أصدر الشاعر العراقي محمد مظلوم كتابه «أصحاب الواحدة» عن «منشوارت الجمل»، يتناول فيه قصائد اشتهرت وتميزت وصنفت أحياناً بعد المعلقات، والواحدة يقصد بها القصيدة التي لم يشتهر الشاعر إلا بها، أو علت على بقية قصائده فكانت واحدة وشهيرة ويتيمة. يتضمن الكتاب مختارات شعرية من قصائد غنية، من بينها: «مقصورة الخيل» للأسعر الجعفي، «في الأرض المسدودوة» للأسود بن يعفر، «صورة الأنا» لسحيم الرياحي والتي يقول مطلعها: أنا ابن جلا وطلاّع الثنايا. متى أضع العمامة تعرفوني.في اللائحة نفسها تحضر قصيدة «أحبها وتحبني» للمنخل اليشكري وتتضمن البيت الشهير: وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري»، وقصيدة «مبكية النبي» لقتيلة بنت النضر، و{اليتيمة» لدوقلة المنبجي ومطلعها: هل بالطلول لسائل ردّ. دون أن ننسى قصيدة «خيال ما بعد الموت» لمالك بن الريب، وهي شهيرة جداً ومطلعها: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة... وقد صدرت حولها أكثر من دراسة.في المختارات أيضاً قصيدة «اليتيمة الجاهلية» لسويد بن أبي كاهل، و{الغزلية القاتيلة» لسحيم الحبشي، ويقول فيها: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً، و{القصيدة الوحشية» للأحيمر السعدي ومطلعها: عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى... وصوّت إنسان فكدت أطير، و{وداع نجد» للصمة القشيري ومطلعها: خليلي عوجا منكم اليوم أو دعا... نحيي رسوماً بالقبيبة بلقعا، و{القصيدة الزينبية» لصالح عبد القدوس، و{أجمل المصلوبين» لأبو الحسن الأنباري ومفتتحها: علو في الحياة وفي الممات... بحق أنت إحدى المعجزات.أما قصيدة ابن زريق البغدادي في فراق بغداد فتقول: لا تعذليه فإن العذل يورقه/ قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه/ استودع الله في بغداد لي قمراً. بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه/ ودعته وبودي لو يودعني/ صفو الحياة وإني لا أودعه/ وكم تشفّع بي أن لا أفارقه/ وللضرورات حال لا تشفعه/ وكم تشبث بي عند الرحيل ضحى/ وأدمعي مستهلات وأدمعه/ لا أكذب الله ثوب الصبر منخرق/ عني بفرقته لكن أرقّعه.كذلك قصيدة أبو البقاء الرندي في الأندلس ومطلعها: لكل شيء إذا ما تمّ نقصان.مصطلح ملتبسيعتبر محمد مظلوم أنه مع وجود عدد غير محدد من شعراء لا نعرف لهم في كتب الأدب العربي سوى قصيدة، يبدو «أصحاب القصيدة الواحدة» مصطلحاً ملتبساً، لا سيما أنه لا يمكن التسليم بوجود شاعر لم يقل إلا قصيدة في حياته. ربما ثمّة من أنشد بيتاً أو نتفة أو ارتجل أرجوزة واحدة في حياته، أو ترك لنا قطعة لا تتجاوز الثمانية أبيات على أقل تقدير، لكن القصيدة في مفهوم القصيدة العربي، من حيث كونها ما تجاوزت أبياتها الثمانية، حسب معايير النقد العربي القديم، لا يمكن أن يصلها الشاعر إلا بعد تجارب عدّة في قول الشعر.يضيف مظلوم أن الالتباس يزيد في مفوم القصيدة الواحدة لأنها لا تكون هوية نهائية لشاعرها، بل إن غالبية القصائد التي ترد في الكتاب يتنازع عليها شعراء كثر، وينسب بعضها إلى أكثر من شاعر وتتداخل فيه الأبيات الأصلية بالأبيات المنحولة. من هنا أهمية فك الالتباس الذي لحق بهذا المفهوم، لأجل الدخول إلى مناقشته بوصفه مصطلحاً يجري تداوله أحياناً في غير المغزى الذي وضع لأجله في النقد العربي القديم، فمصطلح أصحاب الواحدة هو تعبير نقدي ولد أساساً في سياق تطور النقد العربي القديم، وورد في كتاب «طبقات وفحول الشعراء» لابن سلام الجمحي، وقد جعل هذا الأخير بعض أصحاب معلقات الشعر الجاهلي مثل طرفة بن العبد وعنترة بن شداد من ضمن أصحاب القصيدة الواحدة.يستنتج مظلوم أن أصحاب الواحدة في معظمهم من هوامش الناس، فهم خوارج وصعاليك ومتصوفة ولصوص ومجانين ومنفيون، وشعراء مغمورون، ومغامرون ومنبذون، وعشاق مقهورون، ومن عوام الناس في عصرهم. حتى أشراف القوم منهم، فإن واحدتهم أو قصائدهم النادرة قيلت في لحظات حرجة من حياتهم، كأنها كانت أغنية البجع الأخيرة، كما هي الحال في قصائد لقيط بن يعمر الأيادي ومالك الريب وعبد يغوث الحارثي وهشام الرفاعي.شعراء الواحدة ليسوا شعراء بلاطيين ليذهب شعرهم في البلدان بفعل مدائح جرت بها ألسنتهم فجرت معها شهرتهم في الآفاق. من هنا، نجد أن ظروف حياتهم التي عاشوها حملت التراجيديا، من موت مبكر ونفي وابتعاد عن ثقافة المركز، فكانت السمة البارزة التي جعلت من أخبارهم قليلة وأسهمت في ندرة أشعارهم.أختار مظلوم شعراء الواحدة بمفهوم ابن سلام الجمحي وليس بما أورده من نصوص معبرة عن ذلك المفهوم، كذلك بمفهوم الأصمعي، بيد أنه أستثنى منها قصائد شعراء المعلقات: طرفة، عنترة، وعمرو بم كلثوم، والحارث بن حلزة اليشكري، لكونها نالت فرادتها في مجال آخر. كذلك استثنى اللاميتين: «لامية العرب» للشنفرى و{لامية العجم» للطغرائي اللتين عرفتا بأنهما واحدتا شاعريهما لأن مظلوم رأى أن للشاعرين قصائد أخرى لا تقل أهمية عن هاتين القصيدتين الشهيرتين ولأنه رآهما مليئتين بالحكم والأمثال أكثر من الشعر.طبقةيلمح مظلوم إلى أنه قد يجد القارئ أن قصائد الرثاء غلبت على سائر الأغراض في قوة حضورها في هذه الواحدات، ولعل لهذا الأمر ما يبرره سواء في النقد العربي القديم أم في طبيعة شعر الرثاء وخصائصه، فابن سلام الجمحي جعل شعراء الرثاء في طبقة مستقلة هي الطبقة الثانية بعد طبقات شعراء الجاهلية العشر وبينهم شعراء المعلقات، وهو الغرض الوحيد الذي خصه ابن سلام بطبقة، لا على أساس التوزيع الجغرافي: كشعراء القرى، ولا على أساس المعتقد أو الدين كشعراء اليهود، ولا الزمن كشعراء الجاهلية وشعراء الإسلام.اعتمد مظلوم في مختاراته والمقدمات الخاصة بكل شاعر وقصيدة على كتب الحماسات والمختارات في المصادر العربية القديمة، من بينها حماسات أبي تمام والبصري، والوحشيات والمفضليات والأصمعيات، ومنتهى الطلب في أشعار العرب لابن مبارك، وجمهرة أبي زيد القرشي، ومختارات شعراء العربي لابن الشجري، إضافة إلى كتب الإعلام والتراجم والوفيات، واشتملت المختارات على جميع عصور الشعر العربي منذ العصر الجاهلي، مروراً بالعصور الإسلامية، عصر الرسالة والخلافة، والعصرين الأمويين والعباسي، وصولاً إلى العصور المتأخرة: الأيوبي والمملوكي، وانتهاء بالعصر الحديث.الكتاب مليء بفصاحة شعراء اتسمت قصائدهم بأنها نماذج «فذّة» في الحب والحرب ورثاء المدن، وفي استبطان الذات ووحشتها وأسئلتها العميقة.
توابل
أصحاب الواحدة لمحمد مظلوم... قصائد يتيمة وشهيرة ومنسيّة في الشعر العربي
25-01-2012