يظل شعر فهد العسكر يراوح بين فضائي الخمر والمرأة، اللذين يراهما الشاعر منفذين للولوج إلى الحرية، أو طريقين للخلاص من ثقل الواقع الفقير المغلق على الظلمة والفراغ، بل بات الشعر بحد ذاته، والالتذاذ بقرظه وتدبيجه، منفاه الأنقى والأغلى، فعكف عليه يبثه شكواه وشقاءه وأحزان وحدته، ومن هنا بات يشكّل هذا الثلاثي: الخمر والمرأة والشكوى المحاور الأساسية لشخصية فهد العسكر الشعرية.

Ad

إن القارئ لشعر فهد العسكر سيستشعر مدى تشابك خيوط المحاور الثلاثة السالفة الذكر وتواشجها، فكل مسامرة مع الكأس ستقود لا محالة إلى استحضار (امرأة حاذقة!) تنادمه وتشاركه الشراب، أو فتاة بريئة تعبر كالحلم، أو جارة ماكرة تخاتل أهلها لتهرب إلى لقائه! وكلهن كما يبدو مجرد أطياف متخيلة ترسمها قريحة متوقدة أو فراغ موحش أو سكرة كافرة، وبين خيال هذه وطيف تلك يتدفق حديث الشجن والمرارات وتتوالى الاعترافات بمشاعر الغبن والضيم، وعذابات روح لا تهدأ وقلب لا يهجع.

ويبدو أن إدمانه على تأمل الأحزان والخيبات، واختياره للعزلة، واستيحاشه من سوء الفهم والتقدير، عمّق في نفسه عقدة الظلم والاضطهاد، فاستلذ العذاب والشكاة، واستسلم للمرض والعجز، وهادن الموت، وأسدل الستار دون أي بصيص من فهم أو أمل، وهذا ما يفسر لنا مرضه بالتدرن الرئوي، وإهماله لعينيه حتى العمى، وتوجسه من الزائرين لعزلته في غرفته الحقيرة، واعتذاره عن عدم تسلم جائزة شعرية في حضرة أمير البلاد وعلية القوم، ثم أخيراً استسلامه المَرَضي لموت بائس في غير أوانه!

ولم يكن الشعر ليستعصي على فهد العسكر وهو في هذه الحال من الرثاثة والشجو، وإنما كان يأتيه طيّعاً متدفقاً حتى لتتزاحم عليه الصور والمفردات والمترادفات والجمل الشعرية، فيدعها تأتي كما يشاء لها الوحي والخاطر، لذا فقد استطالت نصوصه وكثر فيها التكرار واللفظية كثرة مفرطة، حتى ليستشعر القارئ لهاث الشاعر وركضه المحموم وراء الأبيات وأمامها وهي تنسكب بين يديه بلا عناء.

وأعتقد أن بعض النصوص التي أثبتها عبدالله زكريا الأنصاري في كتابه عن فهد العسكر كانت تحتاج إلى بعض القصقصة والتركيز والتخلص من التكرار، أو فك التشابك بين عدة موضوعات تنتظم نصاً واحداً أنهكه الطول والاستطراد، وأتصور أنه لو قُيّض للشاعر فسحة من الوقت والعمر لإعداد ديوانه، لربما أخضع بعض هذه النصوص للتشذيب والتركيز.

أما لغته السهلة الممتنعة، ومفرداته الرقيقة المفعمة بالعذوبة والشجن، فلعلها شارته الفارقة في التجديد الذي حاز قصب السبق فيه، في بيئة شعرية كانت لا تزال مرتهنة لرصانة القصيدة التقليدية ولغتها وخطابها، فجاء فهد العسكر بهذه اللغة الجديدة لينفح المشهد الشعري محلياً بنفحة من طراوة وعنفوان، وليعيد للإنسان نبضه وصدقه.

بعد مرور ستين عاماً على وفاته، وحوالي مئة عام على مولده، لا يزال فهد العسكر شاخصاً في الزمان والمكان، يطل علينا بنظارتيه السوداوين المستديرتين، وعقاله السميك وكوفيته، واناقته اللذيذة، وغموضه وفوضاه وجموحه واختلافه العارم.

ومن خلال النظرة الشاملة للمشهد الثقافي والأدبي في منطقة الخليج والجزيرة، يمكن القول بكثير من اليقين، أنه بفهد العسكر بدأت "جرثومة" التحرر في الذات المبدعة تطل برأسها، وبدا التوق للخروج إلى فسحة من التحقق والاندغام في عصب الحياة والوجود أكثر إلحاحاً، وأكثر إغراءً، أما الاستعداد لدفع الثمن -بلا خوف أو ندم- فقد كان بلا حدود!

وما يزال فهد العسكر رغم توالي موجات التجديد والحداثة في الشعر والحياة يحتل مكانته الخاصة في الوجدان الوطني، ويلوح لنا في البُعد أيقونة خالدة لا تغيب.