في كتاب «الأب الروحي» للكاتب الإيطالي ماريو بوزو، يأتي على لسان أحد زعماء المافيا أن «الصداقة هي كل شيء وأهم الأمور، وتتجاوز أحياناً العائلة في قائمة الأولويات». تلك النصائح موجّهة الى مغنٍّ ناشئ يدعى جوني فونتاني الساعي إلى الحفاظ على مجده وحماية نجمه من الأفول، وهذا ما ربط البعض بينه وبين المطرب العالمي فرانك سيناترا الذي أنقذ سنة 1953 حياته الفنية بالدور الذي أُسند إليه في فيلم «من هنا وحتى الأبدية»، ليكشف ذلك ببساطة عن وجه آخر من وجوه الكوزا نوسترا الأميركية التي صارت أخطبوطاً له ذراع في كل مهنة ووراء كل باب.تعود علاقة المافيا بالسينما والإعلام عموماً، إلى الثلث الأول من القرن الماضي عبر ارتباط «آل كابوني»، زعيم مافيا شيكاغو المشهور، بعالم الدعاية والإعلام منذ ارتفع نجمه في العشرينيات والثلاثينيات، باستغلاله آليات البروباغندا الأميركية في تقديم نفسه كلصّ شريف أو «روبين هود» جديد يسرق الأغنياء من أجل الفقراء، الذين غمرهم بعطفه وماله، بينما كانت أسلحته ورصاصاته من نصيب القطط السمان. وقد استطاع «كابوني»، بمساعدة بعض رجاله، مساندة بعض الوسطاء أمثال ويلي بيوف وجورج بروني، للتحكم بإدارة الاتحاد الدولي للسينمائيين ما عاد عليهم بثروة طائلة. وخلال انتخابات رئاسة الاتحاد آنذاك، نجح كابوني وغيره من زعماء المافيا، في دفع بروني إلى مقعد الرئاسة، ما مكّنهم من فرض إتاوات على كبرى شركات التوزيع أمثال «فوكس للقرن العشرين» و{باراماونت»، وصلت أحياناً إلى ما يزيد على 50 ألف دولار سنوياً إلى جانب ابتزاز أموال الاتحاد، وتقاضي نسب معينة من أجور النجوم الكبار لحمايتهم. وقد دفع هذا الابتزاز السافر إلى موجة تذمّر من أعضاء الاتحاد، ومن ثم إلى إضراب عام، ما جعل الصحف تسلِّط الضوء على مثل هذه الاتهامات ومدى صحتها. وعند مثول بروني وبيوف أمام المحكمة في عام 1941، وتحت وطأة الضغط والتهديد بالسجن مدى الحياة، كشفا عن أسرار تورّط رجال مافيا شيكاغو في تلك القضية، ما أدى إلى سلسلة من الاعتقالات أطاحت برؤوس كبيرة، منها: فرانك نيتي الذي جاء خلفاً لكابوني، وجوني روزيللي وتشارلز كوفمان، الذين واجهوا أحكاماً بعشر سنوات لكل منهم، ما أضعف قبضة المافيا على صناعة السينما. المافيا والنجومعُرفت هوليوود بعاصمة السينما، ولاس فيغاس بعاصمة المتعة والميسر وقصص كثيرة عن أصحاب الشركات السينمائية الذين فتحوا أبواب صناعتهم على الجريمة المنظّمة، إذ استعانوا في ثلاثينات القرن الماضي بأفراد عصابات مسلّحة بغرض كسر الإضرابات التي شلّت بلاتوهات التصوير، ليترسّخ الزواج المحرم بين الجريمة والسينما. ومن بين تلك القصص، علاقة الممثلة جين هارلو مع رجل العصابات لونجي زويلمان، الذي استعانت جوان كروفورد بخدماته لكي تخفي فيلماً إباحياً مثّلته في بداياتها الفنية. وفي الفترة نفسها كان رجل العصابات المشهور بوجسي سييغل، مؤسس لاس فيغاس، يخرج مع الممثلات أمثال: لانا ترنر وأفا غاردنار، ويصادق عمالقة الاستديوهات أمثال: جاك وارنر ولوي ب. ماير، والنجوم أمثال: جاري كوبر، وكلارك جيبل، وكاري غرانت، فيما استعانت شركة كولومبيا برجل المافيا ميكي كوهين لمتابعة تورّط السمراء كيم نوفاك، في فضيحة مع الممثل الأسمر سامي دافيز. واتَّهم أخيراً الممثل الأميركي ستيفن سيغال مكتب التحقيقات الاتحادي بتقديم ادعاءات كاذبة ضده تفيد بأن له صلات بالجريمة المنظّمة والمافيا. ورأى سيغال أن هذه النوعية من الادعاءات تسبّبت في تدمير حياته العملية، إذ أفزعت المسؤولين عن استوديوهات السينما والمنتجين المستقلين من التعامل معه.غنيٌّ عن القول ما تردّد عن ضلوع المافيا في مصرع الرئيس جون فيتزجيرالد كينيدي لمحاولته محاربة الجريمة المنظّمة. كذلك، كشفت وثائق سرية قيل إنها سُرِّبت من مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي، عن تورّط الممثلة الأميركية الراحلة مارلين مونرو في مؤامرة نظّمتها المافيا، لتشويه سمعة آل كينيدي بالاشتراك مع زملاء لها من أعضاء الـ «رات باك» Rat Pak عبر حفلات جنس جماعية ماجنة في أحد فنادق نيويورك مع الرئيس الأميركي الراحل جون كينيدي، وأخواه روبرت وإدوارد. وتؤكد الرواية حضور تلك الحفلات من كلّ من مونرو وأعضاء الـ «رات باك»، فريق غنائي ضم أشهر نجوم الستينيات، وهم سيناترا، وسامي ديفيس الإبن، والممثل البريطاني بيتر لوفورد وزوجته، وباتريشيا كينيدي، شقيقة الأخوة الثلاثة. وبحسب الادعاءات فإن تلك الحفلات الصاخبة أُقيمت في جناح جون كينيدي في فندق «كارلايل» الراقي في مانهاتن. وقد عُرف «كارلايل» أثناء تولي كينيدي الرئاسة «بالبيت الأبيض النيويوركي». وقد سرت شائعات تفيد بأن الرئيس أمضى ليلة في الجناح مع مونرو، بعد أن غنّت أغنيتها الشهيرة «عيد سعيد سيدي الرئيس» خلال حفلة ميلاده الخامس والأربعين، الذي أقيم في العام 1962 في «ماديسون سكوير جاردن».بحسب الوثائق السرية، أرادت المافيا تشويه سمعة روبرت كينيدي بسبب سياسته في مكافحة الجريمة المنظمة التي تبناها عندما تولى منصب النائب العام في الولايات المتحدة بين الأعوام 1961 و 1964. ويُعتقد بأن هذه المؤامرة قد باءت بالفشل، غير أنها تتفق مع شهادات أخرى عن العلاقات غير العادية التي ربطت أقوى عائلة سياسية في أميركا بأكبر نجوم البلاد والجريمة المنظّمة، وكان هذا ربما السبب وراء موت أو انتحار مونرو في 1962، والتي يعتقد بأنها كانت على علاقة بالرئيس كينيدي الذي اغتيل في عام 1963، وشقيقه روبرت الذي قُتل في عام 1968.فرانكي الصديقحين يتطرَّق التاريخ إلى علاقة المافيا بالمشاهير، لا يمكنه إغفال قصة المغني الأميركي الإيطالي الأصل فرانك سيناترا، الذي بدأت علاقته بالمافيا منذ هجر مسقط رأسه هوبوكن ليحترف الغناء، ويصبح صديقاً لويلي مور، أحد زعماء المافيا في نيوجيرسي قبل أن يُغتال. ويتردّد أن شخصية «جوني فونتاني»، ابن دون كورليوني بالتبني في فيلم «الأب الروحي»، ما هي إلا مرآة شخصية سيناترا الحقيقية، بعدما تردّد عن دور رجل المافيا سام جيانكانا في حصوله على الدور الذي منحه جائزة أوسكار أفضل دور ثان في عام 1953. مع ذلك، لم تفلح جميع التحريات والتحقيقات في إدانة سيناترا على رغم تورّطه مع المافيا في علاقات مصالح، فضلاً عما أضفته ديانته اليهودية من حصانة ومساندة اللوبي اليهودي المتغلغل في القيادات والمناصب العليا في أميركا. يقدّم «الأب الروحي» جوني فونتاني كأحد أبناء الأب الروحي دون كورليوني، الذي اختار الاتجاه الى الغناء ليعرف معنى الشهرة، لدرجة أراد معها التحرر من العقد الذي وقّعه في بداياته مع موزّع موسيقي مشهور ليعمل منفرداً. وعندما يرفض راعيه الموسيقي إلغاء العقد رغبة في سحقه ومنعه من الحصول على المال والشهرة، يذهب «كورليوني» إليه عارضاً مائة ألف دولار مقابل إلغاء ذلك العقد، في البداية رفض الموزع العرض، ثم وافق بعدما صوب مساعد دون «كورليوني»، «لوكا»، مسدسه تجاه رأسه، فيما يقول كورليوني: «إما أن أرى توقيعك على العقد أو يتناثر دماغك عليه»، لتنتهي الأزمة.وسيناترا ابن لمهاجرين إيطاليَّي الأصل، تربى في ظروف معيشية صعبة وفقيرة للغاية، وتوقّف عند الدراسة الثانوية لينتهي به الأمر بعد سنوات عدة كأحد أشهر نجوم الغناء في العالم، وصديقاً للبيت الأبيض، وواحداً ممن أُطلقت أسماؤهم على أحد أهم الشوارع في كاليفورنيا. كان سيناترا ديمقراطي الانتماء، تولى إدارة الدعم والتبرّعات لمرشّحي حزبه للرئاسة الأميركية بدءًا من روزفلت وحتى كينيدي، إلا أنه تحوّل بعد ذلك الى الحزب الجمهوري بعدما أساء السيناتور روبرت كينيدي معاملته، ذلك بسبب الشائعات أو الحقائق التي ربطت بين سيناترا ورجال المافيا، إذ إنه كان على علاقة بحوالى عشرة من أكبر زعماء المافيا في الولايات المتحدة بين خمسينيات القرن الماضي وأوائل ستينياته. وقد عثر البوليس الإيطالي على سيغار من الذهب أثناء التحقيق مع زعيم المافيا لاكي لوتشيانو عام 1946، خُطّت عليه عبارة «إلى العزيز لاكي... إهداء من الصديق المخلص فرانك سيناترا». ومع مزيد من التحقيقات ثبت وجود علاقات سابقة تربط سيناترا بالكثير من زعماء المافيا الآخرين أمثال «آل كابوني»، و{ماير لانسكي» و{جوني روزيللي» و{ويلي مورتي» وغيرهم، لكن لم يشأ مكتب التحقيقات الفيدرالي التصريح بها لعدم وجود دليل إدانة صريح. وكان «ويلي موريتي»، زعيم مافيا نيوجيرسي، من أقرب الزعماء لسيناترا، إذ كان داعماً كبيراً له في بداياته، وساعده على الارتقاء من الغناء في المسارح البخسة والنوادي الليلية إلى كبرى القاعات والمسارح الشهيرة مع فرق موسيقية ذائعة الصيت، حتى سطع نجمه بظهور أغنيته الشهيرة «كل شيء أو لاشيء»، All or Nothing at All. ومع إصابة موريتي بمرض الزهري واعتلال قواه العقلية، قطع سيناترا علاقته به وأراد طمس كل ما يربطه به، خصوصاً بعد أن تنكّرت المافيا لموريتي وأخرجته من عضويتها خوفاً من إفشاء أسرارها، وسرعان ما وطد سيناترا علاقته بـ «سام جيانكانا» و{جوني روزيللي»، وافتتح كذلك فندق رمال Sands في لاس فيغاس.وقد أكّد الممثل الكوميدي جيري لويس، أحد المقربين لسيناترا من أيام الستينيات، أن الأخير كان يعمل رسولاً لنقل أموال المافيا، لعدم تعرّضه للتفتيش. وقد جاءت هذه الحكاية ضمن روايات عدة ربطت بين المطرب الأسطورة والجريمة المنظّمة في كتاب لم يوافق سيناترا على نشره عن قصة حياته بعنوان «حياة سيناترا»، من تأليف أنطوني سامرز وروبين سوان. ونقل مؤلفا الكتاب عن لويس قوله «إن سيناترا كان يمر عبر الجمارك ومعه حقيبة فيها ثلاثة ملايين ونصف المليون دولار، كانت أوراقها من فئة الخمسين دولاراً، ففتح مسؤولو الجمارك الحقيبة، غير أنه نتيجة تزاحم الجماهير لإلقاء نظرة على النجم الكبير ألغى المسؤولون التفتيش». وقال لويس إن هذه الواقعة حدثت بعد وقت قصير من ترحيل رجل المافيا «لاكي لوتشيانو» من الولايات المتحدة إلى إيطاليا عام 1946.إلا أن سيناترا كان ينفي دوماً أية علاقة له بالمافيا، غير أن ملفات لمكتب التحقيقات الاتحادي (FBI) نشرت في ديسمبر (كانون الأول) عام 1998، أي بعد سبعة أشهر من وفاته، صوراً لسيناترا بصحبة «سام جيانكانا»، زعيم العصابات في شيكاغو. توفي سيناترا في 14 مايو (أيار) 1998 في لوس أنجليس بعد إصابته بجملة أمراض تباعاً في القلب والكلى مروراً بسرطان المثانة والزهايمر، لتُطوى صفحة أحد أشهر من ربطتهم علاقات مشبوهة بالمافيا.تاريخ السينمايؤكد المتابعون أن المافيا ما زالت تلعب من وراء الستار في هوليوود، وقد دوّن النجم الراحل مارلون براندو في مذكّراته أن العائلات لم تكن راضية تماماً قبيل تصوير «الأب الروحي»، لذا أُرسل تحذيرغير مباشر إلى المخرج فرانسيس فورد كوبولا بأن المافيا ستدمّر الفيلم إذا ظهر فيه ما يسيء إلى شخص «المافيوزي»، وخصوصاً الزعماء. وبعد مناقشات ومحاورات اتُّفق على أن يحضر مندوب من المافيا إلى استوديو التصوير لمراقبة ما يدور فيه كي يأتي مطابقاً لما جاء في الرواية التي سبق للعائلة قراءتها، فإذا وجد ما لا يعجبه يتم إيقاف التصوير. يقول براندو إنه حين كان يمثل دور «كورليوني»، كانت تنتابه مشاعر بأنه يؤدي دوره فيما فوهة مسدس مصوبة إلى صدره مباشرة. وعلى رغم ذلك، أثار الفيلم الأقاويل بين أسر المافيا عن ظلال شخصياته وعلاقتها بالواقع، فضلاً عما أثاره بجزئه الأول من ضجة في الأوساط كافة، وما نتج منه من نقاش وجدل لم ينته عن وضعية أسر المافيا في المجتمع الأميركي، بل ونبّه الإدارة الأميركية الى أن وجود مثل هذه الأسر واقع لا يمكن إخفاؤه، وهي كانت وما زالت جزءاً لا يتجزأ من التاريخ الأميركي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. ونبّه الفيلم أيضاً الى ضرورة الأمانة في تدوين التاريخ أو أثبت، على الأقل، أن التاريخ الاجتماعي الأميركي ليس مثالياً كما يعتقد البعض.يضاف إلى هذا ما أثاره الجزء الثالث من العمل نفسه مع تحوّل «مايكل كورليوني» الابن الى غسيل الأموال وقطع كل علاقة له بالمافيا كي يضمن لأبنائه مستقبلاً نظيفاً، وفي سبيل ذلك يسعى الى الحصول على الدعم من الفاتيكان من خلال مشاركته في مجموعة صفقات وتقديمه تبرعات لحصوله على بعض الأوسمة الدينية، بمساعدة أحد رجال الدين الفاسدين، وبعض رجال المال والأعمال في إيطاليا، ما أدى الى معارضة الفاتيكان عرض الفيلم في إيطاليا في بادئ الأمر. وقد تردّدت أسئلة كثيرة حول مدى اختلاق الروائي «بوزو» لقصص الفساد في عاصمة الكثلكة «الفاتيكان»، وهل كان يلمح بالفعل الى بعض الحوادث الواقعية؟ والحقيقة التي لم يؤكدها «بوزو» لا تنفي علمه بصفقات الفاتيكان والمافيا وأجهزة المخابرات في بعض دول أوروبا، والتي كانت تدار بوساطة المخابرات الأميركية «سي أي إيه»، ومنها عمليات «شروق الشمس»، و{السلم» على يد رجل المخابرات والمافيا «ألبرت فينسنت كاروني».يؤكد بوزو في حوار معه في أجرته الـ{نيوزويك» في عام 1971، أنه لا ينكر علاقة بعض الأسر ذات الأصول الإيطالية بعالم الجريمة، لكن ثمة أسر تعتبر قصة نجاحها في الوطن الجديد قصة كفاح وشرف، وأن عنفها كان مبرراً، ما يفسر رؤية بوزو، المولود لأسرة صقلية صميمة عمدته على غرار أسلوب المافيا ، للأسرة الصقلية باعتبارها نموذجاً للشرف الصقلي والتكافل الاجتماعي. لذلك نجح بوزو في زرع التعاطف في نفوس المشاهدين، والذي اهتز إلى حد ما على مدار العقود الماضية بالكشف عن دور المافيا في سنوات السبعينيات والثمانينيات في معقل صناعة السينما الأميركية بالاستثمار في صناعة الأفلام الإباحية بعشرات الملايين من الدولارات. وما زالت القصص تخرج على استحياء والأخبار تدور حول العالم لتؤكد تلك العلاقة الأبدية بين الإعلام والسلطة اللتين تسعى المافيا الى إحكام قبضتها عليهما لتسيطر على العالم.
توابل
المافيا... دولة المال والدم قبضتها تحكم هوليوود
20-08-2010