المحرك الخفي لثورات الربيع العربي... عبر مواقع التواصل الاجتماعي

لم يقد أي من لينين أو تروتسكي الثورتين اللتين أطاحتا بالرئيسَين المصري والتونسي في يناير وفبراير من هذا العام، لكنّ شخصين غامضين يحملان لقبي «فيتوس» و{واترمان» ومنظّمتهما «تكريز»، أدوا دوراً كبيراً ومهماً في الكواليس. ساهمت مجموعات عدة في الإطاحة بالرئيس التونسي زين العابدين بن علي، بعدما أمضى في الحكم 23 سنة، من بينها: الطلاب، الاتحادات العمالية، المحامون، الناشطون في مجال حقوق الإنسان، المنشقّون، وذلك عبر شبكة الإنترنت. تملك «تكريز» علاقات مع هذه الفئات، إلا أنها تصبّ تركيزها على الشباب المهمشين، الذين يشكّلون دم ثورات شمال أفريقيا، الذي غالباً ما يُراق.

Ad

Technology Review ألقت الضوء على هذه المجموعات...

لم تبقَ ثورة الشباب حكراً على تونس ومصر، بل امتدت لتشعل المنطقة بأكملها. ولا شكّ في أن الربيع العربي أو الصحوة العربية ستعتمل لسنوات وسيخصص كثيرون الوقت والجهد، طوال عقود، لتفحص استراتيجيات الإنترنت وغيرها من السبل، التي اعتمدتها «تكريز» ومجموعات أخرى.

بدأت «تكريز»، وفق منشئيها، كـ{منظّمة فكرية على الإنترنت» عام 1998، ومع أنها تحوّلت إلى شبكة تضمّ بضعة آلاف، قلما يتعاون ناشطوها مع الإعلاميين ويحرصون على إبقاء هويتهم سراً. تحمل كلمة «تكريز» بحد ذاتها معاني عدة، فهي كلمة عامية تعني مشاعر الغضب المتأججة، لكن ما تصفه صحيفة Le Monde بـ{تفاهات هذه المجموعة الوقحة» يخفي عملها المحترف.

يعمل فيتوس، شاب نحيل الجسم صوته جهوري، مستشاراً في مجال التكنولوجيا، وهو حائز شهادة ماجستير في إدارة الأعمال ويجيد ست لغات، ويتنافس مع صديق طفولته واترمان، رجل ضخم إنما خجول بعض الشيء يتمتع بموهبة الكتابة. تغلغلت «تكريز» في دهاليز النظام بسرعة، وظلّت فيها حتى بعد الثورة، ومع أن ناشطي هذه المنظّمة تعرضوا للملاحقة والنفي طوال سنوات، إلا أن كثراً منهم يدخلون بلدهم متخفّين.

على رغم سقوط بن علي، تعتبر هذه المنظمة أن الوضع لم يتبدّل، لأن الفساد ما زال متفشياً في الحكومة الموقتة التي تدير البلاد، وينطبق الأمر عينه على سائر دول المنطقة، إذ تأبى الأنظمة القديمة التخلّي عن الحكم، مع أنها عاجزة عن تلبية طلبات الشباب السياسية والاقتصادية. يشكّل هؤلاء ثلثي سكان المنطقة، وتصل نسبة البطالة بين هذه الشريحة إلى 24%، لكن التطوّر التكنولوجي في عالم الإعلام (من المحطات الفضائية والهواتف الخلوية إلى موقعَي Facebook وYoutube) أخلَّ بحسابات الأنظمة.

العمل في الخفاء

ركّزت «تكريز» اهتمامها، في البداية، على أهداف بسيطة، مثل حرية التعبير والقدرة على ولوج الإنترنت بكلفة معقولة. اعتبر واترمان الإنترنت الخيار الأمثل عام 1998، لأن بن علي كان يسيطر على وسائل الإعلام الأخرى. أما فيتوس، المسؤول الأعلى عن المسائل التكنولوجية في «تكريز» وأحد قراصنة الإنترنت الماهرين، فرأى فيها الأمان، بعيداً عن جواسيس النظام ورجال أمنه.

سرعان ما لفتت هذه المجموعة انتباه النظام، فأقفل موقعها على الإنترنت في أغسطس (آب) عام 2000، لكن حلّت محلّها مواقع أخرى، مثل SuXydelik، الذي أنشأه ناشط في «تكريز» يُدعى ساكس، وTuneZine الذي أسّسه ناشط آخر يُعرف بالتونسي.

بفضل موقع TuneZine اكتسب التونسي شهرة واسعة في تونس، ما أدى إلى اعتقاله وتعذيبه. وفي عام 2003، نال جوائز عدة من مركز «بان أميركان» ومجموعة «مراسلون بلا حدود»، وعندما أُطلق سراحه، كانت حالته يُرثى لها. قصد التونسي سويسرا في الفترة التي سبقت استضافة بن علي القمة العالمية لمجتمع المعلومات، مخاطرة بدت في رأيه ضرورية، لكن قبل موعد هذه القمة ببضعة أشهر أصيب بذبحة قلبية أودت بحياته وهو في السابعة والثلاثين من عمره.

اعتُقل أعضاء «تكريز» وهُددوا بالقتل مراراً، إلا أن الاضطهاد الذي تعرّض له التونسي أثّر عميقاً في تونسيين آخرين، منهم رياض قرفالي، بروفسور في الحقوق يُعرف باسم أستروبال. أسّس قرفالي مع سامي بن غربية، منفي تونسي، مدوّنة «نواة»، وابتكرا أساليب لاستخدام الوسائل التكنولوجية في فضح انتهاكات النظام التونسي وتعدّياته.

نجحت «تكريز» أيضاً في إقامة علاقات قوية مع محبي كرة القدم، إذ يشكّل المسجد وملعب كرة القدم متنفّسين للشباب في الشرق الأوسط، وفق جيمس دورساي، من كلية راجاراتمان للدراسات الدولية في جامعة نانيانغ للتكنولوجيا في سنغافورة. يوضح دورساي: «لا يفجر محبو كرة القدم مركز التجارة العالمي، بل يخوضون معارك ضد رجال الشرطة».

أدركت «تكريز» إمكان الاستعانة بمحبي كرة القدم خلال حضور فيتوس وساكس وغيرهما من ناشطيها مباراة لكرة القدم عام 1999. فقد انتهت هذه المباراة بأعمال عنف تسببت بجرح العشرات ومقتل البعض. نتيجة لذلك، أنشأ ساكس منتدى على شبكة الإنترنت لمشجعي الأندية التونسية ترعاه مجموعة «تكريز». هكذا، بدأ التعصّب لكرة القدم يتّخذ منحى سياسياً، وامتدت هذه الموجة إلى مصر والجزائر وليبيا والمغرب. عندما اندلعت الثورة، خرج هؤلاء الشباب إلى الشارع للمشاركة في مباراة مختلفة، إذ سرعان ما تحوّلوا إلى قوة ضاربة من الرعاع العنيفين.

التمارين

في عام 2008، اندلعت تظاهرات في منطقة قرب مدينة قفصة التونسية بسبب الفساد وظروف العمل المأساوية، وانتهت بعد ستة أشهر عندما فتحت قوى الأمن النار على المتظاهرين، فقتل شخص وجرح 26 آخرون. كان من الصعب استغلال هذه الأحداث، خصوصاً بعدما عزلت القوى الأمنية المنطقة، غير أن «تكريز» أرسلت بعض نشطائها جنوباً في محاولة لتوطيد العلاقات مع الاتحادات العمالية.

على نحو مماثل، شهدت مصر عام 2008 تظاهرات نفّذها عمال النسيج في دلتا النيل، فحاول أحمد ماهر، مهندس مدني وناشط في السابعة والعشرين من عمره، دعم هذه التظاهرات بتنظيم المزيد منها في القاهرة وإطلاق حملة مقاطعة وطنية. اعتمد الناشطون المصريون أولاً على توزيع الدعوات والمدونات والمنتديات الإلكترونية، لكن حين أنشأوا صفحة على Facebook، فوجئوا بأن عدد معجبيهم يزداد بنحو 3 آلاف يومياً.

بعد مرور شهر على تظاهرات 6 أبريل (نيسان)، اعتُقل ماهر، ضُرب وهُدد بالاغتصاب، لكن عند إطلاق سراحه عقد مؤتمراً صحافياً أعلن فيه إطلاق «حركة السادس من أبريل»، هكذا تحولت إلى قلب الحركة الشبابية العلمانية في الانتفاضة المصرية.

لجأ قادة «حركة السادس من أبريل» بادئ الأمر إلى الدراسة، فأسسوا أكاديمية التغيير، مجموعة عربية على شبكة الإنترنت دعت إلى العصيان المدني السلمي، استوحوها من «أبتر»، حركة شبابية أسّست بالتعاون مع الثوري الصربي إيفان ماروفيتش الذي أنشأ مركز الاستراتيجيات والأعمال التطبيقية اللاعنفية (كانفاس) ودرّب ناشطين من أكثر من 50 بلداً، وقد أرسلت «حركة السادس من أبريل» محمد عادل للتدرّب في هذا المركز في صربيا، فعاد ومعه كتاب عن المناورات السلمية ولعبة بعنوان A Force More Powerful تتيح للناس المشاركة في سيناريوهات أعدّت لتغيير النظام، فأعدت «حركة السادس من أبريل» نسخة عربية منها واستخدمتها لتدريب ناشطيها.

في تلك الفترة، ازدادت رقابة بن علي على الإنترنت في تونس، فأُقفل موقعا Dailymotion و2007iYouTube ، كذلك، فُرضت رقابة مشددة على الرسائل الإلكترونية وأقفل موقع Facebook بحد ذاته لأسبوعين. ومع اقتراب موعد الانتخابات الوطنية، كان حوالى 800 ألف مواطن يستخدمون الشبكات الاجتماعية على الإنترنت (حين فرّ بن علي بعد نحو سنة، بلغ هذا العدد 1.97 مليون مستخدم).

شكّلت إعادة انتخاب بن علي القشة التي قصمت ظهر البعير في رأي «تكريز»، فأجّجت النار في ملاعب كرة القدم ووصفت المعارضة بالخجولة وحضّتها على التحرّك. يوضح واترمان: «كان علينا أن نصعق الناس ليتخذوا هذه الخطوة الأخيرة».

لم تألُ «تكريز» جهداً لتحرِّك شرائح المجتمع، من التحليل السياسي وتسريب الوثائق إلى الكلام المبتذل ولغة الشارع ففقدت، نتيجة لذلك، حظوتها لدى التونسيين الأثرياء. أحيت «تكريز» الذكرى العاشرة لإقفال موقعها على الإنترنت بنشرها صورة لأحد نشطائها يبوّل على صورة لبن علي. كذلك، خرّبت هذه المجموعة مبادرة بن علي في الأمم المتحدة: «2010 السنة الدولية للشباب: الحوار والتفاهم المتبادل».

علاوة على ذلك، استغلّت «تكريز» خوف بن علي من حدوث انقلاب، فأسست موقع KamelMorjane.com على الإنترنت ونشرت فيه صوراً لكامل مرجان، وزير الخارجية التونسي، وهو يلتقي قادة عالميين، وتعمدت «تكريز» اختيار صورة لا يظهر فيها بن علي أو صورته لإثارة ريبة الرئيس.

رمزان

شهد صيف 2010 انطلاق الثورة المصرية، ففي 6 يونيو، أخرج رجال شرطة بثياب مدنية خالد سعيد، مبرمج كمبيوتر، من مقهى للإنترنت في مدينة الإسكندرية، وضربوه حتى الموت. توضح عائلة سعيد أنه كان يملك أشرطة مسجّلة لرجال شرطة يتاجرون بالمخدرات وأن السلطات خشيت أن يحمّل هذه الأشرطة على YouTube أو Facebook.

تحوّل سعيد إلى رمز للثورة، بعدما نُشرت صور لجثّته مشوّهة على الـFacebook، فأنشئت مجموعة «كلنا خالد سعيد»، التي تضمّ اليوم نحو 1.5 مليون عضو. وعندما شاهد حسن مصطفى الصور على هاتفه الخلوي، دعا فوراً على صفحته على الموقع نفسه إلى تظاهرة أمام مركز الشرطة، فاعتُقل نحو 12 متظاهراً وتعرّض العشرات للضرب وسُجن مصطفى لاحقاً ستة أشهر. يعتبر أحمد ماهر الناشط مصطفى «رجلاً يعادل بنشاطه حركة كاملة»، كانت نيران الثورة تتأجج طوال الصيف الحارق نتيجة الأزمة المالية العالمية وارتفاع أسعار الطعام، خصوصاً خلال شهر رمضان.

بعيد الانتخابات البرلمانية المصرية، اندلعت نيران الثورة التونسية، ففي 7 ديسمبر أضرم محمد بوعزيزي، بائع خضار فقير، النار في نفسه في منطقة سيدي بوزيد احتجاجاً على الذلّ الذي تعرض له على يد رجال الشرطة، وجوبهت التظاهرات السلمية بالعنف والقوّة وأشعل موت بوعزيزي جيوب المقاومة المعزولة.

يذكر الصحافي هيثم المكي، الذي أعدّ برنامجاً تلفزيونياً عن مجتمع الإنترنت في تونس: «أدرك الناس أن هذه مرحلة مفصلية. كان عليهم النزول إلى الشارع». اتصل أحد ناشطي «تكريز» في سيدي بوزيد بفيتوس، ومع أن هذا الأخير لم يكن يعرفه سابقاً، إلا أنه وثق به، وقرّر قادة «تكريز» إرسال عدد من ناشطيهم إلى المنطقة قبل أن يعزلها بن علي، كما حدث سابقاً.

يقطن هذه المنطقة البعيدة عن ثراء العاصمة والمدن الممتدة على الساحل أناس أشداء ذوي إرادة صلبة. اعتاد المتظاهرون والرعاع التركيز على مسائل، مثل البطالة، غير أن «تكريز» وجّهتهم هذه المرة نحو هدف أهم: الإطاحة ببن علي.

قنابل المولوتوف والقتال

يروي فيتوس أنهم نزلوا إلى الشارع بشكل يومي ليجمعوا المعلومات، يلتقطوا الصور، ينظّموا التظاهرات ويشاركوا فيها. عقدت هذه المجموعة أيضاً اجتماعات في تونس وخارجها واستخدم ناشطوها برنامج Mumble للتواصل ووزعوا التقارير لإبقاء زملائهم على اطلاع على ما يدور في البلد وحاولوا جمع المعلومات، تخطّي الرقابة، ونشرها على الـ Facebook. أما على الأرض، فساهموا، وفق فيتوس، «في إعداد قنابل المولوتوف وغيرها». عندما نشرت «تكريز» شريط فيديو يُظهر طريقة صنع هذه القنابل على شبكة الإنترنت، اعتقد كثيرون أنها تخطت حدود المعقول، إلا أن فيتوس مقتنع بأن السبل السلمية ما كانت لتطيح ببن علي.

في 22 ديسمبر، قتل حسين فلحي، متظاهر في سيدي بوزيد، نفسه بالكهرباء بعدما صاح: «لا للبؤس، لا للبطالة». وبعد يومين، أُردي متظاهر قتيلاً بالرصاص، ومع تفاقم المشاكل، حاول النظام سرقة كلمات سر صفحات الـ Facebook. وبعد تظاهر الآلاف في تونس العاصمة، أقال بن علي مسؤولين محليين ووزراء وزار محمد بوعزيزي في المستشفى، لكنه خاطب الأمة مهدداً بمعاقبة المتظاهرين.

في 30 ديسمبر، توفي متظاهر أصيب برصاص قوى الأمن، وعندما تجمّع المحامون للاحتجاج على تصرفات الحكومة المجحفة، ضُربوا. وفي 2 يناير، هاجمت مجموعة القرصنة Anonymous مواقع الحكومة في ما عُرف بـ»عملية تونس»، ومع بداية السنة الدراسية، انطلقت التظاهرات الطالبية، وفي 4 يناير مات بوعزيزي متأثراً بجراحه، فحضر 5 آلاف شخص جنازته في اليوم التالي.

في 6 يناير، ردّت الحكومة على تحركات المعارضين، فاعتقلت صلاح الدين كشك، ناشط بارز وبطل كمال أجسام سابق ينتمي إلى حزب القراصنة التونسي. كذلك، أوقفت حمادة بن عمر (الجنرال)، الذي أدّى أغنية «ريّس البلاد»، ولاقى ناشط الإنترنت سليم أمامو المصير نفسه. في اليوم التالي، أضرب 95% من المحامين التونسيين، وبعد يوم حذا الأساتذة حذوهم، وفي اليوم التالي، بدأت المجازر.

من تظاهرات إلى ثورات

خلال الأيام الخمسة التي تلت 8 يناير، قُتل الناس أثناء التظاهر في مدن عدة، خصوصاً في «القصرين» و{تالة» في الداخل الفقير، هكذا تحوّلت التظاهرات إلى ثورة بكل معنى الكلمة، ولعلّ الأكثر تأثيراً كان مشهد الفوضى في مستشفى «القصرين» والمحاولات اليائسة لمعالجة الجرحى والشاب الملقى ميتاً بعدما أصيب في رأسه.

كان لهذا الشريط المصوّر تأثير بالغ في مجرى الثورة، يُقال إن طالباً في كلية الطب التقطه على رغم معارضة الطبيب وإن «تكريز» هرّبته عبر الحدود إلى الجزائر بغية نشره على الإنترنت، ثم أرسلته إلى محطة «الجزيرة»، التي نجحت في الوصول إلى أناس لا يستخدمون

الـ Facebook.

صحيح أن الشارع افتقر إلى التنظيم والاستراتيجية، إلا أنه عوّض عنهما بالبسالة والشجاعة، فعندما كان أحد سكان الحي يُقتل، كان جيرانه ينزلون ويحرقون شيئاً ما، وفق فيتوس، وفي اليوم التالي، تُقام الجنازات، فيطلق رجال الشرطة قنابل الغاز ما يحمل الناس على النزول مجدداً إلى الشارع، وفي الليل تنطلق التظاهرات ثانيةً.

دور الـ Facebook في الشارع

يعتبر فيتوس أن الشارع ركن الثورة، لكن إن أضفت إليه الـ Facebook، تصبح إمكانات نجاحها أكبر. خلال الثورة، وصل عدد أصدقاء «تكريز» على هذا الموقع إلى 10 آلاف، ولم يعد الناس يخشون التعبير عن إعجابهم بموقع أو صفحة ما على الإنترنت. يصل عدد أصدقاء «تكريز» راهناً إلى 70 ألفاً، مع أنها تنتقد الحكومة الانتقالية، التي لا تتردد في فرض الرقابة على موقع هذه المجموعة.

عندما بلغت الثورة أوجها، أدرك أعضاء «تكريز» أن الوقت حان للنزول إلى الشارع والقتال، وفق فيتوس. في تلك الفترة لقي العشرات حتفهم وأصيب المئات. أدرك أعضاء «تكريز» أن عليهم الصمود في الشارع، لأن بقاء بن علي يعني موتهم. أراد الثوار تأجيج الغضب كي ينزل الشعب بأسره إلى الشارع وسعت «تكريز» إلى حمل الشرطة على الاستسلام، فحمّلت صوراً لمراكز الشرطة المحترقة على

الـ Facebook، لكنّ كثيرين من قوى الأمن رفضوا الاستسلام وأداروا سلاحهم في وجه الشعب، فيما كان القناصون يصطادون الأبرياء من على سطوح المنازل، علماً أن الحكومة اليوم تنفي ذلك.

في 13 يناير، قام بن علي بمناورة أخيرة، فاقترح التنحّي عن السلطة عام 2014، ومع أن المعارضة قبلت بهذا العرض، إلا أن «تكريز» رفضته بشدة، فحمّلت على موقع KamelMorjane.com رسالة استقالة مدوّنة بعناية، فأخذتها وسائل إعلام عالمية وتونسيون كثر على محمل الجدّ.

في اليوم التالي، نزل حشد كبير إلى شوارع العاصمة في تونس. أملت «تكريز» في الاستيلاء على وزارة الداخلية، لكن مع انهمار قنابل الغاز، تفرّق الحشد، مع ذلك لم يتراجع أعضاء «تكريز» وتوجّهت مجموعة منهم إلى القصر الرئاسي، غير أن بن علي كان قد فرّ إلى المملكة العربية السعودية، فلقي ثلاثمئة تونسي حتفهم.

عند انتشار خبر سقوط بن علي، غمرت الفرحة حسن مصطفى، الذي بدأ يرسل إلى أصدقائه عبارة: «رحل بن علي. ثمة فرصة»، وأدرك الجميع ما يقصد. حاول مصطفى التقرّب من أعنف المجرمين الذين التقاهم خلال سجنه بسبب مهاراتهم في سرقة خوذات رجال الأمن وأسلحتهم، فشكّل منهم جيشاً خاف منه مبارك، وفق مصطفى.

يدرك مصطفى الدور البالغ الأهمية الذي أدته التكنولوجيا في الثورات، يوضح: «قبل ثورة المواقع الاجتماعية، كنّا مجرد أفراد منعزلين ومحجوزين كل واحد في جزيرة منفصلة، لكن وسائل الإعلام الاجتماعية أقامت الجسور بيننا». ويتذكّر أن «حركة السادس من أبريل» اعتادت نشر المعلومات على الـ Facebook وتذييلها بعبارة «أنسخ، أنشر، وزِّع». كذلك، استخدمت الرسائل على الهواتف الخلوية للدعوة إلى التظاهر.

في حي كرموز في الإسكندرية لا أحد يستخدم

الـ Facebook، إلا أن الجميع تلقوا رسائل على هواتفهم، دعا بعضها إلى التظاهر، في حين حدّد بعضها الآخر أماكن التجمّع، وأرسل معظمهم المعلومات التي تلقوها إلى آخرين.

علاوة على ذلك، تلقى كثيرون رسائل إلكترونية تُظهر كيفية التعامل مع الجيش. ويؤكد ناشطون في منطقة بنزرت التونسية أن الثوار المصريين طلبوا مساعدتهم عبر الـ Facebook. ويوضح فيتوس أن ثمة استراتيجيات اعتمدوها مستمدة من مجموعات احتجاج دولية، مثل Indymedia أو CrimethInc. على سبيل المثال، تعود تقنية ارتداء المتظاهرين الأسود إلى ألمانيا عام 1980.

كذلك، استخدم الناشطون المواقع الاجتماعية لخداع قوى الأمن، فاعتادوا تحديد موعد الاجتماع وموقعه على الإنترنت، ليبدلوهما في اللحظات الأخيرة عبر الهاتف. أما على الأرض، فحاول جيش مصطفى عرقلة الشرطة بالتظاهر دوماً في الأحياء الفقيرة، وقد أصيب مصطفى بطلقة نارية في بطنه فيما كان يحاول اقتحام مركز للخدمات العامة للحؤول دون تلف المستندات، لكنه تعافى اليوم.

يخبر قطب حسنين، ناشط من الإسكندرية، أن القراصنة في هذه المدينة حاولوا اكتشاف نقاط الضعف في

الـFacebook ووسائل الإعلام الاجتماعية، فاتخذ القيّمون على هذا الموقع خطوات إضافية لحماية صفحات الناشطين المصريين، حسبما ذكر ريتشارد ألن، أحد المدراء التنفيذيين في الموقع.

تُعتبر «كلنا خالد سعيد» أهم صفحة مصرية على

الـFacebook. قبيل الثورة، سافر وائل غنيم، القيّم عليها، من منزله في دبي إلى مصر، فاختطفته قوى النظام واعتقلته طوال 11 يوماً. وبعيد إطلاق سراحه، ظهر على شاشة Dream TV المصرية وقال: «لست بطلاً، فقد اكتفيت باستخدام لوحة مفاتيح الكمبيوتر. الأبطال الحقيقيون هم مَن نزلوا إلى الشارع»، وبكى لدى عرض صور على الشاشة لمتظاهرين قتلوا، هكذا تحوّل إلى رمز من رموز الثورة. يذكر أحمد ماهر: «ساهم غنيم في الترويج للثورة عبر الوسائل الرقمية، فيما عملت أنا على الأرض».

محاربة الخوف

أدى محبّو كرة القدم دوراً بارزاً في الثورة المصرية أيضاً، ففي 24 يناير، ظهرت على موقعَي ناديي الأهلي والزمالك (أكبر الأندية المصرية) رسالة جاء فيها: «لا نتدخّل في السياسة ولا نشارك كمجموعات في ما يحدث. أما أنتم كأفراد، فيمكنكم أن تفعلوا ما يحلو لكم». وكان مغزى هذه الرسالة واضحاً، فقد دعت محبّي كرة القدم الى الوقوف في وجه النظام.

يذكر جيمس دورساي أن عشاق كرة القدم نجحوا في تنظيم التظاهرات في ميدان التحرير في القاهرة. صحيح أن التكنولوجيا والمواقع الاجتماعية أنزلت الناس إلى الشارع، إلا أن التظاهرات افتقرت إلى التنظيم والخبرة، أمران تمتّعت بهما جماعة الإخوان المسلمين وفرق مشجّعي الأندية الرياضية، وفق دورساي.

لا يمكننا فهم الخوف الذي اختبره المتظاهرون ما لم نعشه. تخبر أسماء محفوظ، متظاهرة في السادسة والعشرين من عمرها، أنها تحارب خوفها بالإيمان. قبل أسبوع من 25 يناير، نظّمت تظاهرة في ميدان التحرير، لكن لم ينضم إليها سوى ثلاثة مصريين، قبل أن تعتقلها شرطة مكافحة الشغب. عندما أطلق سراحها كانت تستشيط غضباً، فنشرت على شبكة الإنترنت شريط فيديو، ذكرت فيه: «إن كنت تظن أنك رجل، فانزل معي في 15 يناير... تعالَ احمني أنا والفتيات الأخريات في التظاهرة... لن يؤدي الاكتفاء بالجلوس في المنزل ومتابعة الأخبار عبر محطات التلفزيون أو الـ Facebook إلا إلى مزيد من الذل».

ما زالت محفوظ تذكر دموع والدها حين كانت تهمّ بمغادرة المنزل في 25 يناير قاصدة ميدان التحرير. وفي الساعة الثانية، أخرج الناس المحيطون بها في الميدان الأعلام المصرية من تحت ملابسهم، فظنّت محفوظ أنها تحلم. في الإسكندرية، انتقلت حماسة المتظاهرين إلى المراسلين الإخباريين، فوظّف الناشطون قدرتهم على استخدام الأقمار الاصطناعية لإرسال شرائط مصوّرة إلى تونس، حيث كانت تحمَّل على شبكة الإنترنت. يعتبر حسنين قرار مبارك قطع الإنترنت طوال خمسة أيام «إجراءً غبياً»، لأن الناس الذين شعروا بأنهم مشلولون رقمياً، نزلوا إلى الشوارع لمعرفة ما يحدث من حولهم.

ثورة شبابيَّة

أشعل الربيع العربي جدالاً حامياً في الولايات المتحدة وأوروبا حول استخدام التكنولوجيا وأهميتها في تبديل الأنظمة القائمة.

يعرب كلاي شيركي، بروفسور في جامعة نيويورك، عن تفاؤله حيال قدرة التكنولوجيا على إحداث تغييرات في المجتمع. ففي كتابه Here Comes Everybody، يكتب: «عندما نبدّل طرق تواصلنا، نغير المجتمع». لكن الصحافي مالكوم غلادويل يخالفه الرأي، فيشدّد على فكرة أن الناس اعتادوا التظاهر وإسقاط الحكومات قبل وقت طويل من ابتكار الـ Facebook. وأحد أبرز المشككين في دور التكنولوجيا في الثورات الكاتب يفغيني موروزوف. ففي كتابه The Net Delusion: The Dark Side of Internet Freedom (وهم الإنترنت: الوجه الداكن لحرية الإنترنت)، يتحدّث عن «الاعتقاد الساذج بحرية التواصل عبر الإنترنت»، ويستند موروزوف في طرحه هذا إلى التجربة الفاشلة التي عاشها بلده، روسيا البيضاء.

عندما نتأمّل في ما قامت به «تكريز» وغيرها من المنظمات المماثلة والطريقة التي حققت فيها هذه الإنجازات، ندرك أن المناهضين لمواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من الوسائل التكنولوجية مجحفون في وجهة نظرهم هذه. فما كانت الأنظمة لتبذل مجهوداً جباراً لتراقب مستخدمي هذه الأدوات وتعتقلهم وتضربهم وتعذبهم وتسجنهم لو لم تدرك قوتهم الحقيقية، وهذا ما يدفع النظام المصري الجديد (المجلس العسكري الحاكم) إلى الاستمرار في سجن المدوّنين الشباب.

بما أن مستخدمي هذه الوسائل التكنولوجية ينتمون غالباً إلى فئة الشباب، فإنهم يضفون على الصراع من أجل التغيير طابعاً شبابياً حيوياً، لكن نزار بنماط (25 سنة)، أحد مؤسسي حركة 20 فبراير المغربية، يؤكد أن التاريخ يُكتب في الشارع. على غرار آلاف الشباب المغربيين، يشعر بالاستياء من النخبة الحاكمة الفاسدة في بلاده. يقول بنماط: «نتناقل عبر الـ Facebook وTwitter أخبار ما يحدث، إلا أن الشارع يبقى الأهم». ويشاطره فيتوس رأيه هذا، ويتمنى لو أن بن علي لم يسقط سريعاً لأن ذلك كان ليتيح لهم بناء علاقات أقوى في الشارع وتحسين تنظيم صفوف المتظاهرين.

أريقت دماء كثيرة، إلا أن التغيير الحقيقي ما زال بعيد المنال، فالأنظمة ما زالت على حالها على رغم سقوط رؤوسها، لكن صوت الشعب صار مسموعاً، فقد ظهرت روابط جديدة عبر الإنترنت وعلى الأرض، وعلا صوت شباب منطقة بأكملها. ما زالت براعم الربيع العربي صغيرة وتحتاج إلى عناية، لكن تصحّ هنا كلمات جورج واشنطن: «الحرية، متى تأصلت، تنمو بسرعة».