تقدم علم الجغرافيا إلى مستويات جديدة في ظل الحضارة الإسلامية، بفضل مجهودات عدد ضخم من الجغرافيين والرحالة يأتي على رأسهم المقدسي، ذلك الجغرافي الكبير الذي يعد واحداً من أكبر الجغرافيين المسلمين على الإطلاق وصاحب المصنف الأكثر قيمة وأصالة في علم الجغرافيا العربية.

ولد شمس الدين أبوعبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء الشامي المقدسي البشاري ببيت المقدس في سنة 335هـ/947م، ومنذ شبابه عشق الأسفار، ورأى أن مملكة الإسلام لم توصف في عصره وصفا كافيا من الناحية الجغرافية كوصف المفاوز والبحار والبحيرات والأنهار والمدن والأمصار والنبات والحيوان. ولذلك قرر المقدسي أن يقوم بهذه المهمة وطاف أكثر البلاد الإسلامية، وقد احترف المقدسي من أجل هذا التجارة، فكثرت أسفاره وهيأت له رحلاته الاطلاع على غوامض أحوال البلاد المختلفة، فقد زار جزيرة العرب والعراق والشام ومصر والمغرب العربي، ثم بلاد فارس والسند (باكستان الحالية) والهند، وأودع كل ما شاهده في كتابه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم»، الذي ألفه في سنة 375هـ (قبل وفاته بخمس سنوات)، وهو أهم كتب الجغرافيا قبل العصور الحديثة بلا جدال بشهادة كبار علماء الجغرافيا الحديثة والمستشرقين، فلم يسبقه جغرافي استطاع القيام بكل هذا العدد من الأسفار والرحلات مع عمق ملاحظاته وإخضاعه المادة التي جمعها لسلطان العقل.

Ad

ويعكس الكتاب مدى الرقي الذي بلغه علم الخرائط لدى المسلمين، فقد قام المقدسي باستخدام الخرائط الملونة، فهو يقول عن خريطة الأرض التي رسمها: «وحررنا طرقها المعروفة بالحمرة، وجعلنا رمالها الذهبية بالصفرة، وبحارها المالحة بالخضرة، وأنهارها المعروفة بالزرقة، وجبالها المشهورة بالغبرة، ليقرب الوصف إلى الأفهام ويقف عليه الخاص والعام».

ويمتاز الكتاب بمنهجه الواضح فقد قسم المقدسي المادة الجغرافية التي توافرت لديه إلى ثلاثة أقسام أولا ما عاينه في أسفاره، والثاني ما سمعه من الثقات، والأخير لما وجده في الكتب المصنفة في الجغرافيا، وهو في ما رأه ثقة يعتمد الحقيقة ولا يحب الكذب من أجل إرضاء القارئ، وهو في ما ينقل عن غيره يعمل العقل والنقد ويرفض الكثير من الأخبار التي ثبت كذبها أو عدم معقوليتها.

الجانب الأقل شهرة للمقدسي هو أنه مؤرخ الحياة الاجتماعية للشعوب الإسلامية في عصره، وهو جانب انفرد به في ظل اهتمام المؤرخين بتاريخ الحكام والأمراء، لذلك جاءت الأوصاف التي قدمها المقدسي للشعوب التي زارها من مغرب العالم الإسلامي إلى مشرقه غاية في الأهمية والطرافة والتفرد.