تتحدّث معه فتشعر بأنه العاشق الأكبر للأدب اليوناني في مصر، يحفظ مقاطع كاملة من «الإلياذة» و{الأوديسا»، ويطعّم حديثه بكلمات ومصطلحات يونانية... إنه رائد ترجمة الأدب اليوناني إلى العربية الدكتور أحمد عتمان، أستاذ اللغة اليونانية واللاتينية ورئيس قسم اللغة الإيطالية في جامعة القاهرة، الحاصل على تكريم مزدوج هذا العام بعد نيله لقب سفير الهلينية لعام 2010 من اليونان، وجائزة التميّز من جامعة القاهرة (أعلى جائزة تمنحها الجامعة) على أعماله الكثيرة في مجال الترجمة والفكر التي تتوّجها ترجمته «إلياذة هوميروس».

في حواره مع «الجريدة» يكشف  د. عتمان أغوار عالمه الخاص.

Ad

كيف بدأ عشقك للأدب اليوناني؟

منذ أيام الشباب أعشق الفلسفة، وحدث أن أقيمت مسابقة على مستوى المنطقة في هذه المادة وكنت آنذاك في المرحلة التعليمية الثانوية، وحصلت على المركز الأول، فكانت المكافأة عدداً من الكتب، من بينها: «تاريخ الفلسفة الغربية» لبيرتراند راسل. من هنا، بدأت علاقتي المبكرة بالفكر اليوناني والفلسفة، وكنت أحد الأوائل على مستوى البلاد في هذا المجال.

للدراسة الجامعية، اخترت كلية اقتصاد وعلوم سياسية وانتظمت لمدة شهرين، ثم التقيت بوكيل كلية الآداب الدكتور صقر خفاجة الذي أقنعني بالالتحاق بقسم الدراسات اليونانية واللاتينية.

إلى من يعود الفضل في الكشف عن ميولك في هذا المجال مبكراً؟

التشجيع المبكر هو الذي حدّد مسار حياتي، فما من موضوع إنشاء إلا وكنت أقرأه على جميع التلامذة في مدرستي بطلب من أساتذتي، وهذا ما جعلني أعشق الإبداع والحياة الفكرية منذ الصغر، على عكس ما نراه اليوم من تجاهل للمواهب بل وقتلها أيضاً.

لماذا انصبّ اهتمامك على ترجمة الأدب اليوناني؟

عندما بدأت علاقتي بالتراث اليوناني كان فكري منصبَّاً على ترجمة الناقص في المكتبة العربية من تراث، فوجدت أن الموضوع يحتاج أكثر من مجهود شخص لوحده، خصوصاً أن المنجز العربي في الترجمة عن اليونانية انصب على الجوانب العلمية التي كانت تمثل حاجة أساسية لدى العرب آنذاك.

عموماً، أحرص على نقل روح النصوص اليونانية والإيطالية، وليس مجرد نقل مترادف من لغة إلى أخرى، لتكون هذه الترجمة كإشارات إرشادية للأجيال المقبلة تترجم على منوالها.

هل يمكن لنا عقد مقارنة بين تجربة الترجمة من اليونانية في عصر هارون الرشيد والترجمة اليوم؟

الترجمة في عصر الرشيد والمأمون تركزت بشكل أساسي على الترجمة العلمية، فاستوعبت العربية ما ألفه الإغريق في الجوانب العلمية، دون ترجمة النصوص الأدبية لما لها من علاقة بعالم الآلهة اليونانية فلم يستسغها العرب آنذاك. أما في عصرنا الراهن، فالترجمة تعالج النقص في ترجمة النصوص الأدبية، ولا بد لنا من الاستفادة والاقتداء بتجربة أجدادنا بناة الحضارة العربية - الإسلامية الذين بذلوا جهوداً جبارة للنهضة، فكان لديهم وعي بأن ترجمة التراث العالمي شرط أساسي في هذا المجال، لأنها تغني الجوانب الروحية والذهنية والفكرية لا المادية فحسب، وذلك كله لن يتحقّق إلا بترجمة التراث العالمي.

هل الترجمة فرض عين على المثقّف العربي؟

بالتأكيد، فالمترجم لا بد من أن يكون صاحب رسالة كي ينقل تراث الحضارات إلى العربية ليسد العجز الواضح في ثقافتنا، لا سيما أن النهضة لن تتم إلا بالتعريب والترجمة. وهدف الترجمة من اليونانية واللاتينية إلى العربية خدمة التراث العربي وعقد صلة تواصل بين تراث العرب القديم والمعاصر بالتراث العالمي. لكن، المشهد العربي الراهن، على رغم تنوّع منابره، تضربه الفوضى في جنباته لعدم وجود هيئة واحدة تشرف على الترجمة إلى العربية التي تتكرر بعض عناوينها بين الدول العربية المختلفة، لذلك فالحل في وجود هيئة واحدة تتابع المنجز العربي في الترجمة وتعقد الصلة بين منابره المختلفة.

ماذا تمثّل ترجمة عمل كـ{الإلياذة» لك؟

حلم ثقافي وعلمي تحقّق بعد أن ظل يراودني منذ بداية وعيي بالثقافة اليونانية. بذلت الكثير للخروج بالنص بشكل متقن، وهي المرة الأولى التي يصدر فيها هذا النص كاملاً في 16 ألف بيت شعري بمعاونة كلّ من د. لطفي عبد الوهاب ود. منيرة كروان ود. السيد البراوي ود. عادل النحاس.

كيف تقارن بين ترجمتك الأخيرة لـ{الإلياذة» والترجمات السابقة؟

ترجمة «الإلياذة» التي قمت بها بمشاركة عدد من الاختصاصيين هي الأولى من نوعها التي تتحقق عن الأصل اليوناني مباشرة، ولا يمكن مقارنتها بالترجمات السابقة بشهادة الخبراء في أدب هوميروس على مستوى العالم. لكن، لا بد من إشادتي بمجهود السابقين ممن ترجموا «الإلياذة» عن لغات وسيطة، فمجهود سليمان البستاني في هذا المجال أقل ما يوصف به أنه جهد جبار كونه أُنجز في مطلع القرن العشرين عندما لم يتوافر تخصّص في العالم العربي للدراسات اليونانية، علماً أن هذه الترجمة تحمل روح البستاني وفكره أكثر من فكر هوميروس وروحه.

هل ستترجم «الأوديسا» بعد الاستقبال الحافل الذي تلقى به المثقفون «الإلياذة»؟

أنا مُطالب من الجهات الثقافية كافة بترجمة «الأوديسا»، وهو عمل ممتع ومرهق في الوقت نفسه، لذلك بدأت أولى الخطوات في هذا المجال، وانتهيت من جمع مراجع النص والدراسات والأبحاث حوله والترجمات له، وسأشرع في ترجمته من اللغة الأصلية اليونانية إلى العربية، وإذا توافرت الصحة قد يخرج إلى النور خلال ثلاث سنوات على الأكثر.

هل ساعد توافر نصوص مسرحية رصينة مترجمة، في النهوض بحركة المسرح العربي؟

المشكلة أن المسرح العربي يعاني من أزمة ثقافية، وهو مصاب بفقر الدم الثقافي، فالقيمون عليه عموماً غير مثقفين بل حرفيون ولا ينطلقون من رؤية ثقافية فلسفية، والنقص في الرؤية جعل المسرح العربي الحديث والمعاصر هشاً، فهل يتوافر جمهور للمسرح العربي؟ الإجابة لا، وهنا تكمن المشكلة.

عموماً، أزمة المسرح ليست مشكلة نصوص بل تكمن في القيمين عليه، إذ ثمة نصوص عالمية مترجمة وقد شاركت دولة الكويت في ترجمة الجزء الأكبر منها عن طريق سلسلة «المسرح العالمي» التي توقفت، والتي سمعت أنها ستعود قريباً، وهذا ما أتمناه كونها سدّت ثغرة كبيرة في العربية من ناحية توفير نصوص أجنبية من مختلف الثقافات.

هل اتجاهك إلى الإبداع المسرحي جزء من منظومة حل لمشكلة المسرح؟

على رغم أنني مارست أشكال الإبداع النثري كلها، من القصة القصيرة والرواية وغيرهما، إلا أنني قدمت نفسي ككاتب مسرحي له رسالة، فالمسرح يحتاج إلى جهود جبارة للنهوض به، ونصوصي أكتبها على أمل أن يعود المسرح العربي إلى ازدهاره، لا سيما أن نصوص اليوم ضعيفة، إضافة إلى الهجوم الذي يواجهه المسرح جاد، فمثلاً تجد أن دعاة الاستسهال اتهموا مسرحيات رائد المسرح توفيق الحكيم بأنها تنتمي إلى المسرح الذهني غير القابل للتمثيل.

على ذكر الحكيم، حدّثنا عن علاقتك الممتدة معه؟

أعجبت به منذ الصغر كقارئ، بعدها بدأت بتأليف كتاب عن «المصادر الكلاسيكية لمسرح توفيق الحكيم» وصدر سنة 1978، ومن هنا توثقت علاقتي به وامتدت حتى وفاته، وظلّ يذكرني ويذكر كتابي باعتزاز وفخر حتى أيامه الأخيرة، وهذا ما أكّده لي الناقد الكبير د. صلاح فضل، فلما توفاه الله عام 1987 قدّمت «الحكيم لا يمشي في الزفة»، المسرحية التي لاقت نجاحاً كبيراً، لأنها جاءت تمجيداً له ونقداً مهذباً يهتم بتقييم تجربة الحكيم ككل.

لماذا انتقدت عمل «كليوباترا» الذي قُدّم في دراما رمضان؟

قدّم صنّاع هذا العمل شخصية كليوباترا وكأننا لا نعرفها، فمعظم تفاصيل المسلسل غير دقيق وغير تاريخي، ويكفيك أن تعرف أن 90 في المئة على الأقل من الأسماء المنطوقة في المسلسل جاءت بطريقة غير صحيحة فما بالك بالتفاصيل! والمسلسل يعكس حالة القطيعة بين القيّمين على الأعمال الدرامية التاريخية وبين المؤرخين. وأشير هنا إلى التقدّم في حقل الدراسات التاريخية وعدد الدراسات الرصينة عن كليوباترا، ولي كتاب بعنوان «كليوباترا وأنطونيوس»، وهذا الزخم كلّه لم يرجع إليه القيمون على العمل فجاء بعيداً عن أجواء مصر البطلمية.