بودي أن أفهم الهدف الحكومي من تغليظ عقوبات قانون المطبوعات والنشر، فالعادة الحكيمة جرت على أن يضع الإنسان هدفاً ثم يسدد له سهام خطة التنفيذ، وكلما تفكرت في الموضوع زاد تعجبي، فإما أن شيئاً كبيراً ومهماً يقع خارج نطاق حدود «نظري» وإما أن الحكومة تتصرف خارج حدود «النظر» المنطقي، فأول ما يزور الخاطر هو أن الحكومة «تغلظ» حتى تتحكم بالمادة المقدمة للشعب وتمنع عنهم الأخبار أو التحليلات المقالية التي قد تدفع بهم للثورة ضد الحكومة ذاتها وأسلوب عملها.

Ad

إذن فالحكومة تريد أن تمنع المعلومة وتبتغي أن تحد من رد الفعل تجاهها، ولكن في الواقع هذا «التغليظ» سيدفع الناس باتجاه مصادر محررة تماماً، سريعة جداً، طيعة في التبادل الفوري للآراء والأسئلة والأجوبة، والأهم، غير مراقبة، والمعلومة المطروحة فيها غير مدققة ولن تمر على الحكومة، ولن يتسنى للأخيرة توضيحها أو تفنيدها.

وعليه، فإن التغليظ ها هنا لن يحرر الشعب من الرقابة النفسية والذوقية التي يفرضها استخدام وسائل الإعلام التقليدية فقط، ولكنه سيريق دماء الحكمة والتنظيم في نقل المعلومة، وسيغرق المجتمع في لجة من الإشاعات لن تجد لها مخرجاً تفنيدياً معلناً وعاماً، وسيصبح نقل المعلومة أسرع وأسلوبها أغلظ وصحتها أقل وفضائحيتها أكبر، ولن تستطيع الحكومة تحريك ساكنٍ، وستضيع عليها فرص التوضيح، ويتضاعف أثر المعلومة المنقولة إلكترونياً وهي مفرغة من التمحيص وعارية من دفاع لاحق.

وقد يكون للحكومة غرض آخر، فهي تغلظ حتى تفرض سيادتها فيهاب الناس الحديث حول قياداتهم، ولكن من المعروف أن الرهاب الفكري يولد نقداً أقسى وأكثر دموية، فأن «ينفس» الشعب أمام الحكومة، يبقى القليل ليقال من ورائها، ولكن أن تربط ألسنته ترهيباً، فستتفجر عندها إهاناته و»تغلظ» تعليقاته وتتوالى دعواته في السر الذي سرعان ما تتسع دائرته من الأشخاص إلى التجمعات الصغيرة، تمر الحكومة على التجمعات، يحيونها بإيماءة ثم ينقلبون إلى داخلهم قذفاً وقدحاً وفتكاً بكل شبر «جسدي أو سياسي» من أفرادها.

ومن الممكن أن كرامة الحكومة قد أصيبت بجرح غائر فما وجدت بداً من التغليظ حتى يلتئم جرح الكرامة وتندمل تشققاته، ولكن منذ متى تطيب الكرامة بعقاب «مؤلميها»، ألا تطيب الكرامة بإثبات البراءة والاعتذار الاختياري من الطرف الآخر عوضاً عن الترهيب وسد الحلوق حتى لتتوالى الإهانة الخفية التي تكون أقذع وأمضى؟ وأخيراً، وإحساناً مني بالظن، أقول قد يكون هدف الحكومة حماية الشعب وحواسه من سوء المنقلب الإخباري وبذيء التعابير وكذب وتحوير المواقف، ولكن ما وسيلة الحماية الأنجع: أن تضع رباطا أسود على عين الناظر تمنع عنه سوء المنظر، أم أن تعلمه أن ينظر ثم يحكم ثم يغير؟! أم أن تقول له إن الدنيا مليئة بهكذا مناظر، طالما عشنا وطالما كان هناك بشر على سطحها، ثم تدربه على التعامل مع المنظر برفضه أو تغييره أو حتى محاربته؟ والسؤال الأكبر هو: هل هناك مثال قمعي حكومي على مدى تاريخ البشرية ناجح ومستمر؟؟

لا أفهم حكومتي، ففي كثير من الأحيان تبدو أنها تعمل ضد نفسها وبخلاف مع أهدافها، وعلى رأي الزميلة إيمان البداح، مالها حكومتنا عادت الكل: ضربت في البدو وسجنت في الحضر، ولطشت في الإسلاميين، وخوزقت في الليبراليين، فمن بقي لها يا ترى؟ يمكن يا إيمان بعد أن انفض الجمع، لم يتبق لها سوى الرباط الأسود، فكلنا أصبحنا أعداء الكل، انقسمنا على أنفسنا ومع حكومتنا وبتنا نتشكك في القول ونتربص بالقلوب ونناظر بعضنا بعضا ونحن نتساءل عن «الغرض»، ونتندر حول «النية»، وكلما أُحكم الرباط الأسود حول أعيننا، «شانت» النوايا وتغلظت الشكوك حتى ليصاب شعب كامل بعصاب الشك وفوبيا المستقبل...

خففوا الرباط رحمكم الله، ففي الظلام تتعفن القلوب، وإذا ما تعفنا، أصبحنا مصيبة جماعية في رقبة الحكومة، وعوضاً عن أن تتعامل الأخيرة مع خبر مبالغ ها هنا أو رأي قاس هناك، ستجد نفسها محبوسة... معنا في الحجر الصحي.