي يحبّه، وما يفعله المنتجون أنهم يبحثون عن وليمة تلفزيونية دسمة، وتكون «مسمومة» أحياناً!بين الخيال والواقعالراجح أن صورة الشخصيات الأدبية والسياسية تصنعها القراءة في مخيّلتي التي تصطدم أحياناً بالصورة، وعلى هذا أتذكّر أمرين حصلا معي قبل سنوات. الأول، أن صورة الزعيم الدرزي كمال جنبلاط كانت في مخيّلتي تعبيراً عن ذلك المثال الذي شكّلته القراءة والمقالات، لكن حين شاهدته للمرة الأولى يتحدّث من خلال فيلم وثائقي، وجدتني أمام شخص آخر، وانهارت فجأة صورته المثالية من ذاكرتي، وصرت أمام شخص من لحم ودم. بل انهار ذلك المسار الذي نبع من مقالات صحافية وأوهام عشتها في طفولتي.تجلّى الأمر الثاني حين شاهدت صورة الرئيس اللبناني الراحل بشير الجميل بعد الحرب الأهلية اللبنانية، إذ إني طوال سنوات طفولتي تربّيت على أنه ذلك الرئيس الكتائبي – القواتي، وأنه أحد رموز الحرب الأهلية. لكن صورته على الشاشة بعد الحرب صنعت في مخيّلتي وهماً جديداً، وكادت صورته التلفزيونية «الكاريزماتية» تقضي على صورته الحربية... هكذا الصورة تخدعنا أو تصنع أوهاماً إضافية في المخيّلة. والأكيد أنه إذا تجرأ أحدهم على تمثيل السيرة الذاتية لبشير الجميل أو كمال جنبلاط بالطبع سيحدث بلبلة، فصورة كل واحد منهما متشعّبة التأويلات والحكايات، وما يراه بعضهم مقدساً في هذا الشخص، يراه عكس ذلك البعض الآخر.
توابل
في حضرة الغياب لفراس إبراهيم...السماجة الشعريَّة!
16-08-2011