تضع هيئة الآثار بالقاهرة في صلب أولوياتها الاهتمام بالمدرسة الصالحية، أول مدرسة يدرَّس فيها فقه المذاهب الأربعة في القاهرة، بعدما ساءت حالتها نتيجة التعديات التي اغتصبت مساحات واسعة منها والإهمال سنوات طويلة وتصدّع أجزاء منها في ثمانينيات القرن الماضي وتضرّرها من زلزال 1992، وقد انتهت الهيئة أخيراً من ترميم الإيوان في إطار مشروع ترميم آثار شارع المعز.

يوضح د. أيمن فؤاد سيّد، أستاذ التاريخ الإسلامي، أن المدرسة الصالحية أحد أهم نماذج العمارة الأيوبية في مصر لكن تخطيطها لم يكن عمودياً مثل مدارس العصر المملوكي إنما مستطيلاً غير متساوي الأضلاع، وتحتل قاعات المدارس جانبي هذا المستطيل، في كل جانب قاعتان.

Ad

يضيف سيّد أن أبنية هذه المدارس الداخلية اندثرت ولم يبقَ منها إلا إيوان الفقهاء المالكية المجاور لقبّة الملك الصالح وبوابة المدرسة وواجهتها الشمالية ومئذنتها القائمة فوق البوابة الرئيسة ويبلغ ارتفاعها 32 متراً.

مدرسة إسلاميّة رائدة

تبحث القاهرة الزاخرة بمدارسها الإسلامية المشحونة بذكريات الماضي بين الحجر عن إجابات لأسئلة لا يعرفها إلا التاريخ بعد اندثار مدارس شارع المعز التي حملت لواء نهضة الإسلام لسنوات وكانت بمثابة جامعات، ولم يبقَ منها اليوم إلا بقايا مدرسة الصالحية، ذلك الأثر الشامخ الذي يتحدى الزمن.

المدرسة الصالحية، التي بناها السلطان الصالح نجم الدين أيوب سنة 641هـ/ 1243م، أول مدرسة في القاهرة الإسلامية تفتح أبوابها لطلاب المذاهب السنية الرئيسة الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، ولم يسبقها في خطوتها هذه إلا المدرسة المستنصرية التي بناها الخليفة المستنصر العباسي سنة 631هـ/ 1233م في بغداد (تعاني اليوم تحت الاحتلال ما يجعلها عرضه للاندثار)، فجاءت صالحية القاهرة على خطى مستنصرية بغداد وتبعتها في طرازها المعماري الذي تميّز بشكل مستطيل غير مستوي الأضلاع.

باب الزهومة

كانت المنطقة التي تشغلها المدرسة راهناً تعرف في العصر الفاطمي بباب الزهومة أي باب الزفر، وكانت اللحوم التي تستخدم في مطبخ قصر الخلافة تدخل من هذا الباب وتوزع أمامه، لذلك عرف بباب الزهومة، والزهومة في اللغة هي رائحة اللحم السمين.

لما انتهت أيام الخلافة الفاطمية بعد سقوط الدولة على يد صلاح الدين يوسف الأيوبي (567هـ/1171م)، هُجر الباب ولم تعد ثمة حاجة إليه خصوصاً أن القصر الفاطمي تعرّض للهدم ولسوء الاستخدام وقسمت أجزاء كبيرة منه لسكن أمراء الدولة الأيوبية.

عندما أراد السلطان نجم الدين أيوب بناء مدرسة تنافس مستنصرية بغداد وقع اختياره على منطقة باب الزهومة من القصر الفاطمي فأمر بهدمه وبدأ بناء أول مدرسة للمذاهب الأربعة.

في المدرسة لوحة رخامية تذكارية عليها كتابة تاريخية هذا نصها: «بسم الله الرحمن الرحيم، أمر بإنشاء هذه المدرسة المباركة مولانا السلطان الأعظم الملك الصالح نجم الدين بن محمد بن أبي بكر بن أيوب، في سنة إحدى وأربعين وست مائة».

بعد بناء المدرسة أوقف الصالح أيوب عائد إيجار حي الصاغة المقابل للمدرسة بالإضافة إلى ممتلكاته الأخرى لضمان استمرار المدرسة في أداء واجباتها على أكمل وجه بعيداً عن تدخل الملوك والسلاطين من بعده في شؤونها، وهو نظام كفل لها ولمعلّميها حرية واستقلالية بعيداً عن ذهب السلطان وتدخّله.

قبة الصالح

استغلت شجرة الدر قاعة شيخ المالكية في المدرسة الصالحية لبناء قبر عليه قبة لمولاها السلطان الصالح نجم الدين الذي قتل في المنصورة في الحرب التي خاضها على الفرنجة الصليبيين (648هـ/1249م )، فأخفت أمر وفاته خوفاً من اضطراب الجيش والبلاد. ولما انهزم الصليبيون وأسر قائدهم لويس التاسع ملك فرنسا وانتهت الحملة الصليبية السابعة بانسحاب الجيوش المغيرة، أعلنت شجرة الدر نبأ وفاة السلطان الصالح ونقلت جثمانه في احتفال مهيب لا تنقصه أبهة الملوك إلى القبة التي بنتها خصيصاً له في شارع المعز ولا تزال قائمة حتى اليوم.

نظراً إلى أهمية المدرسة الصالحية وعلو قدرها بين مدارس القاهرة، قرر السلطان الملك المعز عز الدين أيبك أن يعقد نائب السلطنة مجلسه في تلك المدرسة مع نواب دار العدل (648هـ/1249م) لكشف مظالم الناس، خصوصا أنها كانت في قلب القصبة العظمى (شارع المعز راهناً) أي قلب مدينة القاهرة الاقتصادي والثقافي والاجتماعي آنذاك.

انحلال وتفسّخ

مع مرور الأيام وفي أواخر العصر المملوكي، بدأت مظاهر الانحلال والتفسّخ تضرب الدولة المملوكية، وتحولت البلاد إلى ساحات حرب مفتوحة بين فرق المماليك المختلفة، فهُجرت المدارس وأصابها الخراب، من بينها المدرسة الصالحية وانزوت بعدما كانت جوهرة شارع المعز، ومع تقليص الدولة العثمانية لنشاط المدارس في مصر فقدت الغرض الذي بنيت من أجله، وما زاد على سوء حالها أن الأهالي راحوا يستقطعون القطعة منها تلو القطعة لإنشاء محلات ومساكن حتى اختُرق حرم المدرسة من الداخل بالكامل وأصبحت بوابتها الرئيسة المطلة على شارع المعز بداية لشارع طويل يمرّ من خلاله المارة في ذهابهم وإيابهم، بعدما كانت البوابة نفسها تستقبل السلاطين وكبار الأمراء وعلماء الإسلام.

بالإضافة إلى تعدي أصحاب الحرف والمهن على حرمة الأثر، شُوّهت المدرسة بأكشاك صانعي التحف الأثرية وورشهم، ما يشكّل خطراً على سلامة ما تبقى منها. كذلك، أصابها زلزال 1992 بأضرار جسيمة ولم يبقَ من المدرسة إلا الإيوان الذي رمّم أخيراً.