بين الرواية والحياة توأمة عميقة مهما حاولت ظلال الكلام الفنّي في السّرد إبعادنا عن مسرح الزمن المعاش. وقد تكون الرواية أحيانًا كثيرة يوميّات أخذها صاحبها بقلمه إلى معجن وجدانه وأعاد صياغتها متصرّفًا بالزمان والمكان والشخصيّات من دون أن يتصرّف بالمعاني التي بنَتْه إنسانًا وكانت بوصلته إلى أيّ حقيقة. وليس سوى الرواية ما يتّسع لتجربة حياتيّة طالت أم قصرت، والسّرد مرآة تأخذ مادّتها من الحياة وتردّها الى الحياة، لكن بطعم آخر.

في روايته الجديدة «ذكريات عاريّة» كأنّ جورج شامي الذي بينه وبين الثمانين ربيع واحد ـ زاد الله ربيعاته ـ يبوح آخر البوح، وهو يصرّ في بدايات الرواية على الاقتصاد بالشخصيّات، وكي لا يحضر وحده سعى الى جعل نفسه كثيرًا، سعى ليكون أكثر من شخصيّة تروي، فنسج شخصيّة اللصيق التوأم، الذي يقاسمه زوجته والفراش، ونحت زمنه العجوز كائنًا خصّه برسالة طويلة، ولجأ إلى كلبه «روك» قائد العميان القادر على: «اكتشاف الإعلاميّين وسبر أغوار رجال السياسة» ليكون ظلاً من ظلاله المتعدّدة... بهذه الكثافة الشخصيّة يلقي شامي القبض على قارئه مطلاً من نافذة السّرد الأولى، ويغريه بأنّه سيعيش صراعًا يأبى الروائي أن يعيشه وحيدًا، صراع الثنائيّات المؤلمة: الموت والحياة، الوطن والغربة، الدّين والكفر، الطمأنينة والقلق، العاطفة والتحجّر، الوجود واللاوجود... إذا كان يونان أقام في بطن الحوت فإنّ حوت شامي هو الحاسوب، يلجأ إليه لأكثر من ثلاثة أيام: «علّ العلم يشفع للضعفاء والمضطهدين»... ولجوء شامي إلى بطن حوته الحديث هروب من القدر والكآبة والإحباط، ومحاولة للاغتسال من خطايا ألصقت به قبل أن يولد، ورغبة في استرجاع طفولة تحتفظ في براءتها ببذار نموّه...

Ad

باب قبر والد الراوي، الذي يروي بضمير الـ{أنا» بكلّ ما فيه من «أنا»، هو الباب المفضي الى الطفولة وعوالم الأمس في آنٍ واحد. الأب في الداخل يجلس على موته سامعًا، يقظًا، دقيقًا، ومجيبًا أيضًا في حوار يطول. ويستغلّ الروائي شخصيّاته المنفصلة عن الراوي والمتّحدة به على امتداد السّرد، وهي اللصيق التوأم، وزمن الراوي العجوز، و»روك» كي يبدو الحوار الثنائي بين الراوي ووالده أكثر حياة لا سيّما أنه يجري بين أب ميت وابن عجوز ملحّ على تعطيل موت الأب ولو لبعض من الوقت، ليس لاسترجاع زمن معيّن فحسب، إنّما لمناقشة هذا الزمن المسترجع والتعليق عليه أيضًا. فالراوي الابن يرسل يده عميقًا في ذاكرته الخضراء التي لم تخذله وتبخل عليه باسم أو بحادثة أو بخبر على رغم اعتماده الدخول في التفاصيل والجزئيّات، وقد أخبر الابن أباه عما فاته بشجاعة ربّما لم تكن لديه سابقاً، وحدّثه عن الخيمة التي بناها صغيرًا، وكانت خيمة حرّيته الأولى، وفيها اكتشف المرأة جسدًا وقطف أوّل عناقيد الجنس. وطعن والده بالشكّ مستعيدًا له حكاية «زينة» التي لم تكن امرأة عابرة: «هل تورّطتَ معها في تواصل آثم؟ هل رضيعها التي كانت تحمله إلى بيتنا كان أخي اللقيط؟»...

حياة موشومة

استرسل الراوي محاورًا أباه، وكأنه يرغب في إعادة تصنيع حياة مضت، حياة موشومة بألف علامة استفهام وفيها البحث عن الكنوز يعادل البحث عن الحياة المفقودة نفسها... الأب في «ذكريات عارية» يكاد يملك ذاكرة الراوي بكلّ ما فيه من عملقة ومثاليّة وحنان وضعف... ويتراءى للقارئ وهو يقترب من الوصول الى منتصف الرواية أن الراوي- البطل قد يفتح باب المقبرة ويدخل في آخر الرواية. إنه الحدس الذي يمليه السرد المضغوط والضاغط في آن...

غير أنّ شامي الخبير العتيق في اللعبة الروائيّة يصدم حدس قارئه، وبدل أن يفتح الابن العجوز باب القبر، يدخل، يستجدّ ما يملي على الأب الخروج، فالحرب التي اشتعلت بشكل مفاجئ جنوبًا تقطع الحوار وتزلزل القبر فيخرج منه والد الراوي: «كان يحمل بيسراه فانوسًا... ويحمل بيمناه رشيشًا تشيكيًّا»... ويدعو ابنه الى القتال والدفاع عن الأرض وعبثًا حاول الولد إقناع أبيه، الذي سيَّرَه أمامه أسيرًا، بأن سلاحه فات زمنه ولا يستطيع مواجهة السلاح الإسرائيلي الحديث. وعند المساء ينفصل الوالد عن بعضه ويتلاشى. ويصل الراوي الى بركة تدعوه فتاتُها المغرية للنزول ويستجيب على رغم أنه أعلمها بأنّه آتٍ للقتال لا للنكاح، لكنّها قالت له: «الفرق بينهما تكتيكي: القتال يميت، والنكاح يحيي»... وسرعان ما تتبدّل البركة ويصير ماؤها دمًا ليعلن زمن الفجيعة الوطنية الذي لا يتّصل بما سبق من الزمن، فنساء الراوي اللواتي استعادهنّ، خلال السّرد، لسن مثل فتاة بركته الأخيرة التي تعلن الزّمن الأحمر والسقوط في التجربة الحقيقيّة... يسترجع الأب ابنه الراوي من بركة الخطيئة التي لا تغتفر وتعود أخبار «مارون الراس» و{يارون» وعيتا الشّعب... الى واجهة السّرد، ويفاجأ الابن الراوي بأمّه عائدة الى الجنوب من مقابر «رأس النبع»، إنّها قاصدة «كوكبا» مسقط رأسها لتنضمّ إلى ترابها.

قبور

ليس في رواية شامي أموات، كلّ شخصيّاتها أحياء يُرْزقون، لأنّ ساكني القبور هم أصحاب قضايا لا تنتهي بالموت. ووالد الراوي، ذو القبّعة الحمراء والبيضاء وعليها أرزة لبنان، يتسلّق سارية رُفع عليها العلم الأميركي ويشكّ قبعته في أعلاها... ويصرّ على الذهاب إلى حفيده، طبيب التجميل في أميركا، ليرمّمه ويعيده صالحًا لإكمال مسيرة النضال.

من الحرب ينتقل شامي الى السياسة، ليرى أنّ القوميّة أجهزت عليها الدعوات الدينيّة والأصوليّة والطائفية والمذهبيّة. وللاسترسال بالبوح السياسي عقد الروائيّ في بطن الحاسوب اجتماعًا نخبويًّا لبنانيًّا حضنه «جبل صافي» جغرافيًّا، وحضرت هذا اللقاء شخصيّات من مختلف الاختصاصات والوظائف وفُتح باب الأزمة اللبنانيّة على مصراعيه وتعدّدت مواضيع البحث: العلمنة، الطائفيّة، الخير الخاصّ والخير العامّ، المواطنية، السلم الأهلي، القانون، الفلسطينيّون، الخارج... وقد طغى السياسيّ على السّردي في الثلث الأخير من الرواية، إذا جاز القول، لأنّ شامي المفكّر حضر أكثر من شامي الروائيّ، على رغم تدخّل «روك» من حين الى آخر وحضور اللصيق التوأم والزمن العجوز. وقد خصّ الراوي المقاومة بكثير من المديح والتقدير وطرح إشكاليّة الدولة والمقاومة داعيًا إلى الحوار والتفاهم في هذا الشأن.

شامي في الثلث الأخير من روايته سياسيّ بامتياز، وصحافي ذو تجربة طويلة ودسمة، وسقط في فخّ السياسة من حيث لا يدري، وعشرات الصفحات يمرّ بها القارئ وكأنّه يتصفّح مقالات في السياسة وإن أتى الكلام بقالب حواريّ. وربّما كان الروائي منتبهًا إلى فخ السياسة، ولذلك استرجع حكاية خيانة زوجيّة في زمن مبكر، بعد لقاء «جبل صافي» وقبل وصيّته الوطنية والسياسيّة إلى أولاده. وقد ضمّن الراوي وصيّته عناوين تصلح كبرنامج عمل وخطّة لإنقاذ لبنان وتُختصر بإلغاء الطائفيّة وإسقاط ذكر المذهب، وإلغاء محاكم الأحوال الشخصيّة، وفرض الزواج المدني، وفصل الدين عن الدولة، وإلغاء المعاهد الخاصّة... وضبط اللعبة الديمقراطيّة...

في بداية «ذكريات عارية» يوهم شامي قارئه بأنّه مدعوّ إلى ملفّ حياة خاصّة، وسرعان ما ينحرف به نحو العامّ، نحو الانتماء والمقاومة والجذور، وبعد ذلك يدعوه إلى لقاء فكريّ سياسي وطنيّ وهو الأهمّ بالنسبة الى صاحب الذكريات التي لم ترتدِ إلا الألم، فبقيت عارية.

وحيدًا كان جورج شامي في كلّ فصول روايته وظهر على مرمى ربيع من الثمانين طفلاً لا يزال جائعًا إلى الأهل والوطن والمرأة وكأنّه بروايته المتعدّدة المناخات أراد أن يقول كلّ شيء فقاله وكان روائيًّا وصحافيًا وسياسيًّا.