يشكل تبادل القصف المدفعي بين الكوريتين، غداة الكشف عن ألفي جهاز طرد مركزي لإنتاج اليورانيوم بهدف إنشاء مفاعل نووي جديد في كوريا الشمالية، تحدياً مباشراً للسياسة الآسيوية التي يعتمدها الرئيس الأميركي باراك أوباما. كذلك، تدل النزعة الأخيرة إلى استعمال القوة العسكرية والأعمال العدوانية انطلاقاً من بيونغ يانغ على هشاشة النظام الراهن الذي يحكم علاقات القوة في أنحاء هذه المنطقة الحساسة.

بذل أوباما ووزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، خلال رحلاتهما المتكررة، جهداً كبيراً لإبراز أن الولايات المتحدة أصبحت تركز الآن على شرق آسيا، بعد الانغماس في أوضاع أفغانستان والعراق. غير أن الصين، من خلال إعلانها أن بحر الصين الجنوبي هو "مصلحة حيوية" بالنسبة إليها ونظراً إلى أفعال كوريا الشمالية العدائية الآن، باتت تنافس الولايات المتحدة صراحةً للهيمنة على العالم. كذلك، ستواجه القوات البحرية والجوية الأميركية، خلال السنوات المقبلة، تحدياً جدياً في هذه المنطقة بفعل نشوء هندسة صينية جديدة لمعاركها الجوية والبحرية الخاصة.

Ad

بالتالي، لا تقتصر اعتداءات كوريا الشمالية على كوريا الجنوبية فحسب، بل يطول تهديدها اليابان أيضاً، إذ تُعتبر قيادتها الوطنية فاشية بقدر ما هي شيوعية، وقد أظهرت عدائية هائلة تجاه اليابانيين الذين احتلوا شبه الجزيرة الكورية بين عامي 1910 و1945. باختصار، تواجه اليابان تجربة واقعية عمّا يمكن أن تكون عليه آسيا البحرية من دون هيمنة القوة الأميركية الأحادية الجانب.

في هذه القضية، يجب ألا تتوقع الإدارة الأميركية أي فترة تهدئة من جانب بيونغ يانغ التي تغيب عنها طريقة التفكير الصائبة التي تميز دول آسيا من حيث التعلم من المسار التاريخي الطويل عن كوريا الشمالية، وهو البلد الوحيد في شرق آسيا الذي لا يتمتع قادته بأي رؤية استراتيجية على المدى البعيد، فهم مهووسون بضمان صمودهم على المدى القصير، ويتضح هذا التفكير جلياً في إصرارهم على برنامجهم النووي. وبما أن التحرر الاقتصادي قد يؤدي إلى زعزعة استقرار الدولة البوليسية الهشة، تدرك عائلة كيم جيداً أن نظام الردع النووي هو الطريقة الوحيدة التي تضمن صمودها.

إن خوف الولايات المتحدة من قدرة كوريا الشمالية على تصنيع، سلاح بدائي وبالتالي استعماله في وجه أي غزو محتمل هو ما يقود واشنطن إلى طاولة المفاوضات. يدرك قادة كوريا الشمالية أن صدام حسين، لو كان يملك إمكانات نووية في عام 2003، لكان وأبناؤه يستأثرون بالسلطة اليوم. نتيجةً لذلك، عمد الكوريون الشماليون إلى تعزيز استثمارهم في برنامجهم النووي، وهم بذلك يجازفون بعلاقاتهم مع كوريا الجنوبية والصين المجاورتين بسبب أهمية البرنامج بالنسبة إلى صمود النظام.

كذلك، يشكل البرنامج النووي العدائي، إلى جانب الاعتداءات العسكرية على كوريا الجنوبية، بما في ذلك إغراق سفينة تابعة لكوريا الجنوبية عن طريق غواصة في شهر مارس الماضي، طريقة أخرى تسمح للقائد الجديد كيم جونغ يون بتعزيز إمكاناته. عندما كان في العشرين من عمره، وكان يتحلى حينها بخبرة متواضعة، نجح في الوصول إلى الحكم بدعم عمه وعمته النافذين، جانغ سونغ تايك وكيم كيونغ هو، بفضل شبكاتهما الخاصة من العلاقات النافذة.

يعني ذلك أن كوريا الشمالية تتمتع اليوم، وللمرة الأولى في تاريخها، بقيادة متعددة الأقطاب، ولا تتركز السلطة فيها بين يدي شخص واحد. يحافظ أي نظام غير شرعي ومنقسم على موقعه في السلطة من خلال إبقاء شعبه في حالة حرب دائمة، ما يشجّع في المقابل مختلف عناصر بنية السلطة على التحرك في اتجاه واحد.

بالتالي، قد تكون العدائية الهائلة التي أظهرتها كوريا الشمالية إشارة إلى أن النظام يواجه مشاكل كبيرة. قد يؤدي أي انهيار مفاجئ للوضع إلى إطلاق أكبر موجة من المشاكل الإنسانية على الإطلاق، نظراً إلى توافد أعداد ضخمة من اللاجئين إلى الحدود الصينية ومع تحول 23 مليون نسمة ممّن يعانون مجاعة حادة إلى عبء ثقيل على المجتمع الدولي- بل عبء يثقل كاهل جيوش الولايات المتحدة والصين وكوريا الجنوبية على وجه التحديد. وفي حين يُعتبر تغيير النظام في الشمال أمراً مرحباً به نظرياً، يجب ألا ننسى أن الأمر الوحيد الذي قد يكون أسوأ من حكومة توتاليتارية هو عدم وجود أي حكومة على الإطلاق، ويجب أن نكون قد تعلمنا هذا الدرس من العراق.

في مطلق الأحوال، بدأ المناخ الأمني الهادئ نسبياً الذي ساد في شرق آسيا خلال العقود الأخيرة يتراجع تدريجياً، وقد طغى ذلك المناخ بفعل القوة البحرية الأميركية الأحادية الجانب والهدوء القائم في كوريا الشمالية، كما ساهم هذان العاملان بتحقيق نمو اقتصادي في أرجاء المنطقة، ومع بروز الدور العسكري الصيني، وتراجع الدور العسكري الأميركي الذي قد يواجه تخفيضات في ميزانيته محلياً، وتراجع الاستقرار وزيادة العدائية في كوريا الشمالية، لا يمكن الاعتماد على هدوء منطقة شرق آسيا بعد اليوم. ستزيد هذه العوامل من أعباء القوات العسكرية التابعة لجميع الدول، بدءاً من اليابان ووصولاً إلى أستراليا، والأهم من ذلك، سيؤدي هذا الوضع إلى اختبار العلاقات الأميركية الصينية أكثر من أي وقت مضى.

* مسؤول بارز في "مركز الأمن الأميركي الجديد" وهو مؤلف كتاب "الرياح الموسمية: المحيط الهندي ومستقبل القوة الأميركية" (Monsoon: The Indian Ocean and the Future of American Power).