مرَّ الأزهر الشريف طوال التاريخ الحديث والمعاصر بمحاولات عدة لإصلاح أوضاعه وتحديث بنيته، سواء كانت إدارية تتعلق بهيلكه ووضعه المالي أو التشريعات التي تحكم حركته، أو كانت تتعلق برؤيته الدينية ومناهجه التعليمية. ولا مجال للحديث هنا عن محاولات الإصلاح الإداري والمالي، فالاهتمام سينصبُّ على ما جرى من محاولات النهوض بدور الأزهر التعليمي والديني، لأن هذا هو محل الاهتمام حالياً، ليس في مصر وحدها، ولا في العالم الإسلامي فحسب، بل في العالم أجمع.إذا كانت وظيفة الأزهر التعليمية قد بدأت عقب الانتهاء من بنائه بسنوات قليلة حين جلس أبو الحسن بن النعمان قاضي القضاة ليتحدث في «فقه آل البيت»، فإن أول محاولة حقيقية لإصلاح التعليم الأزهري انتظرت أكثر من ثمانية قرون، إذ تمت أيام تولي محمد العروسي المشيخة، خلال الفترة المتراوحة بين 1818 و1829، حين سعى إلى إدخال علوم الطب والكيمياء والطبيعة لتشكل جزءاً من مناهج الأزهر التعليمية، لكن سعيه خاب، نظراً إلى عدم اقتناع القيمين على الأمر آنذاك بأن الأزهر قد ينتج تعليماً وعلماً خارج الدين. ولما جاء من يقتنع بالفكرة مات العروسي فدفنت معه موقتاً. نعم انتعش دور الأزهر التعليمي في العصرين المملوكي والعثماني، بعد طول إهمال في عهد الأيوبيين لحساب مدارس اختصت بتدريس فقه المذهب السني، لكن هذا الانتعاش كان بمثابة «توسع أفقي» في هذا الدور، إذ زيد في عدد المدارس الدينية بعد تجديد بناء الأزهر وتوسيع مساحته، فزاد معها عدد الطلاب الملتحقين به، وعدد المدرسين الذين يعقدون حلقات العلم الديني فيه. لكن ظل الأمر مقتصراً غالباً على تدريس العلوم الدينية من فقه وحديث وتوحيد ومنطق وعلم كلام، إلى جانب مبادئ في علم الفلك والرياضيات والآداب. ولم يكن الطلاب مقيدين بالانتظام في حضور دروس العلم، ولم تتوافر لوائح تنظم سير العملية التعليمية، وتحدد مناهج الدراسة ومدتها وأعضاء هيئة التدريس. بل كان الطلاب أنفسهم يتحكمون في تعيين مدرسيهم، من خلال الإقبال على حلقاتهم من عدمه. فمن يداوم الطلاب على حضور دروسه، وتتسع حلقته العلمية، يجيز شيخ الأزهر صلاحيته للتدريس، والعكس صحيح.ووضع الشيخ حسن العطار، الذي تولى مشيخة الأزهر في الفترة من 1830 و1834، لبنة جديدة في بناء إصلاح التعليم الأزهري، مستغلاً علاقته المتوازنة مع محمد علي، من جهة، وسعة اطلاعه من جهة ثانية، إذ كان ملمّاً، إلى جانب علوم الدين، بعلم الفلك والطب والكيمياء والهندسة والموسيقى والشعر، ما حدا بالمؤرخ المصري العظيم عبد الرحمن الجبرتي إلى أن يصفه قائلاً: «قطب الفضلاء، وتاج النبلاء ذو الذكاء المتوقد والفهم المسترشد، الناظم الناثر، الآخذ من العلوم العقلية والأدبية بحظ وافر». وقد استفاد العطار مما خلفته الحملة الفرنسية من علوم، ومن رحلاته إلى أوروبا وبلاد الشام، في سعيه إلى إصلاح الأزهر، وكانت الثمرة إنتاج جيل من رواد النهضة المصرية الحديثة، ممن تتلمذوا على يد العطار، وفي مقدمهم رفاعة رافع الطهطاوي، ومحمد عياد الطنطاوي.خطوة فارقةلكن الخطوة الفارقة على درب إصلاح التعليم الأزهري جاءت في عهد الخديوي إسماعيل، ودشنها قانون صدر عام 1872، لتنظيم حصول الطلاب على شهادة «العالمية»، وتحديد مواد الدراسة بإحدى عشرة مادة زاوجت بين العلوم الدينية والأدبية، إذ حوت الفقه والأصول والحديث والتفسير والتوحيد والنحو والصرف والبيان والبديع والمعاني والمنطق. كذلك حدَّد القانون طريقة امتحان الطلاب، بأن يوضع الطالب موضع المدرس، ويصبح ممتحنوه في موضع الطلبة، فيلقي الأول درسه ويناقشه الآخرون في مختلف فروع العلوم، نقاشاً مستفيضاً قد يمتد لساعات طويلة، بعدها يتم الحكم على مستواه العلمي. وبعد هذا بربع قرن تقريبا، وتحديداً عام 1896، دبَّت عافية الإصلاح قوية في ربوع الأزهر، بفعل قوانين عدة صدرت في عهد الإمام حسن النواوي، الذي تولى المشيخة خلال الفترة من 1896 إلى 1900، كان للإمام العظيم محمد عبده دور كبير في سنها. وحددت هذه القوانين سن القبول للأزهر بخمسة عشر عاماً، شريطة الإلمام بمبادئ الكتابة والقراءة. والأهم كان إدخال علوم عدة على المناهج التعليمية الأزهرية، منها التاريخ الإسلامي والهندسة وتقويم البلدان (الجغرافيا). وبمقتضى القانون نفسه أضيفت «شهادة» قبل العالمية سميت «الأهلية»، كانت تتيح لحاملها الخطابة في المساجد، أما من يحصل على «العالمية»، فيحق له التدريس في الأزهر. وقد فتح الإمام محمد عبده، برؤيته المستنيرة الموسوعية، نوافذ الأزهريين على الحياة الفكرية العامة، فراح تلامذته، أو من تأثروا بأفكاره، يكتبون إلى الصحف اليومية، بعد طول احتجاب. ومن بين هؤلاء محمد شاكر وإبراهيم الحيالي وعبد المجيد اللبان ومحمد حسنين مخلوف، ومن بعدهم مصطفى لطفي المنفلوطي وعبد العزيز البشري ومصطفى عبد الرازق وقاسم أمين ومحمد الههيادي وعبد الرحمن البرقوقي، بل وصل الأمر إلى أن بعضهم أصدر مجلات أدبية، مثل «الثمرات» لحسن السندوبي، و{عكاظ» لفهيم قنديل، و»البيان» لعبد الرحمن البرقوقي، وشارك كثيرون في الجدل الفكري الذي أحاط بالحياة الاجتماعية والأحوال السياسية، التي سبقت ثورة 1919 وواكبتها وأعقبتها.وخلال عهد الإمام سليم البشري (1900 - 1902/ 1909 ـ 1916) أُنشئت «هيئة كبار العلماء»، تحديداً عام 1911، التي تغير اسمها في ظل مشيخة الإمام محمد مصطفى المراغي (1928 - 1929/1935 - 1945) إلى «جماعة كبار العلماء»، وكانت تتكون من صفوة علماء الأزهر، وهي نواة لـ»مجمع البحوث الإسلامية» الذي يشتد حضوره راهناً في الحياة الاجتماعية، إلى جانب «جبهة علماء الأزهر» التي تملأ الدنيا صخباً من خلال تعليق بعض أعضائها على الأحداث الجارية، أو رقابتهم على بعض الأعمال الفكرية والثقافية، التي يدور حولها لغط، ويتهمها البعض بالتجديف في الدين، وهي المسألة التي زادت بشكل ملموس في عهد إمامة الشيخ جاد الحق علي جاد الحق (1982 - 1996).لكن بذرة تحول الأزهر إلى «جامعة» غرست عام 1930، في عهد الإمام محمد الأحمدي الظواهري (1929 - 1944)، إذ تم إنشاء ثلاث كليات هي «أصول الدين» و»الشريعة» و»اللغة العربية»، فلما جاء عام 1961، صدر القانون رقم 103، الذي بات الأزهر بمقتضاه «جامعة»، بعد أن أضيفت إلى كلياته الثلاث المذكورة كليات مدنية مثل «الهندسة» و{الطب» و{الإدارة» و{الزراعة» و{البنات»، وقد كان ذلك في عهد الإمام محمود شلتوت (1958 - 1964).ووازى هذه التطور في البنية التعليمية تدرج في الإصلاح الفكري للأزهر، كان يعلو ويهبط، يتوهج ويخبو، حسب التكوين العقلي لمن يتولى المشيخة. وإذا كانت حركة النهضة المصرية قد اشتد عودها مع بداية القرن العشرين، فإن الأزهر في تلك الآونة، كان يقوده رجل ناصر الثورة العرابية، وتولى نظارة دار الكتب، وكان صديقاً لمحمود سامي البارودي، وتحمَّس بقوة لأفكار الإمام محمد عبده الإصلاحية، وهو الشيخ علي محمد الببلاوي (1902 - 1905). لكن خلفه الشيخ عبد الرحمن الشربيني (1905 - 1906)، كان تقليدياً سلفياً، عادى الإصلاح وتحيز للقديم. فلما جاء المراغي وضع نواة رقابة الأزهر على المنتج الفكري من خلال إنشاء هيئة تراقب البحوث والثقافة الإسلامية والكتب التي تهاجم الدين. وتبعه الظواهري، الذي كان إصلاحياً إلى حد كبير، يميل إلى تجديد الفقه بما يواكب التغيرات الاجتماعية والسياسية، ويسعى إلى أن يكون علماء الدين ملمين بمجريات الواقع، وأن يفهموا في السياسة قدر فهمهم في الفقه والأصول والحديث...إلخ. وقد كان الظواهري يطبق هنا أفكاره التي ضمنها في كتاب وسمه بـ{العلم والعلماء»، دافع فيه باستماتة عن أفكار محمد عبده الإصلاحية، ما دفع الخديوي عباس حلمي إلى محاربته، وجمعت نسخ الكتاب لتحرق في ساحة الجامع الأحمدي في طنطا، لكن مصادرة الكتاب، لم تحل دون ذيوعه، فانكب الطلاب ينسخون منه صوراً باليد، ويتبادلونها. وأعاد الإمام عبد الحليم محمود طبع الكتاب، حين كان يتولى أمانة مجمع البحوث الإسلامية.الانفتاح على الغرببعد الظواهري تبوأ مشيخة الأزهر رجل مستنير، من بين تلامذته محمد عبده، إنه الإمام مصطفى عبد الرازق (1945 - 1947)، الذي درس الفلسفة والآداب في جامعة السوربون، فزاوج بين ثقافة الغرب وتراث الإسلام، لذا نادى بانفتاح الأزهر على الغرب، وشيَّد قاعة الإمام محمد عبده في الأزهر لتكون ملتقى للمؤتمرات الدولية الإسلامية، وترجم بعض الكتب الدينية، وفي مقدمها «رسالة التوحيد» إلى اللغة الفرنسية. وواصل خلفه الإمام محمد مأمون الشناوي (1947 - 1950) ما أمكنه مسيرة عبد الرازق، حين أرسل نوابغ طلاب الأزهر لتعلم اللغة الإنكليزية، كي يصبحوا دعاة عصريين قادرين على مخاطبة «الآخر». أما الإمام عبد المجيد سليم (1950 - 1951/ 1952 - 1954)، فقد انصب اهتمامه على تحرير الفقه من التقيد بالمذاهب، التي حاول التقريب بينها، ودعا إلى إعمال العقل في الأمور الدينية. وبعد ثورة يوليو 1952، حاولت غالبية من تولوا مشيخة الأزهر تطويع رأي الدين لخدمة السياسات السائدة، فشلتوت أفتى بأن «القوانين الاشتراكية لا تتعارض مع الإسلام»، والدكتور محمد الفحام الذي تولى المشيخة في الفترة من (1969 - 1973)، اعتبر أن الانقضاض على الإشتراكية بمقتضى ما أسماها السادات ثورة التصحيح عام 1971 هو «خطوة تأتي لأجل كفالة الحريات للوطن والمواطنين وسيادة القانون وبناء لدولة الجديدة». لكن الأزهر كان قد استوعب كثيراً من الأفكار الإصلاحية التي روج لها رواده على مدار قرن، يبدأ من منتصف القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، إلا أنه لم يتخذ خطوات فارقة على هذا الدرب، نظرا إلى طغيان «السياسي» على «الديني» و{الفكري» معاً عقب قيام ثورة يوليو، بما جعل الخط البياني في إصلاح الأزهر، يعلو ببطء لا يقارن أبداً بقفزات كانت تحدث سابقاً، حين شرع أنصار الليبرالية في طبع بصماتهم على الرؤية الدينية، بما يمكنها من أن تلقي بغمارها تدريجاً في الواقع المعيش، وتخرج من إسار الكتب القديمة، التي أنتجها الفقهاء في عصور ولت.وتجربة إصلاح الأزهر هذه تعد واسعة مقارنة بمحاولات إصلاح الطرق الصوفية، التي لم تفلح، إلى الآن، في تنقية الممارسات الصوفية من بعض الخرافات والشعوذة التي لحقت بها، ولم تتقدم على مسار الإصلاح الإداري والفكري كثيراً، واعتمدت في الجانب الأول على السلطة السياسية، التي كانت معنية طيلة الوقت بسن القوانين، وإصدار اللوائح، التي تنظم عمل الطرق الصوفية، في إطار حرصها على أن يبقى المتصوفة في كنف السلطان. ويطلق المجلس الأعلى للطرق الصوفية لفظ «الإصلاح» على ممارسات بسيطة تتمثل في ضبط حركة المريدين في المدن والقرى للتماشي مع القوانين التي تحكم عمل الطرق الصوفية، والقوانين العامة في البلاد. لكن هذا الضبط يأخذ دوما رد الفعل، ولا يتم إلا حين يستفحل الخطأ، وتفوح رائحته. وعلى رغم أن بعض الطرق نجح في إحداث تقدم في مسيرة الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي والإداري مثل الحامدية الشاذلية والعشيرة المحمدية، فإن ثمة طرقاً لا تزال تخلط بين الدين والفلكلور إلى حد بعيد، مثل الرفاعية، وأخرى تمضي في خروجها على القواعد التي تحكم عمل الطرق الصوفية، مثل البرهانية.الإحياء الإسلامي... استنهاض الأرض والدين والمعرفة والسياسةارتبط الإحياء في الفقه الإسلامي بعملية استصلاح الأرض الموات وزراعتها، استناداً إلى حديث شريف يقول: «من أحيا أرضاً مواتاً فهي له». فالمسلم الذي يضع يده على أرض بوار لا يملكها أحد يصبح هو مالكها إن زرعها. ومعظم الفقهاء لا يشترط إذناً من الحاكم لمن يقدم على هذه الخطوة، لكن أبا حنيفة يذهب إلى أنه لا تجوز زراعة الأرض الميتة من دون إذن ولي الأمر.وأعطى الإمام أبو حامد الغزالي كلمة الإحياء معناها الديني، العقدي والفقهي، حين وضع مؤلفه ذائع الصيت «إحياء علوم الدين» الذي يعد أهم كتبه على الإطلاق، لذا نسخ على ضخامته أكثر من مائتين وخمسين مرة قبل اختراع الطباعة، وترجم إلى لغات حيَّة عدة، وقدمت له شروح كثيرة، ولخص زيادة على ست وعشرين مرة. ويحتوي الكتاب على معارف كثيرة في العقيدة والفقه والتصوف والفلسفة، «وهو يتأسس على كلمة الإخلاص لله بالتوحيد، والإخلاص للدين بالرجوع إلى حظيرته، والعمل بجوهره، ويحاول فيه مؤلفه تصحيح مسائل كثيرة تناولها سابقوه من الفقهاء وعلماء الدين، بحل ما عقدوه، وكشف ما أجملوه، وترتيب ما بددوه، ونظم ما فرقوه، وإيجاز ما طولوه، وضبط ما قرروه، وحذف ما كرروه، وإثبات ما حرروه، وتحقيق أمور غامضة استعصت على الأفهام. وينقسم الكتاب إلى أربعة أقسام، الأول عن العبادات وتناول فيه الغزالي العلم وقضاياه، والعقيدة وقواعدها، والطهارة وأسرارها، وأركان الإسلام ومغزاها، وآداب تلاوة القرآن، والأذكار والدعوات، وأوراد الليل. والثاني عن العادات وشمل آداب الأكل والنكاح والكسب والمعاش والألفة والصحبة والعزلة والسفر والسماع والوجد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأوجه الحلال والحرام والشبهات، وأخلاق النبوة. والثالث عن المهلكات وتطرق فيه إلى أوضاع القلب، ورياضة النفس، وآفات اللسان، وكسر شهوتي البطن والفرج، وذم الغضب والحسد والحقد والبخل وحب المال والجاه والرياء والكبر والعجب والغرور والدنيا بأسرها. والرابع عن المنجيات وبين فيه حقيقة التوبة، وفضل الصبر والشكر، وطبيعة الخوف والرجاء، وأوضاع الفقر والزهد، وأحوال السائلين والسالكين، وقضية التوحيد والتوكل، والمحبة والشوق والأنس والرضا، والنية والإخلاص والصدق، والمراقبة والمحاسبة، والتفكر، وذكر ما بعد الموت.وهذا الشمول الذي سيطر على كتاب الغزالي انتقل إلى كثيرين من بعده، فاستخدموا لفظ «الإحياء» مراراً وتكراراً كلما اعتقدوا أن الناس قد انصرفوا عن «الدين الصحيح»، وأن العقيدة قد خالطتها شوائب وجرحتها ألوان عدة من الشرك الخفي، واللهو الظاهر. وارتبط الإحياء هنا بمسألة العودة إلى الدين في صورته النقية التي كان عليها وقت نزول الوحي وتكليف محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة. وقدم كثير من علماء الإسلام وفقهائه المحدثين مثل هذا التصور، من أمثال محمد بن عبد الوهاب ورشيد رضا.ثم أخذ المفهوم بعداً جدياً وعميقاً بالحديث عن «إحياء التراث»، من خلال التعريف به، و{تحويله من ركام مخطوطات وأوراق صفراء إلى طاقة فاعلة وسارية في كيان الأمة، تؤثر وتدفع تقدمها وتطورها». وانطلق المنشغلون بهذه القضية من اعتبارات عدة تتمثل في أن التراث ينطوي على إيجابيات لا يمكن نكرانها، من بينها انبثاقه عن مصدر إلهي، وعمقه الزمني، وقابليته للتجديد والتنقية، وقبوله للعالمية، وسعته وشموله، ونزعته الإنسانية، وقدرته على تبيان الفكر الإسلامي في شتى مراحله، وإعجاب غير المسلمين به، وكونه جهداً بشرياً يجب احترامه.وهذا التقدير قاد كثر إلى بذل جهود ملموسة في العناية بهذه المسألة، وبدأت العملية في منتصف القرن التاسع عشر على يد رفاعة الطهطاوي (1801 - 1873) الذي وضع لبنة مشروع مصري لإحياء التراث العربي، وإثر هذا شرعت مطبعة بولاق منذ سنة 1857 تقدّم الأعمال الفكرية التي اقترح الطهطاوي وتلامذته تحقيقها ونشرها على الناس. ثم أسس الإمام محمد عبده (1849 - 1905) «جمعية إحياء العلوم العربية» التي وظفت جهدها وطاقتها في إحياء التراث. وفي سنة 1910 رصد «مجلس النظار» المصري ميزانية لتمويل مشروع أعده أحمد زكي لإحياء التراث، بدأ بطباعة كتاب «نهاية الإرب في فنون العرب» للنويري، لكنه لم يلبث أن تعثر. وتم تكوين لجنة لإحياء التراث في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مصر، ومركز لإحياء التراث في الهيئة المصرية العامة للكتاب، ولجنة للتراث في مجمع البحوث الإسلامية، ومركز للتراث في مكتبة الإسكندرية. ونشأت هيئات للتراث في بلاد عربية شتى، من بينها المملكة العربية السعودية والإمارات. وتوازت مع ذلك جهود فردية لتحقيق التراث ونشره، سواء في دور النشر الحكومية أو الخاصة، وظهرت سلاسل تعني بهذا الأمر، مثل سلسلة «الذخائر» التي تصدرها الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة. ولم يقتصر الأمر على كتب التراث الدينية والأدبية والعلمية، بل امتد إلى الحفاظ على الموروث الشعبي بمختلف أشكاله الفنية والإنتاجية.ويعطي عالم السياسة حامد ربيع قضية إحياء التراث بعداً أكثر عمقاً حين يقوم بتشريح معناها ومبناها، واصلاً الماضي بالحاضر، ومعولاً على التراث في بناء مستقبل الأمة العربية ـ الإسلامية، إذ يعتبر أن إحياء التراث لا يعني نشر بعض أمهات الكتب في الفلسفة أو الفقه، بل السير في مسالك متعددة تبدأ من طبيعة وحقيقة التصور العلمي لوظيفة ذلك الإحياء. وتتوزع وتتنوع هذه الوظيفة بين تصورات ثلاثة كل منها يعكس منهاجية مستقلة، على رغم أن أياً منها لا يستطيع في النهاية إلا أن يأتي ليكمل التصور الآخر، فالإحياء قد يقتصر على الوظيفة اللغوية، وقد يتعدى ذلك إلى الوظيفة التاريخية، لكنه قد يرتفع إلى مستوى الوظيفة السياسية، ليساهم في تشكيل التكامل القومي، وربط الحركة الآنية في مختلف نماذجها بوظيفة المجتمع التاريخية والحضارية، والحفاظ على وعي الأمة الجمعي، والمساهمة في بناء الدولة العصرية، وتعزيز دور الدين كمؤثر في التعامل الدولي. وقد حرص «الإسلاميون» على التفرقة بين حركة الإحياء في التراث العربي ـ الإسلامي ونظيرتها في الحضارة الغربية المعاصرة. فالغرب لا يميز في نظرته للتراث بين الدين وبقية الإرث الإنساني الذي خلفه الإغريق والرومان الأقدمون، ولا بين ما نزل به الوحي وما أنتجه البشر في تاريخهم المديد. وعلماء النهضة في أوروبا سعوا إلى توثيق علاقتهم الفكرية والنفسية بتراث اليونان والرومان الوثني، متجاوزين تاريخ النصرانية والكنيسة، التي ساهمت في تزكية الفساد والاستبداد والظلامية التي لفت القارة العجوز طيلة القرون الوسطى، فلما وصلنا إلى القرن العشرين كانت أوروبا يسيطر عليها العبث وفقدان اليقين الديني، ما عزل الأجيال الصاعدة عن المسيحية. أما تراث الإسلام فعلى العكس من هذا تماماً، لأنه مرتبط بالدين واليقين، ويشكل جزءاً أصيلاً من هوية الأمة الثقافية، والتي من دونها تضمحل وتتفكك ذاتيا.ومسألة إحياء التراث كانت، ولا تزال، إحدى المسائل الأساسية التي يدور حولها جدل بين العرب والمسلمين المعاصرين، من مختلف التيارات الفكرية. فها هو أحد رموز الليبراليين العرب يتساءل: ماذا نحن العرب المعاصرين فاعلون للتوفيق بين أصيل موروث، وجديد معاصر؟ ثم يجيب: «أحسب أن الطريق أمامنا واضح، وهو طريق تربوي من الأساس. فما علينا إلا أن نربي ناشئتنا على أن يحتفظوا بميراثهم في تدريب الإرادة الماضية، وفي التطلع والمغامرة، ثم يضيفون إلى ذلك تدريباً آخر على النظر العقلي، والبحث النظري».وتتأسس هذه الرؤية على اعتبار أن «التاريخ العربي هو كالنهر دفاق المياه، وظلّت للنهر هويته منذ ألوف السنين، على رغم جريان مائه وتبدله، يوماً بعد يوم، بل لحظة في إثر لحظة، والذي يحفظ للنهر هويته هو التزامه مجرى واحداً، وهكذا نريد لحياتنا أن تكون: نحفظ لهذا الإطار الأساس العام، ووجهة النظر الرئيسة، ثم نجدد المضمون، الذي يملأ ذلك الإطار، أو الذي يشغل تلك الوجهة من النظر، كلما جاءت العصور المتوالية بحضارات متعاقبة، لكل حضارة منها مضمونها الجديد».وقد امتد الأمر إلى الحديث عن «الإحياء الحضاري» أو استعادة التقاليد العربية ـ الإسلامية» بحثاً عن سبل النهوض العربي في الماضي، واكتشاف سر قوة الحضارة الإسلامية وتميزها، عبر المزاوجة بين الإحياء الديني والنضال الحضاري، واستحضار الإطار القيمي والأخلاقي الذي كان يحكم حركة العرب وممارساتهم خلال ازدهار حضارتهم، واستلهام نظم الضبط الاجتماعي التي كانت سائدة آنذاك.
توابل
المجددون والتجديد في الإسلام 13 إصلاح الأزهر... شروق وغروب
07-09-2010