إن كان يتابع فأين التفتيش؟ وإن لم يكن فأين الرقابة؟

Ad

 • وحدة التحريات المالية غير مستقلة وهناك شكوك حول مطابقة عملها للمعايير الدولية

• غير منطقي قصر "الإيداعات المليونية" على البنوك فهناك شركات الاستثمار والصيرفة

• "المركزي" لم يطالب باستكمال البناء التشريعي لمكافحة أي عمليات مشبوهة كقانون الذمة المالية أو "من أين لك هذا؟"

دخلت قضية الإيداعات المليونية لمجموعة من النواب الأسبوع الجاري مرحلة مهمة، خصوصاً مع اقتراب انعقاد الجلسة الافتتاحية لمجلس الأمة في 25 أكتوبر الجاري، فحتى هذه اللحظة أحالت 3 بنوك كويتية حسابات 14 نائباً إلى النيابة العامة، مع توقعات بمزيد من الإحالات لعدد أكبر من النواب.

ورغم أن قضية الإيداعات المليونية في الأصل سياسية، فإن هنالك تفاصيل فنية لا يمكن تجاوزها في أي نقاش حول القضية، خصوصاً في ما يتعلق بدور البنك المركزي الكويتي في متابعة ومعرفة حركة الأموال المودعة والحسابات المتضخمة، وعليه يكون أول سؤال تجب مناقشته من الناحية الفنية هو: هل كان "المركزي" يعلم بحركة الإيداعات المليونية قبل انكشافها؟

إذا كانت الإجابة بنعم, فمعنى ذلك أن "المركزي" تتوافر لديه آليات عالية للرقابة والمتابعة لحركة الأموال غير الطبيعية في النظام المصرفي، مما يفتح تساؤلات المجال أمام أخرى حول دوره كقائم على النظام المالي بالدولة في اتخاذ إجراءات التفتيش لكشف أي حركة أموال مشبوهة، فضلاً عن جدوى عمل وحدة الاستخبارات المالية الكويتية، ومدى كفاءتها في الكشف عن أي عمليات تتناقض مع قانون مكافحة غسل الأموال أو قانون البنك المركزي.

أما إذا كانت الإجابة بـ"لا", فإننا أمام كارثة مصرفية تتمثل في غياب المعلومات المهمة والمباشرة حول التعاملات المالية في النظام المصرفي، وبالتالي وجوب فتح تحقيق فني لمعرفة أسباب قصور البنك المركزي في متابعة أي تحويلات أو تعاملات مالية مشبوهة.

بمعنى أكثر دقة، إمّا أن "المركزي" كان يعلم بالإيداعات المليونية قبل انكشافها، وبالتالي قصّر في مطالبة البنوك بإحالتها إلى النيابة العامة أو فتْح تحقيق مع البنوك بشأنها، أو أنه لم يكن يتابع أصلاً هذه العمليات بشكل فني، خصوصاً أن هناك تقارير يومية بكل العمليات المالية التي تتجاوز 3 آلاف دينار، وبالتالي نكون أمام حالة انكشاف كبرى على عمليات غسل أموال لم يتبين لنا منها إلا رأس جبل الجليد.

وفي الحقيقة، لا أحد يستطيع أن يكشف إن كان "المركزي" علم أو لم يكن يعلم بالإيداعات قبل حدوثها إلا "المركزي" نفسه، إلا أن هذا لا يمنع أن نشير إلى مجموعة من مناطق التسلل التي وقع فيها "المركزي" باعتباره القائم على السياسة المالية والنقدية في البلاد، وأبرزها:

• لدى بنك الكويت المركزي جهة رقابية تفتيشية تابعة تسمى وحدة التحريات المالية، من مهامها القيام بعمليات الكشف والتفتيش على البنوك والمؤسسات المالية المختلفة، إلا أن تقرير صندوق النقد الدولي عن النظام المالي الكويتي قال إن هذه الوحدة لا تملك الاستقلالية القانونية ولا الإدارية، ولا تقوم بواجبها بكفاءة، بل إن عملها غالباً ما يصطدم باختصاصات أعمال أقسام أخرى في "المركزي" كقسم الرقابة الميدانية، فضلاً عن أن موظفي الوحدة غير متفرغين لها، كما أن الوحدة لا تتمتع بميزانية مستقلة، بل إنها لم تصدر منذ تأسيسها أي إحصائية أو تقرير سنوي حول أدائها، فضلاً عن عدم تقييم الوحدة لمعرفة كفاءة نظام عملها المشكوك في مطابقته للمعايير الدولية.

• حتى هذه اللحظة، لا يزال التركيز في قضية الإيداعات المليونية على البنوك دون غيرها من وحدات النظام المالي والمصرفي، رغم أن القانون رقم 35 لسنة 2002 في مكافحة عمليات غسل الأموال يشمل إلى جانب البنوك، شركات الاستثمار، بما تمثله من محافظ وصناديق وأموال عملاء وشركات الصيرفة، وبالتالي فإن اقتصار الكشف على البنوك وحدها لا يلبي المطلوب في الكشف عن الأموال المشبوهة في الكويت.

• تشير مصادر مصرفية إلى أن "المركزي" لا يوفر للمؤسسات المشمولة برقابته من بنوك وشركات استثمارية وصيرفة تعليمات واضحة حول آلية الإبلاغ عن الحسابات المشبوهة، بمعنى أن التحويل من المؤسسة المالية إلى النيابة عن الحسابات المشبوهة يخضع لتقييم إداري من المؤسسة المالية، وليس بناء على قاعدة تفصيلية من البيانات والتعميمات الصادرة عن البنك المركزي، وبالتالي كان من المحتمل أن يُطمَس موضوع الإيداعات المليونية لولا مبادرة بنك الكويت الوطني بإحالة عدد من الحسابات إلى النيابة العامة.

• لا يزال التساؤل قائماً في الأوساط المالية والمصرفية وحتى السياسية: ما الذي يضمن ألا تكون هناك حسابات نيابية أو حتى غير نيابية متورمة في البنوك التي لم تحل أي حساب إلى النيابة العامة؟ وماذا عن عمليات التفتيش التي يجب أن يقوم بها "المركزي" ميدانياً على البنوك؟ بل ما مدى تعامل "المركزي" مع ما يطلق عليهم اصطلاحاً "العملاء مرتفعو المخاطر"؟ وما الإجراءات الخاصة بمتابعتهم وطريقة التأكد من سلامة حساباتهم؟

بالطبع، هنالك نواقص تشريعية مهمة في القانون الكويتي للحد من عمليات غسل الأموال للسياسيين وغيرهم، لكن للأمانة فإن القانون الحالي رقم 35 لسنة 2002 الخاص بمكافحة غسل الأموال يغطي جانباً كبيراً من العمليات المشبوهة. صحيح أن هنالك قوانين أخرى نحتاجها لنحكم السيطرة على أي تعاملات غير طبيعية للسياسيين أو ذوي المناصب العليا، إلا أن الملاحظة المهمة في هذا الإطار أن البنك المركزي نفسه لم يطالب بها، رغم أهميتها، لاستكمال البناء التشريعي لمكافحة أي عمليات مشبوهة، كقانون كشف الذمة المالية وإنشاء هيئة فنية متخصصة في مكافحة الفساد، فضلاً عن قانون "من أين لك هذا؟".

إن الحديث عن المعالجة السياسية للإيداعات المليونية مهم جداً، إلا أن الأهم هو المعالجة الفنية والاقتصادية للثغرات الإجرائية والقانونية، إذ لا بد من تطوير عمل وحدة التحريات المالية الكويتية، لتكون أكثر استقلالية عن عمل بنك الكويت المركزي، لتقوم بواجبها بشكل طبيعي وقادر على إحالة البلاغات المشبوهة إلى النيابة العامة، حتى إن لم تُحِلْ البنوك الحسابات من تلقاء نفسها.

ختاماً، يجب تأكيد أن وجود بيئة لغسل الأموال في الكويت يعني مجموعة من النقاط السلبية، كخفض التصنيف الائتماني السيادي للدولة، وأي تهديد لهذا التصنيف سينعكس سلباً على الاقتصاد الكويتي وتنافسيته، إضافة إلى زعزعة ثقة المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال، كما أن وجود عمليات غسل أموال في الكويت يوجه ضربة قاصمة إلى خطط الدولة المعلنة بتحويل الكويت إلى مركز تجاري ومالي، لأن المراكز المالية المحترمة يجب أن تحظى أولاً ببيئة خالية من الشبهات المالية والمصرفية، أو مواجهتها بالآليات القانونية الخاصة بمكافحة غسل الأموال.