بعد اغتيال الرئيس اللبناني رفيق الحريري، لوحظ أن ثمة عودة إلى الحديث عن تجربة الرئيس الاستقلالي رياض الصلح في لبنان (ابن العائلة السياسية)، ربما لأن في حياته وتجربته تشابهاً مع تجربة الرئيس الحريري، وكلاهما ساهم في صنع استقلال لبنان وبناء الدولة اللبنانية في ظلّ غطاء عربي.العودة إلى رياض الصلح تجلّت في مرحلة تشبه المرحلة التي اشتهر فيها هذا الرئيس، وهي انسحاب سورية من لبنان ومحاولة مجموعة كبيرة من القادة اللبنانيين ترسيخ الاستقلال اللبناني على أسس ميثاقية تقوم على التقارب بين الطوائف من خلال إيجاد خيوط سياسية مشتركة. لم يحضر طيف رياض الصلح في الأحاديث المقاهوية أو التلفزيونية بل من خلال الكتب والمقالات التي تبيّن سيرة رجل كان صانعاً في سياسة لبنان وسياسة البلدان المجاورة. فقد كتب الباحث وجيه كوثراني مقالة بعنوان «مشروع الحريري: «ميثاق وطني» من غير شريك!»، وانطلق في مقالته من خبر (ورد في «النهار» يوم 29 مارس 2005)، في زاوية «أسرار الآلهة» هذا نصه: «قال الأب سليم عبو في حديث له إنه طلب من الرئيس الحريري أن يكون رياض صلح آخر فأجابه لِمَ لا؟ ولكن أعطوني بشارة الخوري آخر». وأصدر الباحث وضاح شرارة كتاب «أيام القتل العادي من رياض الصلح الى رفيق الحريري»، وفيه يكشف الوجه المركّب لثقافة الاغتيال، ومسار الرئيسين (الحريري ورياض الصلح) وطريقة اغتيال كلّ منهما. يرسم شرارة مسار تواريخ ليبيّن واقع مجتمعات وأنظمة مشرقية مستفحلة بالقرابة والدم، والمفارقة التي يلاحظها شرارة في كتابه أن الرئيس رياض الصلح اغتيل في الأردن وكان أحد مرافقيه من آل العرب من منطقة طريق الجديدة، والرئيس رفيق الحريري اغتيل في بيروت وكان مسؤول أمنه «أبو طارق» يحيى العرب، وفي ذلك شيء من ملامح التصوف في علاقة هذه العائلة بحماية الرؤساء. واختار شرارة اغتيال رياض الصلح من ضمن الحوادث المروية الكبيرة في الكتاب، ويعتبر شرارة أن سرد الاغتيال ليس تقليباً في ألبوم صور صفراء تغفو مرضية حيث وقعت وفي الأوقات التي وقعت فيها. فذرية الحوادث، شأن أصحابها وأهلها، لا تزال حية تُرزق. فلا رياض الصلح صفحة مطويّة ومنصرمة من تاريخنا وحوادث حيواتنا اليومية والتاريخية ولا قتلته والمتواطئون وإياهم على القتل، أو أصحاب «ثأر» القتيل وعاقلته (أدبيًا ومعنويًا وسياسيًا) انقطعت ذراريهم. والمسائل التي اتصل الخلاف عليها بالقتل، لم ينقطع الخلاف عليها وعلى صورها وصيغها المتناسلة.يفرد شرارة فصلاً كاملاً يروي فيه نبذة من سيرة حياة رياض الصلح ونبذات صغيرة من سيرة حياة قتلته: مخايل الديك وأسبيرو وديع ومحمد عبد اللطيف الصلاحي. وتفسح المقارنة بين سيرة رياض الصلح وسيرة قتلته في المجال أمام فهم حادثة الاغتيال. وجهاز الحزب السوري القومي الاجتماعي، المنتفض «جماهيرياً» وانقلابياً على الدولة اللبنانية المستقلة قد قتل اغتيالاً رياض الصلح الذي صرخ قاتله فيما هو يطلق النار عليه قائلاً: «خذها من يد سعادة»، الزعيم الواحد الأوحد لحزبه. ويعتبر شرارة تقديس الأمة والواحد يجعل القتل إجراءً سياسياً عادياً. والسؤال الضمني الذي يلحّ على مؤرّخ هذه الحوادث، الإجابة عنه في رواياته التأريخية اليومية المختلفة كلها، هو: لماذا هذا القتل عادي في مجتمعاتنا وثقافتنا وكيف؟! ولعل الإجابة الضمنية «الثقافية» عن هذا السؤال، تلوح خلال العمل التأريخي والروائي الذي يقوم به صاحب «أيام القتل العادي»: «من العلل العميقة والأساسية لعادية أفعال القتل التي ينبري لها ويقوم بها أفراد وجماعات في مجتمعاتنا العربية، أن هذه المجتمعات تستنكف عن التأريخ للحوادث وروايتها، بل هي عاجزة عن التأريخ والرواية اللذين هما من أحدث أنواع المعرفة الإنسانية وفنونها الكتابية».الاستقلالأما الصحافي باتريك سيل، فكان السبّاق في إصدار كتاب خاص عن رياض الصلح بعنوان «رياض الصلح والنضال من أجل الاستقلال العربي»، وصدر مترجماً إلى العربية عن «الدار العربية للعلوم». اعتاد سيل إصدار كتب عن شخصيات وأحداث كبيرة تركت بصماتها في تاريخ الشعوب، أبرزها كتابا «حافظ الأسد الصراع على الشرق الأوسط» و{أبو نضال بندقية للإيجار». ورياض الصلح، الذي هو محور الكتاب المذكور سابقاً، هو أول شخصية سياسية تولت رئاسة الحكومة اللبنانية بعد استقلال لبنان عام 1943، وكان لنهجه السياسي على المستوى العربي عموماً واللبناني خصوصاً أثره الكبير على مستقبل المنطقة، بل كان له أثره على كثير من السياسيين والمثقفين في لبنان. ويدور موضوع الكتاب حول نشوء الشرق الأوسط الحديث خلال سنوات العنف والاضطراب التي شهدها النصف الأول من القرن العشرين، عندما استولت بريطانيا وفرنسا على المناطق العربية وفصلتها عن الإمبراطورية العثمانية إثر هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وعندها أنشئت دول بديلة: تركيا وسورية ولبنان والأردن والعراق وإسرائيل، وقضي على فلسطين العربية. يقدّم المؤلف في هذا الكتاب قصة حياة رياض الصلح، السياسي اللبناني الذي تحوّل إلى رجل الدولة العربي البارز في زمانه واستمر حتى اغتياله عام 1951 أثناء وجوده في الأردن على يد الحزب السوري القومي الاجتماعي، انتقاماً لإعدام زعيمه ومؤسّسه أنطوان سعادة في تلك الفترة. يتوزّع الكتاب على 26 فصلاً (مع بعض الخرائط والصور النادرة)، ومن خلاله يحضر طيف الثنائية المسيحية - الإسلامية التي صنعت الميثاق، والتي عاد طيفها عام 2005 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، خصوصاً مع تظاهرة 14 آذار التي شكلت منعطفاً تاريخياً. وحتى في هذه المرحلة ثمة من رفع لافتة أن لبنان يحتاج الى ثنائية رياض الصلح وبشارة الخوري.لا ينفصل مسار الصلح عن تاريخ لبنان الحديث وتاريخ العرب أيضاً، كتب باتريك سيل: «في أواسط ثلاثينات القرن الماضي، برز رياض الصلح قائداً فعلياً للطائفة السنية في لبنان دون منازع. ولم يكن من السهل البتة تبوّؤ مثل تلك المكانة. فأن تكون قومياً عربياً في لبنان الكبير في فترة ما بين الحربين يعني الشعور بالغربة في بلد يجد المرء صعوبة كبيرة في الاعتراف بحدوده، ولا يسعه سوى النفور من إيديولوجية دولته (...). لم يكن المسلمون السنّة يستسيغون اعتبار أنفسهم «لبنانيين»، لأن وطنهم الحقيقي هو العالم العربي الكبير. ولم يرتضوا أن يجدوا أنفسهم مواطنين - بل مواطنين من الدرجة الثانية - في دولة مسيحية تحت جناح فرنسا، اقتطعها الجنرال غورو في 31 أغسطس (آب) 1920 من قلب سورية «الجغرافية»، وأعلنها على الملأ حقيقة واقعة في اليوم التالي». وكانت المعضلة: كيف يوفّق رياض الصلح زعيم الطائفة السنّية - بين قوميته العربية - في أساس وجدانه ووجوده - والشعور الجديد بالوطنية اللبنانية الذي نما بصورة حتمية وتجذّر داخل الحدود الجديدة؟، فترى جهوده في العقد التالي وقد انصبت على استقطاب التأييد «الإسلامي» لمشروع الدولة الجديدة، وكي لا يكون من وجود لأي تنافر أو تناقض بين الوطنية اللبنانية والقومية العربية. بمعنى آخر، أن يتوافق الوفاء لدولة لبنان الكبير الجديدة مع الإيمان باستقلال العرب ووحدتهم؛ وأن يصبح بالتالي «الاستقلال اللبناني خطوة ضرورية نحو الغاية العربية الكبرى». وفي سنة 1928، نُقل عن الصلح أنه يفضّل «العيش في كوخ داخل وطن لبناني مستقل، على أن يعيش في إمبراطورية عربية تحت حكم استعماري». وتوحي مثل هذه الملاحظة أن أولوياته أخذت تتبدّل بعد ثماني سنوات فقط على إعلان دولة لبنان الكبير. لم يتخلَّ رياض الصلح عن غاية عمره بتحقيق الاستقلال والوحدة العربية (...)، لكن وعلى ما يبدو، أصبح الاستقلال اللبناني «أولى الأولويات في حياته السياسية».وضع رياض الصلح والشيخ بشارة الخوري المبدأ العريض لاستقلال لبنان على قاعدة العيش المشترَك بين المسيحيين والمسلمين. وتجسّد التفاهم بين الرجلَيْن بعد بضعة أيام في أوّل بيان أدلى به رياض الصلح أمام البرلمان بعد تولّيه منصب رئيس الوزراء، وهو برنامج الحكومة الذي عُرف في ما بعد بالميثاق الوطني. كرر الصلح لفظة «الاستقلال» 30 مرة تقريباً في خطابه، وانفرد بتشكيل حالة «شبه شعبية» تلاقت مع بشارة الخوري في مشروع جديد للسنّة عنوانه: «لبنان لن يكون للاستعمار ممراً أو مقراً». الساحة اللبنانية يقول باتريك سيل عن رياض الصلح إن شخصيته اتسمت دائماً بشيء من المفارقة في الساحة اللبنانية، «لأنه طالما اعتبر نفسه عربياً وكانت رؤيته تشمل المنطقة بكاملها ولم يقيد نفسه في السياسة الضيقة لبلد صغير على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، حيث اتفق أنه وُلد. ولم يكن مجرد سياسي محلي وإنما قامت مكانته على نزعته الدولية المتعمدة، فأصبح شخصية مألوفة جداً في كثير من عواصم العالم، إذ سارعت القنصليات الغربية الى متابعة كل تحركاته».يتابع سيل التحدّث عن شخصية الصلح موضحاً: «كان يتحلى بخصائص عظيمة: الشجاعة والجاذبية والدهاء وسرعة البديهة والبراغماتية والحلم، لكنه في جوهره مثالي وحالم ومناضل من أجل الحرية وليس سياسياً تقليدياً، كما تحلى بشيء من سمات المعلم الملهم. كان يريد تحرير العرب من السيطرة الأجنبية ثم إرشادهم الى أفضل السبل ليحيوا حريتهم السياسية، وطالما أحب أن يصف لبنان بأنه (مختبر) يمكن تعلم هذا الدرس فيه».أما الكتاب الأحدث عن رياض الصلح فهو للباحث اللبناني أحمد بيضون. وهو بمثابة سيرة سياسية مفصّلة لهذه الشخصية، مدرجة في السياق التاريخي الذي شكّل ملامحها ومبادراتها: من العهد العثماني الأخير إلى مطلع الخمسينات من القرن العشرين. يضم الكتاب أيضاً صوراً وخرائط ووثائق ملحقة وثبتاً للمراجع وفهرساً للأعلام، ويقع في 640 صفحة من القطع الوسط الكبير. والصلح، على ما يرسمه أحمد بيضون، كان «زعيماً عريض الصيت ولم يكن رئيساً لكتلة نيابيّة. وكان مصدر قوّته – فضلاً عن شخصيّة مميّزة بحبّ المبادرة والبراعة في تسديدها – استواءه قبلة لأنظار جمهور متنوّع، كبير ولكنّه غير مركّز في صورة الكتلة الناخبة، وشبكة علاقات شاسعة يبدأ نسيجها كثيفاً جدّاً في لبنان وسورية وتنتشر إلى سائر البلاد العربيّة فإلى فرنسا وبريطانيا». مقارنةكان لافتاً أن كتاب بيضون صدر بعد كتاب باتريك سيل، وهنا بدأ السؤال عن الصدفة، وأراد كثر من المهتمين إجراء مقارنة بين الكتابين. يقول بيضون: «لم يتح لهذا الكتاب – مع الأسف أن يستفيد من مؤلف باتريك سيل الضخم الذي ظهر في ربيع هذه السنة، وهو لم يدخل، بالتالي، في سجال مع كتاب سيل، وعلى رغم قوة الشهية لذلك. وقد خصّني سيل بشكر في مطلع كتابه أبادله إياه بمزيد من السرور. فقد وجدت متعة وفائدة في التحدّث إليه في كل مرة ألتقيه فيها، ابتداء من سنة 2005، وكان ثالثنا، بطبيعة الحال، رياض الصلح».الاختلاف الجذري بين باتريك سيل وأحمد بيضون يكمن في أن الأول صحافي يقوم بمهمة أوكله فيها الأمير الوليد بن طلال، أما الثاني فيقول إنه الأقرب الى رياض الصلح ويتابع أنه أكثر الشخصيات، برأيه، تطابقاً مع مفهوم الاحتراف في السياسة. ولديه بوصلة مع احتفاظ بدرجة عالية من المرونة. وأكثر سياسيي تلك المرحلة مبادرة وأفكاراً ورغبة في التدخل بكل ما يجري حوله في المنطقة العربية. إنه أحد النماذج الأساسية لجيل من يصفهم «المواطنين العرب». كان يمكن أن يكون رجل دولة في أي من الدول العربية، إلا أنه اختار منذ 1936 ترسيخ فكرة لبنان. صغر هو وكبر لبنان... لكن مسألة بناء الدولة لم تكن أبرز براعاته. باختصار كان بارعاً في قيادة السفينة أكثر من بنائها. هكذا أحمد بيضون «رياض صلحي» إذا جاز التعبير، وفي هذا الإطار كتب حازم صاغية عن كتاب بيضون قبل صدوره يسأل: «ما الذي يُغري مثقّفاً لبنانيّاً كأحمد بيضون، وكلّ من يشاركه أطواراً من حياته وتحوّلات فكره، برياض الصلح؟ وهل لسياسيّ لبنانيّ آخر، غير الصلح، أن يغري بيضون ومن يشاركونه أطواره؟ تبدأ جاذبيّة رياض الصلح على أحمد بيضون من أنّ واحدهما يشبه الآخر}. بالطبع يحتاج كتاب بيضون المهجوس بالاستقلايين اللبنانيين إلى مقاربة شاملة عن الرجل الذي كان مرآة الاستقلال اللبناني، وهذا ما يحتاج إليه لبنان اليوم. واللافت ليس في شخصية رياض الصلح فحسب بل في عائلته، ففي إحدى المرات تفاخر تقي الدين الصلح بأسرته قائلاً: «دلوني على حزب من العـالم أخرج أربعة رؤساء حكومات وسـبعة من كـبار الكتّاب؟»، ولم لا؟ فقد خرج من بين أبناء الأسـرة العريقة الرؤساء: رياض الصلح وسامي الصلح وتقي الدين الصلح ورشيد الصلح...
توابل - ثقافات
رياض الصلح في 3 كتب... رجل في مرآة الوطن
08-04-2011