الذكرى المئوية لولادة جاكسون بولوك مرت في 28 يناير الفائت الذكرى المئوية لميلاد الرائد في الحركة التعبيرية التجريدية الرسام الأميركي جاكسون بولوك (1912 – 1956)، فاحتفل به المهتمون مثل عائلته وكثير من الكتاب والمواقع الإلكترونية، من بينها «غوغل».لا يمكن اختصار تجربة جاكسون بولوك التجريدية بعجالة عابرة، فهذا الفنان اشتهر بابتداعه تقنية «السّكب» كطريقة تهدف إلى تجسيد حركة الفنّان في إطار يتميّز ببعد علائقي متناغم بين جسد الفنان والفضاء: سيرورة تجسّد نبضات الفنّان أثناء حركته في علاقته بالأثر الذّي يحتوي الشّكل، وأشهر لوحاته كانت مرسومة بواسطة تنقيط الأصباغ ورشها على لوح جنفاص كبير.يعتبر بولوك أنّه «لا يحدث في اللوحة صورة وإنما حركة»، وكان يؤمن بأن الرسّام لا يلزمه أن يتمتّع بمهارات تقنية خاصّة وأن كل إنسان مهيّأ لأن يصبح رسّاما على طريقته. قد يجد البعض في لوحاته مجرد «شخبطة» بالألوان، في مقابل دراسات وأبحاث تتحدث عن فلسفة اللون فيها والحركة والتقنية الأسطورية. فهو كان يهدف، بحسب النقاد، إلى التعبير الفني بعيداً عن سيطرة الوعي. كان يحدث، عن طريق تحريك الفرشاة المحملة بالألوان، حركات عضلية عشوائية على سطح اللوحة فتنتج شخبطة أو بقعاً تعبر عن حالات انفعالية، ولا يتوصل إلى تحليلها إلا الخبراء في علم النفس والمتعمقون في مدارس الفن المعاصر.بيّنت الدّراسات الحديثة في كثير من العلوم، خصوصاً في الرّياضيّات، الطّابع القصدي والمنتظم في حركات لوحات بولوك، أهمّها دراسة قام بها العالم الفيزيائي ريشارلد تايلور في نهاية التسعينات، بيّن فيها وجود طابع نمطي متكرّر يقوم على بناء أساسه رياضي (كسري) Fractale ويعني ذلك تشكيليّا بأنّ طّابع بولوك البنائي يتميّز بتوالد الأشكال وفق معادلات كسريّة هندسيّة تولّد الشّكل فتجزّأ المساحة لتقسّمها إلى أجزاء يكون كلّ جزء منها نسخة من المجموع. ويمكن مشاهدة هذا البناء النمطي المتكرر في أشكال طبيعيّة كثيرة كأوراق الأشجار أو الجبال.جازبولوك، بحسب الكاتب المغربي عبد الكبير الخطيبي، دخل في تجربة حركية مطلقة باضطراباتها ودوخاتها وإشراقات ألوانها المشدودة إلى قوة الحركة. إنها لحظة وجْد ينبثق فيها كل شيء في حلم يقظة، في إيقاع وارتجال يذكر بحركية موسيقى الجاز، خصوصاً أن الجسد يقوي من دوره كوسيط بين الفنون... ودائماً، كان هناك من ينظر إلى لوحات بولوك التي تباع بملايين الدولارات اليوم محاولاً اكتشاف أنماطها وزخارفها الجميلة والمشاعر الدفينة التي قد تكون مخبّأة بين ثنايا خيوطها وأشكالها وألوانها الكثيرة.لم تأت هذه اللوحات التجريدية من فراغ، بل هي انعكاس لزمنها، فعندما رسمها بولوك، كانت أميركا في الخمسينيات لا تزال تعاني آثار الحرب العالمية الثانية ونتائجها وإرهاصات «الحرب الباردة». هذه من بين العوامل التي دفعت بولوك وأقرانه من الفنانين إلى التامّل في الواقع والنظر إلى الأشياء بشكل مختلف، وبدا أن الرسم التجريدي أحد أشكال المواقف الراديكالية من الواقع، وكان رواده يؤمنون بأن الفنّ التقليدي لم يعد قادراً على توصيل انفعالاتهم ومشاعرهم بما فيه الكفاية.لم يتبن بولوك التجريدية فحسب، بل ابتكر أسلوبه في طريقة الرسم ومكانه، فمن قبله كانت اللوحات تُرسم في المحترف على حامل تُسند إليه لوحة الفنان، تنشأ فكرتها وتُنفذ ويُنظر إليها في النهاية من اتجاه واحد، كما كانت الحال طيلة قرون. لكن بولوك بدأ يعمل على الأرض، على قماشة مفروشة بألوان شديدة السيولة متجاوزاً فكرة التأمل في الموضوع مسبقاً قبل تنفيذها على القماش، وأحياناً يسكب عليها الألوان من السلم. قال في هذه الإطار: «لا تنشأ رسومي على الحامل فنادراً ما تستطيل القماشة قبل عملية الرسم. أميل إلى أن أثبت القماشة المطوية إلى الحائط الصلب أو الأرضية. أكون في حاجة إلى رد فعل السطح الصلب. فأنا على الأرض أكثر تبسيطاً. أشعر أنني قريب وأكثر انتماء إلى اللوحة. بهذه الطريقة أستطيع الدوران حولها وأعمل من جوانبها الأربعة. حرفياً، إنني أكون «في» اللوحة... وهي مفتاح طريقة رسامي الرمل من هنود الغرب الأميركي»... هكذا يصف بولوك عام 1947 تقنيته في الرسم. وقبل شهرين من وفاته، صرح في مقابلة مع سيلدن رودمان بأن «الرسم يكون طريقاً إلى الكينونة»، وحول أمثال هذه الإشارات كتب المنظِّر في أعمال الرسم هارولد روزنبيرغ: «عند نقطة محددة، يعتبر الرسامون الأميركيون القماشة ميداناً خاصاً فعلاً بدلاً من الفضاء الذي يتطلب إعادة انتاجه ورسمه والتعبير والتحليل للشيء الواقعي مع المتخيل... هكذا لا تمكث القماشة طويلاً كمسند للصورة، لكن كحدث فاعل».فن إفريقيثمة جوانب كثيرة في حياة بولوك يمكن الكتابة عنها، فقد تأثّر بأنماط الفنّ الإفريقي وبرسومات الكهوف وفنون سكّان أميركا الأصليين. في بداياته، تعرّف إلى الفلسفات الشرقية وكان قبل ذلك شخصاً لا يهتم بالدين. لكن علاقته بالمعلّم الروحاني الهنديّ جيدو كريشنامورتي فتحت أمامه الباب واسعاً لتعلّم الأفكار والمفاهيم الروحية المعاصرة. يقال إنه بفضل بولوك وزميله مارك روثكو وغيرهما من رموز التجريدية الأميركية، أصبحت نيويورك تحتلّ مكانة باريس في كونها الحاضنة الأولى للفنّ الطليعي في العالم، وهذا ما لاحظه الرسام الأرمني أرشيل غوركي الذي ذكر أن معاصريه التشكيليين الأميركيين لم يفهموا النماذج الاوروبية التي كانوا يستوحونها ولم يدركوا أهمية أعمالهم نفسها، وجاء بولوك وغيره من تعبيريين تجريديين، مثل روثكو ودي كوننغ ونيومان، لإحداث انقلاب في هذا الوضع دافعين الفن التشكيلي الأميركي إلى الصدارة.لم تكن حياة بولوك الخاصّة سعيدة أو سهلة. فقد عانى كثيراً من نوبات الاكتئاب والإدمان على الكحول والتدخين بشراهة، وفي 11 أغسطس(آب) 1956 رحل في حادث سيارة عن عمر 44 عاماً وأصبح أسطورة التجريد الأميركي التي لم تكتمل.ولد جاكسون بولوك في مدينة كودي في ولاية وايومينغ الأميركية، ثم انتقل إلى نيويورك عام 1929 حيث تلقى الدروس على يدي توماس هارت بنتون. لا تزال لوحاته معروفة، وهي موجودة الآن في متاحف عدة في مختلف المناطق حول العالم. كذلك أنتج فيلم وثائقي حوله في عام 1951 (إخراج هانز ناموث)، وفيلم درامي عنه بعنوان «بولوك».
توابل
أسطورة التجريدي التي لم تكتمل!
02-02-2012