انفض العزاء، وبقي الفراق.

Ad

انتهت الطقوس والمراسم، وبدأت أوجاع جرح لن يبرأ.

أضغط على جرحي بكلتا يدي، وأمشي إليك قبل أن يسبقنا الغروب.

أجلس أمام التراب الذي زاد اعتزازاً بعودتك إليه، لأحدثك دون أن يقطع حديثنا هاتف مستعجل، أو موعد أزف، أو ضيق خلقك بما أقول.

أحدثك عن وفاء الكويت وحنانها وإباء دمعتها.

أحدثك عن الحزن الجليل النبيل الذي تلفح به أهلها وهم يتسابقون لحمل نعش احتضن "ابناً باراً، ورجل تنمية، وصاحب مبادرة، وداعية علم وتعليم، ومدافعاً عن حرية الرأي والفكر والاقتصاد، ومؤمناً – رغم كل الهزات والارتدادات – بوحدة الوطن وتكامل الأمة..." فقد كان وداعك تظاهرة فيها وفاء لجيل سبق، وفيها تقدير لجيل بدأت ريادته، يمسك بالعلم والطموح، ويتمسك بالثوابت والقيم، يحترم الماضي ولا يعيش فيه، ويعمل للمستقبل ويستكمل عدته، مقتحماً غمار العمل الحر، مفضلاً لذة تعبه ومخاطره على اطمئنان الكراسي وقيود المناصب. فالألم الذي خلّفه رحيلك ليس مجرد إحساس بوجع الفراق، بل هو شعور عميق بجلل المصاب. وفرق كبير بين مصاب يحزن له أهل الفقيد، وغياب يغص به خلق كثير.

أحدثك عن أمنا، وكيف ترفض أن تصدق أنها لن تراك، وتأبى إلا أن تنتظرك لتتناولا الطعام معاً.

أحدثك عن إخوتك وأبنائهم وأحفادهم الذين أصبحتَ – بعد رحيل الوالد – الفيء الذي يستظلون به، والسور الذي يستندون إليه.

أحدثك عن نفسي، أنا الذي ولدت بعدك فكنتَ منذ فتحت عيوني أخي الذي احتكر حب والديه، وصديقي الذي أراه أقرب ما يكون إليَّ عندما أشعر أني أحوج ما أكون إليه.

أحدثك، وقد أصبح بيننا الصمت حالة حوار، ولم تعد الألفاظ أداة إفصاح. وبالتالي، سيبقى بيننا حوار لن ينتهي، ربما قبل النوم أو أثناءه، وربما عندما أدخل الديوانية، وربما عندما أتابع مباراة في كرة القدم، وبالتأكيد عندما أُقبل يد الوالدة، وكلما شعرت بالوحدة. فقد رحلت – كعادتك – بلا وداع، وغادرت الأحبة إلى الأحبة في الضفة الأخرى. وبفراقك ازداد الفؤاد شجى، وازداد ما بقي من الطريق وحشة.

إلى الله الرحمن الرحيم أرفع الدعاء أن يشملك برحمته وإحسانه، ويسكنك فسيح جناته.