يأمل الخبراء الاستراتيجيون الأميركيون التوصل إلى حل بعد التفاوض، على أن يكون عبارة عن اتفاق يشمل حركة «طالبان» وعناصر من «التحالف الشمالي» القديم في آن... لكن من المتوقع ألا تنجح هذه الخطة، بل ستواجه أفغانستان حرباً أهلية، تماماً كما حصل بعد الانسحاب السوفياتي في عام 1989.لا يمكن المقارنة بين انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، وهو ما أعلنه باراك أوباما رسمياً، والإهانة التي تعرضت لها الولايات المتحدة في فيتنام منذ أربعين عاماً تقريباً، فلم تصدر أي صور- حتى الآن على الأقل- تُظهر موظفي السفارة الأميركية وهم يهربون بالطائرات من السفارة في كابول. ولا يمكن المقارنة بين مقتل 6 آلاف أميركي تقريباً خلال الحربين الفاشلتين في العراق وأفغانستان ومقتل 60 ألف أميركي في فيتنام. لذا يصر الرئيس أوباما وديفيد كاميرون على تطبيق سياسة حذرة للخروج من حرب أفغانستان.لكن ادعى الرئيس نيكسون الأمر نفسه حين أعلن سياسته الخاصة المعروفة بـ"الفتنمة" عبر تدريب قوات جنوب فيتنام بعد انتصاره في عام 1968، فقد تصور نيكسون ومستشاروه حدوث عملية انتقالية سلسة بعد رحيل الولايات المتحدة وتسلم إدارة فيتنامية جنوبية مكانها، لكن لم تستطع حكومة سايغون ولا الجيش الذي حصل على تدريب أميركي التكيف مع الوضع بينما سارعت الولايات المتحدة إلى المغادرة في ربيع عام 1975.لنتقدم بالزمن إلى عام 2014، أي في السنة التي ستنتهي فيها عمليات القتال بحسب قول أوباما وكاميرون، فمن المتوقع أن تعود حركة "طالبان" إلى السلطة، تزامناً مع نزول المُلاّ عمر (الذي لا يزال على رأس لائحة الإرهابيين المطلوبين من مكتب التحقيقات الفدرالي) من الجبال لاستعادة موقعه القديم كرئيس للمجلس الأعلى ورئيس فاعل للدولة بعد أن جُرّد من منصبه هذا.من المستبعد أن يتقبل قادة "طالبان" ببساطة مظاهر الحياة الليلية والمطاعم المكتظة التي ازدهرت في عهد الرئيس كرزاي، ستُقفَل هذه الأماكن دفعةً واحدة، لكن قد يُعاد افتتاح "تلة المسبح" (Swimming Pool Hill) الشهيرة- إذ كان المجرمون والمثليون يُرمَون من على لوح الغطس وهم معصوبو العيون ليلاقوا حتفهم- لمعاودة النشاطات الوحشية. لا بد من الاعتراف بأن موقف "طالبان" من تعليم المرأة تحسن خلال العقد الماضي، ففي أفضل الأحوال، قد تصبح كابول شبيهة بأكثر المدن العربية تحفظاً.من المستبعد أيضاً أن تفرض "طالبان" نطاق السيطرة نفسه على جميع أنحاء أفغانستان بقدر ما كانت تفعل قبل عملية الغزو في عام 2001، فالقوات التي تواجهها، حتى الآن، هي أقوى من أن تسمح لها بذلك، كما أن "طالبان" نفسها تفككت إلى جماعات متخاصمة بعد عشر سنوات من الحرب. لهذا السبب، يأمل الخبراء الاستراتيجيون الأميركيون التوصل إلى حل بعد التفاوض، على أن يكون عبارة عن اتفاق يشمل حركة "طالبان" وعناصر من "التحالف الشمالي" القديم في آن، لكن من المتوقع ألا تنجح هذه الخطة، بل ستواجه أفغانستان حرباً أهلية، تماماً كما حصل بعد الانسحاب السوفياتي في عام 1989.إذا حدث ذلك، فسيستحيل على الوكالات الإنسانية أن تمارس نشاطاتها كما يجب، وستفيض التقارير عن المجازر والأعمال الوحشية المشينة في أنحاء البلد، وستعجز القوى الغربية حينها عن فعل أي شيء عدا الشعور بالقلق وترقب الوضع، وبعد ذلك، سيسود وضع من المراوحة على الأرجح، وفي نهاية المطاف سيسيطر أسياد الحرب على أجزاء كبيرة من البلد، وسيتحكم كل واحد منهم بجزء من الجيش الوطني الأفغاني.في مطلق الأحوال، من المستبعد أن تنجح خطة أوباما الغامضة التي تمتد ثلاث سنوات، وبالنسبة إلى الأفغان، ما من حوافز جدية- عدا الأموال النقدية- يمكن أن تقنعهم بالولاء للأميركيين والبريطانيين بعد مغادرتهم، فهم مُجبرون على ضمان مستقبلهم، ومن المتوقع أن يستقيل قريباً الرئيس كرزاي- الذي يواجه راهناً تهماً بالاحتيال المصرفي- وأن يهرب من البلد مع الأموال الطائلة التي سرقتها عائلته.في غضون ذلك، ستُجبَر بعض الحكومات، مثل بريطانيا التي لا يزال جيشها ناشطاً داخل أفغانستان، على الإجابة عن السؤال الشائك التالي: لماذا نرسل أشجع وأفضل الشبان كي يتعرضوا للأذى ويُقتلوا ما دمنا سننسحب في جميع الأحوال؟ لا تزال الحادثة المرعبة التي طالت البريطانيين في قصر البصرة، في الأشهر الأخيرة، حية في الذاكرة ولابد من تجنب تكرارها، وبغض النظر عمّا يزعمه جنرالاتنا الذين فقدوا مصداقيتهم، لن يتغير الكثير خلال السنوات الثلاث المقبلة، ولن يتحول الوضع نحو الأفضل.سيزيد تورط تلك الدول التي تملك مصالح حقيقية في المنطقة على المدى الطويل وستكتسب حق التدخل (منها الصين، وإيران، وروسيا، وعلى رأسها جميعاً باكستان). ما من قوة على وجه الأرض تستطيع منع الحكومة الباكستانية من دعم حركة "طالبان" الأفغانية، وقد فات الأوان كي تدرك بريطانيا والولايات المتحدة هذا العامل الجوهري.إلى أين ستصل الولايات المتحدة إذن بعد هذه الإهانة الأخيرة؟ توقع الكثيرون أن الهزيمة في فيتنام كانت تساوي نهاية العصر الأميركي، لكن سرعان ما ثبت أنهم كانوا على خطأ وعادت الولايات المتحدة لتحقق نجاحاً مبهراً على المستوى العالمي خلال فترة مهمة من الزمن، لكن يجب أن نتذكر أن نيكسون وكيسينجر لعبا ورقة مهمة بكل براعة تزامناً مع تراجع قوة فيتنام، فعقدا السلام مع الصين، واستعملاها كحليف ضد روسيا السوفياتية، وعملا على انفتاح هذه الدولة المنغلقة على الرأسمالية الدولية.يمكن تقييم العواقب في كتب التاريخ: إنه أعظم تقدم شهده العالم على الإطلاق، وفق جميع المعايير، وهكذا عادت الولايات المتحدة لتفرض هيمنتها طوال جيل كامل، لكن ها قد انتهت تلك الحقبة السعيدة الآن، فلا تشعر الصين بأي امتنان تجاهها وقد تحولت بين ليلة وضحاها من دولة تابعة إلى خصم عدائي، مع تجاهل وقائع ميزان القوى العالمي.لا شك أن الولايات المتحدة لا تزال أعظم قوة عسكرية على وجه الأرض، فهي تملك ثلاثة ملايين عنصر عسكري وسبعة أساطيل عسكرية عظيمة، إلى جانب إمكانات تفوق مجموع 13 قوة بحرية تليها من حيث الحجم، غير أن الدرس المؤسف الذي تعلمناه من تجربتي العراق وأفغانستان هو أن القوة العسكرية الهائلة تكون غير نافعة عملياً في حروب القرن الحادي والعشرين.طرح وزير الدفاع المرتقب ليون بانيتا حلاًّ للوضع وشرحه خلال جلسة الاستماع في مجلس الشيوخ في وقت سابق من هذا الشهر- من أجل منح طاقم العمل العسكري الأميركي توجيهات وكالة الاستخبارات المركزية، كي تبقى عملياته سرية ومن دون محاسبة– لكن يُعتبر ذلك الحل تشاؤمياً وغير دستوري.في عام 1974، بينما كانت الولايات المتحدة تستعد لمغادرة فيتنام، كان عجزها الوطني قد وصل إلى 6.1 مليارات دولار، أي ما يساوي 27 مليار دولار اليوم، ويبلغ العجز في السنة الراهنة 1660 مليار دولار، أي أعلى من المعدل السابق بستين مرة. كما أنه في عام 1974، بلغ حجم الدين الأميركي 475 مليار دولار (يساوي حوالي 1.8 تريليون دولار اليوم).وفي الفترة الفاصلة بين الحقبتين، ارتفع ذلك الدين بسبعة أضعاف ووصل إلى 14 تريليون دولار تقريباً، بعد أن تضاعفت قيمته خلال السنوات السبع الأخيرة فقط، وسيكون الانسحاب من أفغانستان أحد التداعيات غير المتوقعة لهذه الأزمة المالية.يسود شعور عام بأن الهزيمة الأفغانية كانت مقصودة حين فاز باراك أوباما بالانتخابات الرئاسية في عام 2008، بعد أن تعهد بوضع حد لمقاربة "الحرب على الإرهاب" غير النافعة التي وضعها جورج بوش الابن وطوني بلير. لقد نفذ أوباما وعده الآن، وتقضي مهمته التالية بإدارة تلك الهزيمة، إذ إن الأخطر من هزيمة الولايات المتحدة عسكرياً في أفغانستان كانت هزيمتها على المستوى الأخلاقي، فقد تصرفت مجدداً بطريقة مشينة، مع ازدراء تام بحقوق الإنسان، كما يفعل ألد أعدائها، ويجب أن يعيد أوباما جمع الولايات المتحدة تحت راية القيم المتحضرة وأن يعيد تحديد دور بلاده في العالم.لقد اختفت بقية المظاهر المألوفة التي سادت في حقبة ما بعد الحرب، ولم تعد الولايات المتحدة قادرة على تأدية دور الشرطة التي تحرس العالم، وقد تعود إلى عزلتها التاريخية. في المقابل، بدأت أزمة الديون تفسد الحلم الأوروبي، وها هو التاريخ يتحرك بوتيرة سريعة أكثر من أي وقت مضى، ما سيقودنا إلى عالم جديد لا معالم محددة له.
مقالات - Oped
بالهروب من أفغانستان... العالم سيفلت من قبضة الغرب!
29-06-2011