أصبحت بديعة عند أهل حلب الشيء الجميل والمبهج، الحلوى التي تزيل مرارة حلقهم، حتى باعة الفستق كانوا ينادون: «يا عيني يا فستق ياللي أكلت منك بديعة يا فستق».

Ad

بعد انتهاء موسم الصيف، كانت بديعة تستعدّ للعودة إلى بيروت كالعادة، عندما اقترح عليها أصدقاؤها البقاء في حلب واستئجار منزل تحيي فيه الحفلات والسهرات، جرياً على عادة الفنانات آنذاك، فيقصدهن عشاق الفن من كل مكان ويغدقون عليهن النقود والذهب.

استحسنت بديعة الفكرة وطلبت من أصدقائها مساعدتها في تأسيس بيت في حلب، ولم تكد تمضي فترة قصيرة حتى فتحت أبواب بيتها الجديد لاستقبال وجهاء المنطقة والبلاد المجاورة.

بعد تحقيق نجاحات متتالية تجاوزت أحلامها كافة، عادت بديعة إلى بيروت لتطمئن على شقيقتها نظلة، فلازمت بيتها في ما يشبه الاعتكاف، إلى أن زارها الملحن عزت الجاهلي ومعه الممثل حسين رياض، وكان هذا الأخير في بداية حياته الفنية ويحاول تمثيل أدوار نجيب الريحاني وتقليد صوته وحركاته على المسرح، فعرض عليها تكوين فرقة تمثيلية والسفر إلى فلسطين وتقديم عروضها فيها.

رحبت بديعة بالفكرة خصوصاً أنها انهمكت في الغناء والرقص وأوشكت على نسيان التمثيل لأنها لم تجد في بيروت الفرصة لتتدرّب عليه أو حتى ممارسته من باب الهواية.

في فلسطين

كانت حيفا أول مدينة تستقبل بديعة وفرقتها، فراحت تبحث عن مسرح لتعمل فيه، لكن أصحاب المقاهي كانوا قد تعاقدوا مع فرق راقصة، وبعدما يئست من البحث، أخبرها أحد السكان بأن في الحي اليهودي مسرحاً، وحذرها من أنها إذا عملت هناك سيقاطعها العرب لأن الحي يهودي وسيقاطعها اليهود لأن الفرقة عربية، فانتقلت بديعة إلى يافا وقصدت مقهى «البنور»، وكان فيه مسرح جميل ومنسق.

أقبل الجمهور بحماسة على فرقة بديعة فحققت نجاحات إلى أن قامت الثورة في يافا واندلعت التظاهرات في تتابع مخيف، فأغلقت المدينة بكاملها، وعجز السكان عن مغادرة منازلهم، واضطرت الفرقة إلى تعليق عروضها لأيام على أمل بعودة الوضع إلى ما كان عليه، إلا أن الانتظار طال وكان الممثلون يتقاضون رواتبهم كاملة، ما دفع بديعة إلى أن تصرفهم في حال سبيلهم.

في مصـر

غادرت بديعة فلسطين إلى مصر، عاصمة الفن، مصطحبة معها ابنتها بالتبني جولييت، ونزلت في أحد فنادق عماد الدين، فلفتتها إعلانات مسرح علي الكسار ومسرحيات نجيب الريحاني، فقصدت مسرح الريحاني حيث التقت حسين رياض فرحّب بها.

كان الريحاني يقدم آنذاك رواية «إنت وبختك» من تأليف حسين رياض، بطولة المطربة فتحية أحمد. بعد انتهاء العرض اقترح عليها حسين رياض أن يعرفها على نجيب الريحاني ورافقها إلى غرفة هذا الأخير وكان معه بديع خيري وشخصيات أخرى، وما إن شاهد الريحاني بديعة حتى قال لحسين رياض: «من أين لك بهذا الجمال الساحر؟».

بديعة والريحاني

عرّف رياض بديعة بأنها إحدى أشهر فنانات الشام، فعرض عليها الريحاني العمل معه في مصر، ولما سألت عن الأجر أجابها بأنه سيعطيها أعلى مرتب تحصل عليه ممثلة وكان لا يزيد على 45 جنيهاً، لكنها اعترضت وتدخل حسين رياض ثم دولت أبيض، إلى أن وافقت بديعة على أن تعمل مقابل 60 جنيهاً مصرياً، ووقعت عقدها مع الريحاني. يومها اصطحبت جولييت وخادمتها وتناولن العشاء في مطعم «الباريزيانا».

لم تقتنع بديعة بالأجر الذي عرضه الريحاني عليها، فاتفقت مع روجينا على العمل معها وبأجر أكبر، بالإضافة إلى أنها مدينة لروجينا بثلاثمائة ليرة ذهبية، كانت أعطتها إياها لتتمكن من السفر إلى مصر ومن دون أن تقدم لها بديعة أي ضمانات، فاعتذرت من الريحاني وعادت إلى روجينا في فلسطين وبدأت عملها بنشاط ملحوظ.

خلال زيارتها مصر تعلمت بديعة أغنيات جديدة من بينها: «يا نواعم يا تفاح يا حاجة حلوة كويسة»، «سلمى يا سلامة رحنا وجينا بالسلامة»، «البحر بيضحك ليه وأنا نازلة أدلع أملا القلل»، وغيرها من الأغاني المصرية التي كانت منتشرة آنذاك.

في فلسطين حققت بديعة نجاحاً أنساها مرارة الفشل الذي قابلته في المرة السابقة، وكانت ما تجمعه من «النقطة» في الليلة يساوي مرتّبها في مسرح الريحاني على مدى شهر كامل، إضافة إلى الهدايا الثمينة التي كان يرسلها إليها المعجبون. بعد انتهاء عقدها مع روجينا جالت بديعة في مدن فلسطين، ومنها انتقلت إلى حلب وطرابلس. عندما بدأ التعب ينهكها عادت إلى منزل شقيقتها في بيروت، وكانت اشترت بيتاً بدورها.

في بيروت، التقت بديعة أمين عطاالله الذي كان جمع فرقة كبيرة من الممثلين، فأقنع بديعة بالذهاب معه إلى فلسطين، نظراً إلى الأثر الطيب الذي تركته في نفوس الفلسطينيين، لكن العمل مع عطاالله لم يرق لها، لأنها اعتادت الحرية والعمل بمفردها كصاحبة تخت، ولأن عطاالله كان يعطي زوجته الأدوار الرئيسة وأحضر معه من مصر المطربة رتيبة أحمد شقيقة فتحية أحمد.

لم تطل فترة عمل بديعة مع عطاالله فتركت فرقته وجمعت فرقة خاصة وذهبت إلى حيفا حيث التقت صديقتها القديمة المطربة ماري جبران أو ماري الجميلة كما سبق أن أسمتها.

بعدما أنهت بديعة عملها في حيفا، دعاها أحد الفلسطينيين إلى إحياء حفلة في الرملة، فاستجابت لدعوته، وكان الإقبال كبيراً على رغم تواضع المكان، ومن لم يجد مقعداً له افترش الأرض، كذلك جلب وجهاء المنطقة معهم مقاعدهم ليتمكنوا من مشاهدة بديعة، صاحبة الإسم الشهير والرقص المتميز والغناء الذي يروق لكل نفس وروح.

طافت بديعة في أرجاء فلسطين، ولم يكن ثمة يهودي واحد على أرض مدينة نابلس، إلا أنها اصطحبت معها عازفاً يهودياً يدعى شحادة، وكان أحد العناصر المهمة في فرقتها، فاضطرت إلى مناداته محمد لتخفي حقيقته عن النابلسيين، وكان شحادة لا يملك سوى عود ووسادة وبقجة (قطعة قماش كبيرة تشبه الملاءة) يحمل فيها ملابسه. وما إن شاهد الجمهور الضخم حتى راح يضغط على بديعة لتزيد أجره مستغلاً حاجتها إليه، إلا أنها لم تخضع لهذا الابتزاز وهددته بأنه إن لم يتراجع عن طلبه فستناديه باسمه الحقيقي شحادة، ليعرف النابلسيون أنه يهودي وينقضون عليه، عندها لم يجد من وسيلة أمامه سوى التراجع عن مطالبه والعمل بصمت.

كانت بديعة أول مطربة تطأ قدماها أرض نابلس فأحبتها وانتقلت منها إلى جنين ثم رام الله ثم غزة، وقدمت وفرقتها فقرات ممتعة ونجح برنامجها ونجحت هي في استقطاب الجمهور ودُعيت إلى إحياء حفلات في بيوت كبار العائلات في غزة، وعندما بدأت تشعر بالتعب سرّحت أعضاء الفرقة واتجهت إلى مصر.

مصر ثانيةً

في مصر نزلت بديعة في فندق «سان ستيفانو» في الإسكندرية لترفّه عن نفسها وتنسى الإرهاق وليالي السهر المتعبة، والتقت فيه أصدقاءها الفلسطينيين، من بينهم حبيب وميشال وسامي الشوا، ساحر الكمان والعازف المشهور آنذاك، كذلك التقت ابراهيم بك أحد الأثرياء المصريين وأحد أصدقاء نجيب الريحاني المقربين، فدار بينهما حوار طويل لامها فيه على تركها نجيب الريحاني وذهابها إلى بلاد الشام ونصحها بالعودة إليه مجدداً وأن تفي بعقدها معه، واستفاض في الحديث عن سمعة الريحاني والشعبية الواسعة التي يتمتع بها، والاحترام الذي تكنه له الطبقات المختلفة في مصر...

أمام هذا الإصرار قاطعته بديعة قائلة: « قد يكون الريحاني عبقرياً إلا أنه شديد البخل»، فسألها إبراهيم عن المبلغ الذي عرضه عليها الريحاني، فاستطردت بديعة: «في سورية وفلسطين لا أتقاضى أقل من ثلاثمائة ليرة ذهبية»، ضحك إبراهيم وقال: «ثلاثمائة إيه؟ دا رئيس الوزراء لا يحصل على مثل هذا المبلغ في مصر»، عندها اقترحت عليه أن يسأل أصدقاءها الفلسطينيين ليتأكد بنفسه، إلا أنه رفض وسأل مجدداً عن المبلغ الذي عرضه عليها الريحاني فأجابت: «60 جنيهاً مصرياً»، دهش ابراهيم من عدم موافقتها إلا أنها بادرته بالقول: «كيف لي أن أوافق يا إبراهيم بك، وأنا أقيم في سان ستيفانو وأدفع في الليلة ستة جنيهات؟»، فنصحها ابراهيم بك بأن تضحي من أجل مستقبلها إلا أنها قاطعته بالقول: «ليس لي مستقبل هنا في مصر، إن مستقبلي في سورية ولبنان وفلسطين، أنا الفنانة الوحيدة هناك، فيما مصر مليئة بالفنانات في كل مجال». ردّ عليها ابراهيم: «هذا الخطأ بعينه، لا توجد في مصر فنانة يمكنها أن تؤدي اللون الذي تؤدينه أنت، صحيح أن ثمة مطربات وراقصات إلا أننا نفتقد اللون الذي تقدمه بديعة، لو عملتِ مع فرقة الريحاني ستعرفك شرائح أخرى ويشار إليك بالبنان، وتصبحين إحدى أهمّ الفنانات في مصر».

فيما كانت بديعة مستغرقة مع إبراهيم بك في حديثها، جاءها صديقها الفلسطيني ميشال ودعاها إلى نزهة على البحر، فكانت هذه الدعوة كطوق النجاة الذي خلّصها من ابراهيم بك، صديق نجيب الريحاني الحميم.

أرادت بديعة أن تكون نزهتها بريئة، إلا أنها فوجئت بميشال يصارحها بحبه وباستعداده بأن يضحي بكل شيء في سبيل إسعادها، لكنها تذكرت تجاربها السابقة ورفضت هذه العلاقة ونصحته بالابتعاد عن الفنانات، عندها انتفض وهدد بديعة بالانتحار، فقالت له والابتسامة ترتسم على شفتيها: «الانتحار ليس سهلاً إلى هذا الحد يا ميشال»، عادت إلى الفندق، حيث كانت جولييت في انتظارها ومعها خادمتها. إلا أن ميشال راح يتبعها كظلها، فما إن تذهب إلى البحر حتى تراه، وما إن تسير في حديقة إلا ويسير خلفها ويعاود الكلام نفسه، فحاولت بالطرق كافة التخلّص منه إلا أنها لم تفلح.

عندما راجعت نفقاتها، مع انقضاء الأسبوع الأول لها في سان ستيفانو، فوجئت بديعة بأن ميشال سدد كل ما عليها، فاحتارت في أمره وفيما هي جالسة على شاطئ البحر، إذا بيد تغلق عينيها ويسألها صوت: «من أنا؟» أجابت: «بالطبع مجنون...»، فصاح ميشال: «ميشال مجنون بديعة، وإذا لم تصدقي أطلبي مني أن ألقي بنفسي في البحر وسأفعل ذلك»، فقالت له بديعة ساخرة: «هيا أرني شجاعتك»، فأسرع نحو البحر وأسرعت خلفه تناديه بأعلى صوت، وعندما اقتربت منه وأمسكت بيديه، ألقى بها في البحر وألقى بنفسه بعدها، كانت بديعة تحسن السباحة، إلا أن ميشال لم يسمح لها بالعودة إلى الشاطئ وانتهز الفرصة لتقبيلها، هكذا بدأت صداقتهما واستمرت زمناً غير قصير.

إلى بيروت

بعد أن قضت بديعة وقتاً رائعاً في الإسكندرية، عادت إلى بيروت من دون أن تلتقي نجيب الريحاني، فقصدها موفد من حسن الأنجي يدعوها للعمل معه في طرابلس، فقبلت فوراً بعدما تذكرت أيامها السعيدة في طرابلس وروح الطرابلسيين الخفيفة وكرمهم الحاتمي، إلا أنها سرعان ما اكتشفت أنها ستعمل مع هدية مساميري وشقيقتها وهيبة، وكانت قد اختلفت معهما في حلب.

ما إن رأى الجمهور في الصالة بديعة مصابني حتى ضجت بالتصفيق، وكانت ترتدي يومها فستاناً مزداناً بألوان العلم العربي الأربعة، وكان من بين الحضور في تلك الليلة عارف بك الحسن، فتحمس وراح يخطب في الحاضرين، وما لبث أن عم الشغب المكان، وقبض الجنود على من اعتبروهم مشاغبين. أما بديعة فنجت من السجن بأن غافلت الجنود وأسرعت نحو المسرح فأخفاها الفنانون وأنكروا وجودها تماماً، وكانت فرصة للصلح بين بديعة وبين هدية مساميري وشقيقتها وهيبة.

بعد هذه الحادثة أصبحت بديعة مصابني محل مراقبة الجنود الفرنسيين أينما ذهبت. ومن طرابلس انتقلت إلى حلب، إلا أن الجيش الفرنسي كان يطاردها ويضيق عليها الخناق ويراقب كل أغانيها.

مصر ثالثاً

آنذاك، حضر نجيب الريحاني إلى الشام وعمل فيها من دون أن يحقق نجاحاً يذكر، فانتقل إلى بيروت، وتزامن وصوله إليها مع عودة بديعة إلى منزلها في محلة الصيفي، وعندما ارتاحت من عناء السفر طلبت منها شقيقتها نظلة العودة إلى قرية شيخان، فوافقتها بديعة على فكرتها.

في المساء، اصطحبت بديعة نظلة إلى مسرح الريحاني، وجلستا في مقصورة بالقرب من خشبة المسرح، إلا أن سرعان ما توجهت الأنظار إليها. عقب انتهاء الفصل الأول جاء إلى بديعة أحد أصدقاء الريحاني وطلب منها أن تلتقي هذا الأخير بناء على رغبته، فوافقته بديعة، وكان بصحبته صديقه مصطفى حنفي وراح الجميع يقنعونها بالعودة معهم إلى مصر، وذكرها الريحاني بالعقد المبرم بينهما سابقاً، ولم يترك بديعة تغادر المكان إلا بعدما أقسمت له بأنها سترافقه في تلك الرحلة.