قبل سنوات، عثر زوجان من ميونخ على لوحة قديمة مثيرة للاهتمام في دار مزادات في ميونخ. وبعد شرائها، اكتشفا أنها لوحة أصلية لليوناردو دافنشي من مطلع القرن السادس عشر. ومنذ ذلك الحين، أنفقا مبالغ طائلة لإثبات ذلك من دون جدوى. عن تجربتهما تلك، تحدَّث هذان الزوجان الى «شبيغل». انهمرت دموع آفلين بوبنيك (64 سنة)، وسارع زوجها إينغو إلى مواساتها، قائلاً: «يا لك من مسكينة»، وطبع قبلة على رأسها. كان إينغو بوبنيك (70 سنة) يقف في غرفة الجلوس في منزله في بفافنهوفن، بلدة صغيرة في بافاريا، ولا يزال يحمل الهاتف. حدث ذلك في 4 يوليو الفائت. وقد شعر الزوجان بوبنيك بالأسى، بعدما علما أن اللوحة التي كرّسا لها عقوداً ضاعت منهما. تظهر في هذه اللوحة السيدة العذراء خلال «البشارة». وقد نُفِّذت على قطعة من خشب الحور مساحتها 150سنتمتراً 82X سنتمتراً، وطُليت مرات عدة. وقد كرّس الزوجان وقتهما وثروتهما لها. فهما مقتنعان بأنها صورة Madonna Immaculata المفقودة، التي زيّنت كنيسة سان فرانشيسكو غراندي في ميلانو. وإن صدقت ظنونهما، فسيعيشان حياة رغيدة. لكن اللوحة، بدلاً من ذلك، دمّرتهما.إينغو بوبنيك، مالك صالة عرض سابق، وزوجته متخصّصان في تتبّع اللوحات التي لا يمكن نسبها إلى رسام محدّد. فيرمّمانها ومن ثم يحدّدان هوية راسمها.حالفهما الحظ في مناسبات عدة. ويعود نجاحهما الأكبر إلى عام 2002، حين اكتشفا لوحة مهملة فيها شقان كبيران في إحدى دور المزادات. ذكّرتهما هذه اللوحة بأعمال الرسام الرومانسي كاسبر ديفيد فريدريك. وبما أنهما ما كانا يملكان مالاً كافياً لترميمها، أخبرا أحد أصدقائهما بالأمر. فاشترى اللوحة في المزاد العلني بنحو 80 يورو (114 دولاراً) ورمّمها. واستخلص بعد ذلك أحد الخبراء أنها لوحة أصلية غير معروفة لفريدريك. وفي 15 يونيو 2004، باعت دار Sotheby’s هذه اللوحة، التي حملت الإسم Northern Landscape, Spring في مزاد علني بقيمة 1.55 مليون يورو. فحصل الزوجان بوبنيك على 600 ألف يورو من الأرباح.أمل الزوجان في تحقيق إنجاز مماثل مع لوحة للسيدة العذراء مريم. فلو كانت هذه اللوحة فعلاً من إنتاج ليوناردو دا فينتشي، الرسام الذي ابتدع «الموناليزا»، لشكّل ذلك اكتشافاً مذهلاً. فلا تتجاوز أعمال دافنشي المعترف بها راهناً الإثني عشر. وبدت مفارقة كبيرة في تاريخ الفن أن تظهر لوحة يُفترض أنها من أعمال دا فينتشي الأصلية قبل بضعة أشهر من المعرض الضخم الذي سيُقام لهذا الفنان في المتحف الوطني في لندن في شهر نوفمبر المقبل. ستُقدَّم خلال هذا المعرض لوحة Salvator Mundi، التي يظهر فيها يسوع كمخلِّص للعالم، على اعتبار أنها لوحة أصلية لدا فينتشي.هوسلكنّ الزوجين بوبنيك لم يستطيعا تحقيق إنجاز مماثل مع لوحتهما من بفافنهوفن. بدأت قصة هوسهما هذه في شهر سبتمبر عام 1981، حين اكتشفا لوحة العذراء في إحدى دور المزادات في ميونخ. فحيّرتهما بقعة داكنة بادية على ثوب العذراء مريم وأثارت ريبتهما. تخبر آفلين بوبنيك: «صُعقنا!». ظنّ هذان الزوجان أن البقعة تُظهر أن أحد الهواة رسم فوق اللوحة الأصلية. فاشتريا هذا العمل، الذي نُسب إلى رسام مجهول الهوية وصُنّف في سجلات الدار بالكلمات: «إيطاليا، القرن الخامس عشر»، مقابل 3800 مارك ألماني. وعندما نُظّفت اللوحة، اتضح أن الزوجين بوبنيك لم يكونا مخطئين. فقد شكّلت الظلال على الثوب الأبيض دليلاً على أن أحداً وضع على اللوحة طلاء أكثر حداثة لا يتلاءم مع باقي اللوحة. فعالجها خبير واكتشف أن معظم أجزاء اللوحة مغطى بطبقة أو أكثر من الطلاء الحديث. فبدت العذراء أكثر حيوية من دون تلك الطبقات الإضافية من الطلاء. استغرقت أعمال الترميم، التي كشفت في النهاية عن صورة متضرّرة، سنوات طويلة، وبلغت كلفتها حوالى 28 ألف مارك ألماني.ظهرت في اللوحة العذراء مريم. وخلال ثمانينيات القرن الماضي، ظلّت اللوحة معلّقة على جدار غرفة الطعام في منزل آل بوبنيك لفترة من الزمن. آنذاك، عبّرت آفلين بوبنيك عن شكوكها في أنها قد تكون أحد أعمال دافنشي: «عندما تتأمل اللوحة، تُلاحظ أن مبتكرها رسام استثنائي. فالتعبير المؤثّر البادي على وجه العذراء مميّز».يستطيع الخبراء وحدهم أن يعطوا اللوحة مكانتها الحقيقية في تاريخ الفن. تتوافر أساليب علميّة تحدِّد عمر اللوحة ونمط الرسم وتركيبة الألوان، إلا أنها غير كافية. فللتوصّل إلى خلاصة ذات مصدقية، لا بد من إجراء تحليل لأسلوب الرسم والحصول على رأي خبير في تاريخ الفن مطّلع على أعمال الرسام وطريقته في الرسم، فضلاً عن تقديم وثائق تُظهر مصدر اللوحة المحتمل. وكلما كثرت الأدلة على مصدرها، سهل تحديد مبتكرها. فهذه الأدلة مهمة أهمية سلالة نسب الحصان الأصيل.طلب الزوجان بوبنيك من الخبراء تقييم العمل. فقرر إرنست أولمان، الذي كان يومذاك بروفسوراً في جامعة لايبزغ، مواجهة هذا التحدّي ونشر مقالاً بعنوان «اكتُشفت: عذراء خلال البشارة لم تكن معروفة سابقاً لليوناردو دافنشي». استندت الحجج التي قدّمها أولمان إلى تحليل الأشكال. فكتب أن دافنشي صوّر وجه العذراء «بمعرفة عميقة للنفس البشرية». وأشار أيضاً إلى أن «رسم الطيات، فضلاً عن تصميم الرداء المميز،» لا يُرى إلا في أعمال دافنشي وألا أحد من تلاميذه ضاهاه في هذا المجال. كذلك، ذكر أولمان أن المواد، وخصوصاً الحور والألوان، لم تُستعمل إلا في إيطاليا نحو العام 1500. لذلك، توصّل إلى الخلاصة التالية: «لا مجال للشك في أن هذه اللوحة أحد الأعمال التي ابتكرها دافنشي بين عامَي 1503 و1506». فسرّ هذا الخبر آل بوبنيك.آراء مخالفةعبّر خبراء محترمون آخرون أيضاً عن رأيهم في هذه المسألة. فاقترح جاك وسرمان، بروفسور في جامعة تامبل في فيلادلفيا، أن تُقدّم هذه اللوحة على أنها أحد أعمال برناردينو لويني، أحد تلاميذ دافنشي. أما كونراد أوبرهوبر من متحف ألبرتينا في فيينا، فقد تأثر كثيراً بالألوان المضيئة وقال إن هذه اللوحة قد تكون كذا فنتشي، إن أمكن إثبات التخمينات بشأن مصدرها. لكن هانز بلتينغ، بروفسور من جامعة لودفيغ ماكسيميليانز في ميونخ، أشار إلى أن العذراء تفتقر إلى ابتسامة دافنشي المعهودة. وذكر أندريه شاستيل، خبير فرنسي متخصص في حقبة النهضة الإيطالية (كان متقاعداً آنذاك)، أن العذراء «ليست من ابتكار دافنشي».بعد أن رأى زميله مارتن كمب صورة عن اللوحة، أفاد بأنها «قد تكون أحد أعمال لويني الباكرة قبل أن يقع تحت سحر دافنشي». كانت هذه اللوحة «أفضل أعمال لويني» التي شاهدها. هذا ما يتذكّره إينغو بوبنيك عن خلاصات الخبراء. وهكذا تفوّق المشكّكون على آل بوبنيك بغالبية خمسة خبراء على واحد.لا شك في أن لوحة للويني قد تُباع بمئات آلاف اليورو. فأعماله معروضة في متحف Gemäldegalerie في برلين ومتحف أوفيزي في فلورنسا ومتحف برادو في مدريد.لكن إينغو بوبنيك ما زال مصراً حتى اليوم على أن «هذه اللوحة بعيدة كل البعد عن أن تكون أحد أعمال لويني. يحمل أسلوب لويني الكثير من المشاعر، فضلاً عن أنه قصّر عن بلوغ إبداع دافنشي».فقدان الملكيَّةيرجّح فرانك زولنر، خبير ألماني متخصّص في أعمال دافنشي، أن تكون عذراء آل بوبنيك أحد أعمال لويني. فخلافاً للوحة الموناليزا لدافنشي، التي يشبّهها زولنر بأحد أعضاء «الدوري الممتاز» في تاريخ الفن، تُصَنّف لوحة آل بوبنيك في أفضل الأحوال، حسبما أخبر «شبيغل»، «بين آخر فرق الدوري الأول، أو ربما أحد أعضاء الدوري الثاني».أخطأ الخبراء سابقاً في تقييمهم، ورفض الزوجان بوبنيك الاستسلام لغاية عام 1990. ففي تلك الفترة، اضطرا إلى التخلّي عن لوحتهما. فحتى تلك السنة، كان بوبنيك يدير صالة عرض خاصة به في ميونخ. يخبر بوبنيك أنه كان يبيع في الأوقات الجيدة 500 لوحة سنوياً ويجني «نحو 5 ملايين مارك ألماني كعائدات سنوية». لكنه اضطر إلى إقفال صالة العرض عام 1990. فقد كدّس الزوجان الكثير من الديون وتراكمت عليهما الضرائب. فصودرت اللوحة ونُقلت إلى مخزن متحف Pinothek في ميونخ لحفظها. ووُضعت أختام موظّف الحجز على جهتها الخلفية.أراد الزوجان بوبنيك استرجاع لوحتهما، ولكن كان عليهما أولاً إثبات أنها اللوحة التي اختفت من كنيسة ميلانو في أواخر القرن الثامن عشر. فأمضيا 20 سنة في بفافنهوفن وهما يبحثان في المنشورات المتخصّصة، حتى باتت مكتبتهما مليئة بملفات تحتوي على نسخ عن مصادر أصليّة ومقالات أكاديميّة.بعد 28 سنة من البحث، نشر الزوجان عام 2009 كتاباً عن لوحتهما بعنوان Leonardo da Vinci’s Madonna Immaculata Rediscovered. وأرسلوه إلى عدد من المتاحف ومؤسسات الفنون. لكن ردّ الفعل ظل محدوداً. وفي الكتاب يطوّر إينغو وآفلين بوبنيك الحجج التي قدّمها أولمان، مؤيّدهما الوحيد. لكن الأخير أحرج نفسه، مرتكباً خطأ عام 2001 في معرض «من رافايل إلى مونيه» الذي أُقيم في لايبزغ، حيث أساء تقييم نسخ، معتبراً إياها أصلية، ما قوّض مصداقيّته. وقد توفّي عام 2008.يعتقد الزوجان بوبنيك بأنهما عثرا على أدلة تظهر أن لوحتهما كانت معلّقة في كنيسة سان فرانشيسكو غراندي في ميلانو. لكن الزوجان بوبنيك تلقيا أيضاً الدعم. إذ دعاهما ليو ميلشيكر (82 سنة)، صاحب فندق ومقرض أموال من ميونخ، إلى العشاء. وطلب من محاميه مساعدتهما، ومدّهما مراراً بالمال. يذكر ميلشيكر: «أثر فيّ الجهد الذي يبذلانه». ويضيف أنه استثمر نحو 200 ألف يورو في هذا المشروع. وقد وعده آل بوبنيك بحصة من الأرباح.انقضت 21 سنة على تسليم هذه اللوحة إلى مخزن المتحف. لذلك، ما عاد ضرورياً الاحتفاظ بها كضمان مقابل تسديد الديون ورُفعت عنها أختام موظّف الحجز. قصد الزوجان بوبنيك المخزن لاستعادة اللوحة. يذكر إينغو بوبنيك: «كان من المفرح رؤية السيدة العذراء مجدداً. فالضوء المنبعث منها مذهل حقاً». ما من وثائقلم يُسمح للزوجان بوبنيك بأخذ اللوحة لأنهما ما عادا مالكَيها وفق سجلات مخزن متحف Pinothek. كذلك، عجزا عن تقديم أي وثائق تثبت أنهما المالكان. فانتقلت ملكيتها إلى ابنة أرمين هاري، أحد أشهر رياضيي ألمانيا. كان هاري (74 سنة) أحد زبائن إينغو بوبنيك. وقد أقرضه 390 ألف مارك ألماني عام 1988. ويذكر محامو هاري أن بوبنيك أُرغم على نقل ملكية اللوحة إلى زبونه لأنه عجز عن سداد دينه في الوقت المحدد. لا يستطيع بوبنيك (أو لا يريد) تذكُّر أيّ من هذه التفاصيل. وفي 1 يوليو الفائت، أخرج هاري اللوحة من المخزن. وبعد ثلاثة أيام، اتصل محامي الزوجين بوبنيك بهما ليبلغهما بما حدث. رفض هاري الإفصاح عن مكان اللوحة الحالي أو ماذا ينوي أن يفعل بها. لكنه قال على لسان ممثله إنه لا ينوي بيعها في الوقت الراهن.أمضى إينغو وآفلين بوبنيك 20 سنة في النضال في سبيل لوحة لم تعد على الأرجح ملكاً لهما. تجسِّد قصّتهما الهوس بكامل أوجهه. وهي لم تصل إلى خواتيمها بعد. فينوي الزوجان بوبنيك الآن متابعة النضال في المحاكم.
توابل
ليوناردو دافنشي ونضال لوحة!
17-08-2011