1

Ad

ستكون فترةً من الانتظار القاسي. هكذا قدَّر وهو يَعُدُّ على الأصابع الأيام التي تفصله عن موعدٍ عاش معه وفيه مدّةً طويلة. خمسة أيام ليست قليلة في حساب إنسانٍ لا يطيق الانتظار، والزمنُ النفسيّ غيرُ الزمن العادي، فهو لا يُحسب بالأيام والساعات والدقائق، ولا بالأحداث المعيشة والمشاهد المرئية والأخبار المسموعة. يُحْسَب بالكمّ الهائل من الخواطر والخيالات والأحلام والكوابيس والكلام الافتراضي الداخليّ الذي لا ينتهي. حين تتدفق هذه على الرأس، يصبح زمنُها في النفس أطول والشعورُ بها أثقلَ من أن يُحْمَل. جرَّب ذلك في الماضي القريب، في مناسبات منه لا يريد أن يذكرها الآن، ويخال أنه سيجرّبها ثانية بوطأةٍ أشدّ في الأيام الخمسة القادمة. عزاؤهُ الوحيد في المقارنة بين الحاليْن أنه عاش ما عاشه من انتظار من دون أن يعرف إذا كان لعذابه نهاية، وسيعيشه الآن وهو مطمئن إلى أن نهاية عذابه أزفت.

لا يُخطئُ عادةً قياس كثافة الشعور بالانتظار في نفسه؛ يعرفها جيدًا كما لا يعرفها فيه أحد، بل هي كثيرًا ما تلتبس على غيره ممّن يراه في مثل تلك الحال فيوحي مظهرُهُ للرائي بالسّلام الداخليّ والاطمئنان التام. وهو فعلاً كذلك يكون كلّما سكنه الشعور بالانتظار؛ يصبح أهدأ، ويميل إلى الصمت، ولا يبدو عليه شيء من عصبيةٍ أو اضطراب. هكذا، على الأقلّ، عاش تجربة الانتظار في العامين ونصف العام التي قضاها هناك: في عالم من الانتظار اللانهائي. وقد فَطُن مع الوقت إلى أن شيئًا ما تغيَّر فيه، مزاجيتُه باتت أقلّ، وعصبيّتُه أخفّ، ورغبتُه في الاختلاء بالنفس أعلى. شيء واحد ربّما لم يُصِبْه تغييرٌ في لحظات الانتظار: التدخين بشراهة، هذا هو الترمومتر الذي يقيس به كثافة ذلك الشعور في نفسه حين يداهمه. انتبهَ، وهو يُعدُّ «فراشه» للاستلقاء ويزيح منفضة السجائر القصديرية إلى جانب أنه دخَّن علبتيْ ماركيز خلال نصف يوم، منذ أخبره المحامي في نهاية الصباح أن إجراءات الإفراج عنه بدأت بعد أن وصل إشعارٌ بذلك من إدارة السجون في الرباط إلى السجن المدني في مراكش. ترى كم سيدخّن في الأيام المتبقية من سيجارة؟

تسعمائة يوم وأربعة عشر يومًا قضاها منفيًّا عن العالم والأهل، وفي كلّ يوم ليلة، وفي كلّ ليلة حكايةٌ تقمَّصَ فيها دور الراوي والمصغي. لكنّ شهرزاد فيه تروي في سرِّيّةٍ فلا يسمع صوتَها إلاّ شهريارُهُ الذي يلتقط بأذن سرّية. وفي كلّ يوم تختلف الحكاية، مرَّة مادَّتُها من الذاكرة، من الطفولة والصّبا وسنوات الجامعة، من أصوات الأهل وحوادث البيت والحيّ والمدرسة، ودهاليز الحبّ الصامت والمتكلّم، وثرثرات الرفاق في الجامعة والحزبيْنْ وساحة السجن. ومرّة تكون حوارًا مع النفس في كتاب قرأة أو خبر سمعه في الزنزانة وساحة السجن. وثالثة على صورة سيناريو رومانسي أو تراجيدي مُعدٍّ بإتقان لتَطرِيَةِ الفراغ وتمرين العزيمة على حبّ البقاء. لو أكمل تعليمه في الأدب الفرنسي لكتب رواية من وحي الأسْر وتجربة الموت البطيء فيه، لأفرغ فيها كل ذلك اللّهب الذي أوقده السجنُ في النفس، أو لَكَتَبَ على الأقلّ يوميات ذلك المنفى الذي قذفتْ به إليه الصدفة؟ نعم، بالصدفة سيقَ إلى الأسْر. لا يكفي أن يكون المرء عضوًا في حزب سياسيّ معتَرَف به كي يقع في الأسْر، ولا يكفي أن ينتمي إلى نقابةٍ يشرف عليها ذلك الحزب، ويحضر اجتماعاتها، كي يُلْقَى القبض عليه في ليلةٍ دامسة، ويُزَجَّ به في مخفَرٍ سريّ لشهور من دون أن يدريَ بمصيره أحد قبل نقله إلى سجنٍ وتقديمه إلى المحاكمة وإدانته. لا يحدث هذا في كلّ بلاد الدنيا، لكنه حدث له... في بلده.

محنته مع اعتساف السلطة وزبانية التعذيب أهونُ من محنة آخرين الْتَقَاهُم هناك بالصدفة حيث كان يقيم لأشهر: في مخفر الشرطة ثم في المعتقل السريّ. يتذكرهم ويتذكر ملامحهم وأسماءهم جيّدًا: العَرْبي، الحسين، الجيلالي، البودالي وآخرون. الحسين كان أشجعهم وأصْمَدَهم في مواجهة وجْبات التعذيب اليومية. ساقتْهم الصدفةُ وفوضى الاعتقالات الجماعية إلى المعتقل السرّي، أكثرهم من الدار البيضاء ما خَلا البودالي الذي جيء به من القنيطرة برفقته وثلاثة آخرين من معتقلي النقابة. يتذكّر كَمْ لَعْلَعَتْ أصواتُهم صراخًا تحت سياط التعذيب، وفي وجْبات مختلفة منه طيلة اليوم، من أجل انتزاع «الاعتراف» منهم بأنهم ينتمون إلى «الاتحاد الاشتراكي» و{الكونفدرالية الديمقراطية للشغل». لم يكن أحدٌ منهم ينتمي إلى أيٍّ من الجهتين، لكن الجلاوزة لم يفهموا من إصرارهم على إنكار «التهمة» سوى أنهم محترفون سياسون ورجالٌ جُلْدٌ إلى هذا الحدّ من التحمُّل والصمود. وكلّما زاد إنكارهم، زاد سُعَار الجلاّدين، وزادت شِدّتُهم وغِلْظَتهم والوحشيةُ في أبدان الضحايا. وباستثناء الحسين الذي تمسَّك بالإنكار، وكان يقابل وحشيتهم بالقذف والشتم بأقذع الشتائم، انهار الآخرون تحت التعذيب و{اعترفوا» بأنهم ينتمون إلى النقابة. فعلوا ذلك فقط كي يوقِفَ الجلاوزةُ جحيمهم، كي تستريح الأجساد من لسعة الموت. لم يكن ما لَقِيَهُ، هو ورفاقُه في الحزب والنقابة، من صنوف التعذيب قليلاً، لكنه كان قطعًا أقلّ مما عانى منه غيرُ المنتمين. لم يفهم جيّدًا سِرَّ هذا «الذكاء» الخارق لدى الجلاّدين ومَن يديرونهم: الشدّةُ على الأبرياء والْتماس ظروف التخفيف لِمَنْ اعترفوا بـ»تهمة» الانتماء! لعلّها عقدة الشعور بالقوة تلك التي تجعل الجلاّد مصرًّا على مَنْع المعتقل من الانتصار على «هيبته» بالصمتِ أو الإنكار؛ فحين تعترف، فأنت لا تقرِّر حقيقةً في نظر الجلاّد، بَل تفعل ذلك جُبْنًا وتسليمًا بعجزك من مواجهة جبروته. وحين تُنْكر، فأنت تتحدّاه وتُهين شعور التفوُّق لديه إذْ تستهين بقوّته. مع الزمن، أدرك أن الجلاّد مهزومٌ من الداخل، ويحتقر نفسه، ويُزري بكرامته الآدمية إذ يصطنع القوةَ ورباطةَ الجأش ويُفرِج عن حيوانيته ومنازعه الافتراسية.

2

تأخَّر في النوم تلك الليلة، على غير عادته، إلى الثانية والنصف بعد منتصف الليل. لم يستطع أن يقاوم الشعور بالضَّعف وقلّةِ الحيلة وهو يتحدث إلى والدته بالهاتف تُطْمَئِنُه على صحَّة أبيه بصوتٍ مكسورٍ هدَّهُ الحزنُ والتعب. كان يعرف تمامًا أنها تحاول جاهدةً أن تصطنع التماسُك والقوة لئلاّ تنال من معنوياته. وكان يعرف عن وضْع أبيه الصحيّ ما لا تعرف هي من أسرار، لكنه لم يكن يملك مثلها عزيمتَها الفولاذية ولا أملها في أن يتعافى الوالد ممّا هو فيه من بلاء عظيم؛ إيمانُها بالسماء وإيمانُهُ بالأرض، والفارقُ بينهما كبيرٌ في حساب الأشياء والنتائج. وحدها سميرة لا تستطيع أن تخفي شيئًا، دموعُها وصوتُها المتهدج المخنوق بالعبرات يسبقانها. طلبتْ منه ألا يصدّق ما تقوله الأمّ، وأن يعود على عجلٍ لأن أحوال الوالد ساءت أكثر. لم يكن في حاجة إلى إفادتها، فلقد كان في بيت الأهل قبل يومين ورأى بنفسه شمعةَ والدٍ على وشك الذوبان الكامل. وَعَدَ الصغيرةَ بأنه سيأتي غدًا ليلاً مهما تَكُن عواقب ذلك على عمله في البنك. أقفل السَّمَّاعة محاولاً ترتيب أفكاره وبرنامج الغد: الالتحاق بالعمل صباحًا وطلب رخصة سفر من مدير الوكالة البنكية بعد شرح الأسباب، أو: الذهاب رأسًا إلى الطبيب للحصول على رخصة طبية والإدلاء بها لدى إدارة الوكالة. لم يقطع بشيء، لكن مشهد الحِدادِ القادم لا محالة سيْطَر على تفكيره وأرهقه؛ أية أيام سوداء تنتظره وتنتظر الأسرة، ليته عثر على عمل في مراكش أو قريبًا منها بحيث يكون هناك في مثل الظرف العصيب من دون أن يضطر لأن يتوسَّل أحدًا أو يصطنع عذرًا من طبيب.

لم يكن قد خَلَدَ إلى النوم لأكثر من ساعة حين أيقظه جرسُ الباب، نهض منزعجًا ليرى من هنالك. لم يخطر بباله شيء سوى أن جاره أو حارس العمارة سيطلب منه خفض صوت التلفزيون الذي نسيَ إقفاله. فتح الباب ليجد أمامه ثلاثة من الوجوه الواجمة المكفهرّة تتطلع إليه بنظرات متوثّبة، وسرعان ما دخل الثلاثة من دون استئذان. قبل أن يستوعب الموقف، سأله الأسمر البدين ذو الشارب الأسود الكثّ: «أنت عليّ الزهراوي؟»، «نعم»، أجاب: «تفضل معنا». «إلى أين – تساءل- ومن أنتم؟»، لم يشعر إلاّ وقد هوى عليه أحدهم بصفعةٍ أذهبَتْ عنه بقايا دبيب النوم من رأسه وعينيه، قُيِّدت يداه إلى الخلف وعُصبت عيناهُ بعصّابة سوداء وسِيقَ من دون أن يأبه أحدٌ من الثلاثة بتوسّلاته لهم بأن يَدَعُوهُ يغيّر ملابس النوم. بعد أقل من خمس دقائق من تحرُّك السيارة، أنزلوه وأُخِذَ إلى مكانٍ لا يَعْرف سوى أنه في مدينة القنيطرة نفسها لقُرْب المسافة بينه والبيت.

لن ينسى الأيام الستة التي قضاها في زنزانة جماعية مع المجرمين في مركز الشرطة قبل التحاق رفيقيْه في الحزب، عبد الكريم وسعيد، به في اليوم السابع من اعتقاله وشخص ثالث لا يعرفه؛ كانت أيّامًا صعبة مع عددٍ من أصحاب السوابق الإجرامية ممّن خالوا عودَهُ طريًّا قبل أن يقدّم لهم درسًا في صعلكةٍ تَعَلَّم، قبل سنوات، بعضَ دروسها في مدرسةٍ للتكواندو بالرباط. انتزع توقير «رفاقه» المجرمين حين صَرَعَ اثنين من المتنطّعة في الزنزانة وأوْهَم الباقي بأنه ضابط شرطة في قسم مكافحة المخدّرات عوقب لتطاوله على رؤسائه. حين وَصَل رفيقاه، تَبلَّغَ منهم أن حملة الاعتقالات توسَّعت في المدن الكبرى والصغرى، وأن المئات من الاتحاديين والكونفدراليين وعامّة الناس سيقوا إلى مراكز الشرطة في الأسبوع الماضي منذ اندلاع حوادث يونيو، وأن بعض قادة الحزب والنقابة في جملة مَن طالتهم الاعتقالات المحمومة. وحين رَوَى له البودالي كيف جرى اعتقالُُهُ أمام مقرّ النقابة وهو ينتظر صديقته التي ضرب لها موعدًا هناك في السادسة مساءً، وهو لا يعرف شيئًا عن السياسة وعمّا يجري في البلد، أدرك أن الحزب ومناضليه على موعدٍ مع فترة عصيبة. وأن السلطة فقدت أعصابَها تمامًا وهي على استعداد لأن تجعل من اسم الحزب والنقابة شبحًا مخيفًا في كل مكان.