إنها العاشرة مساءً من ليلة 15 سبتمبر (أيلول) عام 1914، موعد ذهاب بديعة إلى صالة مدام جانيت لتبدأ العمل. كانت جانيت في انتظارها ومعها عازف بيانو انبهر بجمال بديعة التي وقفت على المسرح لتغنّي، واختارت إحدى أغنيات منيرة المهدية، «عصفوري يامه عصفوري»، فأعجب بها الحاضرون، وراحوا يرددون معها كلمات الأغنية.

Ad

هكذا بدأت نجومية بديعة في بيروت كمغنية في صالة جانيت. وغنت تلك الليلة أغنيات منيرة المهدية كافة، مثل «يا منعنشة يا بتاعة اللوز»، «يا شمعة العز»، «أسمر ملك روحي» وغيرها. ثم طلبت منها جانيت أن ترقص، فوافقت بشرط أن تصاحبها موسيقى عربية، فعزف لها عازف البيانو لحناً كان شهيراً أنذاك، وهو «آه يا أسمراني اللون، حبيبي يا أسمراني، حبيبي وعيونه سود، أما الحمل رباني»، جعلها تتحرك كسمفونية رائعة سلبت عقول الحاضرين.

لم تنسَ بديعة تلك الليلة، وظل تاريخها محفوراً في ذاكرتها مدى الحياة، فهي بالنسبة إليها ليلة العمر التي لا تُنسى. فخلالها اكتظت صالة مدام جانيت بالحاضرين، وغالبيتهم من الطبقات الراقية، وكان هناك 14 فنانة أجنبية، بديعة أصغرهن. خصّ الجمهور بديعة بعاصفة تصفيق لم تشهدها الصالة منذ افتتاحها، وراح يصيح من كل صوب: «بديعة... عايزين بديعة».

بعدما بدّلت بديعة ملابسها، دعتها مدام جانيت الى النزول بين الجمهور وتجميع «النقطة»، ففرحت لأن جانيت ساوتها بالفنانات الكبيرات، لكن على رغم ذلك وافقت بديعة بصعوبة، إذ كانت تخشى أن تلتقي بأحد أقاربها من التجار الكبار في الصالة، ثم مضت بين الحاضرين وفي يديها صحن، فجادوا عليها بكرم منقطع النظير، لدرجة أن أحدهم حين رأى أن الصحن امتلأ نقوداً، أعطاها قبعته لتستكمل جولتها في الصالة، وما انتهت حتى عادت إلى المسرح يغمرها الفرح، لأنها لم تكن تعلم بقوانين المهنة وأن من حق مدام جانيت أن تقاسمها في ما جمعت من مال، فوافقت على مضض مكتفيةً بنصيبها من هذا المبلغ أي ثماني ليرات ذهبية. كان هذا المبلغ آنذاك بالنسبة الى بديعة بمثابة ثروة، إذ كانت تحصل عليه في مصر لقاء شهر كامل من السهر والعمل المرهق.

منذ ذلك اليوم تولدت داخل بديعة طاقة لتحدي العالم، وانتشر في أنحاء بيروت كافة، أن بديعة سليلة عائلة مصابني تغني أغنيات منيرة المهدية في صالة مدام جانيت، فراح الجميع يتحدث عن رشاقتها وجمالها المبهرين، متناقلين أخبارها وسيرتها في مصر، هي التي تعلمت هناك الرقص على أيدي كبار الأساتذة. منذ وصول بديعة لم تعرف صالة مدام جانيت الهدوء، فتزايد الإقبال عليها، وراح الشباب البيروتي يأتي من الأحياء كافة، الفقيرة والغنية، وما أن كانت بديعة تظهر على المسرح حتى تضج الصالة بالتصفيق الحاد. ارتدت بديعة أجمل الفساتين وظهرت أكثر روعة وبهاء من الفنانات الأجنبيات اللواتي تكبّرن عليها واحتقرنها.

انتشرت أغنيات بديعة في كل مكان، وترددت على كل شفة ولسان، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من الفن البيروتي آنذاك، فجنت جانيت من خلال العمل مع بديعة ثروات كبيرة، لكن بديعة سرعان ما فكّرت بأن هذه الثروات التي تدخل الى جيب جانيت هي أولى بها، خصوصاً بعدما صارت نجمة النجوم في بيروت، فقررت أن تفتتح مقهى خاصاً وسمته باسمها في بيروت، وهو ما زال قائماً حتى الآن ويحمل اسم «مقهى الحمراء».

الحرب العالمية الأولى

في تلك الأثناء، اشتعلت الحرب العالمية الأولى وألقت بتداعياتها على لبنان الذي كان آنذاك جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، فبدأت السلطات التركية تجنيد اللبنانيين في جيشها بالقوة والقهر، فكان الشباب البيروتي يهرب الى الجبل، لذا قلّ الإقبال على الأماكن العامة، ومنها صالة بديعة التي لم يعد يدخلها أحد، وأُغلقت صالة مدام جانيت. أثارت تلك الحرب حالة من الذعر في نفوس الناس، ما دفع الكثيرين للهجرة الى بلاد بعيدة، وكان الدمار رسم معالمه على خريطة العالم.

ذات ليلة وفيما كانت بديعة غارقة في شرودها بداعي ما وصلت إليه الحال بداعي الحرب، جاءها شخص من قِبل الوجيه أحمد الشرقاوي يطلبها للغناء والرقص في حفلة ساهرة، مقابل خمس ليرات ذهبية، فوافقت بشرط أن يستأذن من مدام جانيت. وبالفعل بدأت بديعة الإعداد للحفلة واجتمعت بالتخت الصغير وتدربت على الأغنيات الى أن حانت السهرة الموعودة، فهذه أول حفلة خاصة تحييها بديعة في حياتها، خصوصاً أنها وجدت فيها كبار الشخصيات التي تسمع عنهم في بيروت، فتلك الحفلة كانت أقيمت لتكريم الضباط الأتراك.

استرعى انتباه بديعة ضابط تركيّ وسيم، يُدعى صلاح الدين، فراحت تتابعه بنظراتها وهو كذلك، لكنها لم تكن تتكلّم اللغة التركية، وهو لم يكن يتكلّم العربية، وعلى رغم ذلك حدث ارتباط من نوع خاص بينهما تخطّى حواجز اللغة، فتقرّبا من بعضهما واشتدت بينهما أواصر الصداقة، فكان صلاح الدين لا يرفض طلباً لبديعة، وكان يرافقها في سهراتها وحفلاتها مثلما فعل معها سيد بك زكي في مصر.

كانت تلك الفترة صعبة وخانقة على كل الناس، عدا بديعة التي كانت في أحسن حال، فقد حاصرت المجاعة سكان الجبل، ووصلت الحال باللبنانيين الى أن يأكلوا لحم الكلاب والقطط، فمات المئات من الجوع خصوصاً الأطفال الرضع. كانت هذه الأخبار كلّها تؤجج النيران في قلب بديعة قلقاً على شقيقتها نظلة في قرية شيخان، فطلبت إذناً من صلاح الدين يسمح لها بالذهاب إليها والاطمئنان عليها، وتأمين الطحين والرز والسكر لها ولعائلتها، فوافق صلاح الدين وأرسل معها أحد أفراد حاشيته.

عادت بديعة إلى شيخان، تلك القرية التي كانت ملجأها في وقت الضيق ومفرج كروبها الأول، وها هي تأتي لتطمئن على أختها وزوجها، حاملة معها ما توافر من أكل وأغراض، كي تردّ جزءاً يسيراً من الجميل لهما.

ذهبت بديعة هذه المرة إلى شيخان في ظروف مغايرة عن السابق، فلم تأتِ إليها سيراً على الأقدام من شدة الفقر كما في الماضي، بل جاءت تمتطي أجمل الجياد، وخلفها تسير الحمير محمَّلةً بالزاد والهدايا. كان الناس آنذاك يبيعون أمتعتهم ومنازلهم من أجل لقمة عيش، وكان منزل شقيقتها يقع في أول القرية، فاختارت بديعة الذهاب ليلاً حتى تتخفى عن عيون الناس، وما إن شاهدت نظلة بديعة أمامها لم تصدق نفسها من شدة فرحتها، وراحت تقبّلها باكية. لاحظت بديعة ارتداء شقيقتها الأسود، ثم علمت أن ميخائيل زوج نظلة قد مات، كذلك دُهشت الأخيرة من الأناقة التي جاءت بها بديعة.

حاولت نظلة أن تستبقي بديعة لديها تلك الليلة، لكن كان عليها أن تعود إلى بيروت لإنجاز أمر ما لا تستطيع تأجيله، فرجعت إلى بيروت حيث كان صلاح الدين في انتظارها، فشكرته على ما فعله معها.

كوكب الشرق

آنذاك جاء حر الصيف في بيروت قاسياً، ولم تحتمل بديعة عملها في صالة جانيت القديمة، فطلبت منها العودة إلى صالتها التي استأجرتها، والغناء مع تخت عربي بدلاً من الأوركسترا الأجنبية. وبالفعل، أحضرت بديعة في اليوم التالي التخت الذي اعتادت على الغناء والرقص بصحبته في السهرات الخاصة، فاندهش الجمهور لعزف التخت الجديد، كذلك بدت بديعة بصحبته في وضع أفضل. ظلت بديعة تعمل مع مدام جانيت وحصدت الإثنتان أرباحاً طائلة مكنتهما من إبعاد شبح الجوع عنهما، فقد كان الهاجس الذي يقتل بديعة ويسيطر على فكرها بسبب ما عانته سابقاً.

سرعان ما انقضى الصيف، وحل الشتاء بلياليه الطويلة، وإذا بشخص يأتي إلى بديعة يعرض عليها العمل في مقهى «كوكب الشرق». كانت بديعة قد حققت من الشهرة ما يجعلها محل رغبة كل العاملين في هذا المجال، فعرض أصحاب «كوكب الشرق» مبلغ 30 ليرة ذهبية، وهو أكبر مبلغ يُعرض عليها آنذاك. راحت الإغراءات تحوطها من كل جانب، والعرض يتبعه عرض آخر، وهو أن تكون النقطة لها وحدها، بعدما كانت مدام جانيت تقاسمها عليها، وأمام هذه المغريات كلها صارحت بديعة مدام جانيت بالأمر، فحذرتها الأخيرة من أن للعمل في «كوكب الشرق» مخاطر، لكن بديعة استسلمت للعرض المغري، وبدأت العمل فيه.

كان المقهى يقع فوق أحد المحلات في «ساحة الشهداء» في بيروت، وكان فيه مسرح صغير، تعمل فيه فرقة أوركسترا مكوّنة من عازفات نمساويات يتمتعن بجمال خارق، ويعزفن بمهارة فائقة، إلا أنه مع دخول بديعة «كوكب الشرق» تبدلت الحال، فصارت محط كل الأنظار واختفى الجمال النمساوي وبقيت بمفردها قبلة المعجبين، كانت تعدو وترقص في كل بهاء ولياقة، تقف على المسرح وكأنها تملك الدنيا، وكان الجمهور يصفق بشدة من فرط جمال رقصاتها وغنائها.

قصد المقهى جمهور لم يعرفه في تاريخه، وكانت بديعة تحلّ في الصالة كالفراشة المحلقة في سماء ناعمة. صحيح أن رواد «كوكب الشرق» لم يكونوا جميعاً من عشاق الطرب أو السميعة الحقيقيين، فمنهم من كان يلعب الطاولة أو الدومينو، إلا أن بديعة غيرت هذا الوضع، وتسابق الناس عليها من كل مكان، وباتت محط إعجاب كل سكان بيروت، واشتهر اسمها كنجمة ليس لها مثيل.

زالت أيام الشقاء والعذاب من حياة بديعة، وحلّت محلها أيام الترف والشهرة والثراء والليالي الحلوة الخالية من أي وهم أو نكد، وكانت لا تكاد تنتهي من رقصاتها حتى تجالس الرواد في الصالة، وبمحض إرادتها، فلم يكن لصاحب الصالة أي شرط في هذا أو ذاك.

استطاعت بديعة جذب الجماهير إلى «كوكب الشرق»، وكان سرّ ذلك الإقبال هو التخت العربي، ما دفع السيد مطر صاحب المقهى الى الطلب من بديعة أن تأتي له بفتيات عربيات يساعدنها في العمل، وسرعان ما عثرت على ثريا وبهية سميكة، شقيقتين إحداهما تعزف على القانون، والثانية تجيد العزف على آلة العود بحرفية عالية، كذلك كانتا تتمتعان بنصيب وافر من الجمال، فعملت بديعة معهما مدة ليست بقصيرة، وحققن مجتمعات نجاحاً كبيراً، ما جعل أصحاب المقاهي في دمشق ينهالون عليهنّ بالعروض المغرية.

العمل في دمشق

أحد تلك العروض أتى من السيد أبو فاضل، صاحب «مقهى القوتلي» في دمشق، فاصطحب الثلاثة إلى مقهاه الذي كان عبارة عن مكان جميل ومنسق على طراز رائع، وفيه مسرح واسع يمنح الفنان الفرصة للتحرّك بحرية. راحت بديعة تبحث عن طريقة جديدة تتمكن عبرها من سلب قلوب الجماهير في المقهى الجديد، لكنها اكتشفت أن ثمة مؤامرات تحاك ضدها، إذ كانت زميلاتها الفنانات يضعنها خلفهنّ كي لا يراها الجمهور، فاشتكت لصاحب المقهى، واشترطت أن تلم النقطة مقابل أن تبقى في الوضعية نفسها بين زميلاتها، إلا أنه قال لها إن ذلك يتعارض مع أصول العمل لديهم، إذ كان الناس في الشام لا يعرفون بديعة جيداً، لأن أساليب الدعاية آنذاك لم تكن منتشرة، بل كان الأمر يعتمد فحسب على منادٍ ينادي بتفاصيل السهرة ومكانها.

أمر آخر شغل بديعة وهي في دمشق: هل سيعلم أفراد أسرتها بأنها تعمل في الشام؟ ففكرت في إخبارهم بوجودها هناك، وذلك بدافع الخوف من أن يتعرض لها أحد منهم، فطلبت من صاحب المقهى ألا يذكر اسم مصابني وهو ينادي في الأسواق، إلا أن كل محاولاتها إخفاء عملها في الشام قد فشلت، إذ سرعان ما انتشر الخبر وراح الناس يسألون: هل هي بديعة ابنة المصابني فعلاً أم أنه تشابه أسماء؟ كانت بديعة تستمع إلى الألسنة وهي في غرفة عملها، فتهاجمها المخاوف.

تناهى خبر وجود بديعة في الشام الى مسامع شقيقها توفيق، فأراد التأكّد من ذلك بنفسه، وحرصاً منه على ألا يكشفه أحد ذهب متنكراً إلى «مقهى القوتلي»، وشاهد البرنامج الذي قدمته بديعة بالكامل، لكنه لم يعرفها في البداية، لكن ما إن نزلت عن المسرح حتى راح يتفرّس فيها، ولما اقتربت منه كشف القناع الذي كان يرتديه، فصرخت بديعة في ذعر قائلة: «توفيق أخي».

هجم توفيق على بديعة كالوحش الكاسر يريد قتلها من دون أن يراعي وجود الحاضرين، فراحت تصرخ وتستغيث: «الحقوني.. الحقوني.. هذا الرجل يريد قتلي»، فتجمّع كل من كان في المقهى عليه وأبعدوه عنها، فيما كان ثائراً كالحيوان المسعور.

بعد أن حال الناس بين بديعة وشقيقها وهدأت نفس الأخير قال بلهجة المنكسر: «أعذروني أنا أعلم أنني أخطأت»، ثم خرج من المقهى يبكي بعيداً عن أعين الناس. راحت بديعة تتذكر كم أبكاها توفيق وكم تركها في الليالي الطوال ودموعها لا تفارق خدّيها، إذ كان سبب نكبتها الكبرى في الحياة. فرحت بديعة لانكسار توفيق، هو الذي «كسرها» وهي طفلة، وأذلّها وهي شابة، كذلك كان سبب شعورها الدائم بالذل والهوان والاغتراب، لقد حال توفيق دون أن تكون زوجة هانئة في بيتها حين طرد شقيق الشاعر إلياس الفران، إذن ماذا يريد توفيق الآن؟؟!