محمــــد عبـــد الوهــابمن المؤكد أن العلاقة الفنية بين أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، هي من أكثر الأمور تعقيدا في سيرة أم كلثوم الشخصية والفنية، سواء عندما كانت هذه العلاقة صعبة أو مستحيلة، أو بعدما تحولت إلى أمر واقع، يثمر في كل سنة عملا فنيا جديدا بين 1964 و1972. لقد كانت هذه العلاقة الفنية، حتى قبل إنجازها، فكرة لا تلح فقط على صاحبي العلاقة وتطاردهما منذ أن تربعا على عرش الأغنية العربية في وقت مبكر من القرن العشرين، بل تلح أيضا على عدد من كبار المسؤولين في الدولة المصرية، من قيادات سياسية واقتصادية وثقافية، من أعلى المستويات إلى أدناها، وفي العهد الملكي كما في العهد الجمهوري. ولعل العامل الثالث والأهم في هذه العلاقة يتمثل في أنها كانت دائما رغبة جماهيرية أشبه بالحلم، خاصة لدى الشريحة الأوسع من الجمهور خارج إطار الحزبية الضيقة لعبد الوهاب (من الذين لا يحبون سماع ألحانه إلا بصوته) والحزبية الضيقة لأم كلثوم (من الذين أدمنوا على سماع صوت الست إما بالحان القصبجي أو زكريا أو السنباطي). فبالنسبة للجمهور المتمرد على هذه الحزبية الضيقة، كان عبد الوهاب كبير الملحنين، وكانت أم كلثوم كبيرة المطربات، وكان لقاؤهما حلما جميلا يراود مخيلة المستمعين بين المحيط والخليج.ولو نحن استرسلنا وراء تصور سيناريوهات مفترضة لتلك العلاقة، سابقة على السيناريو الذي تحقق في وقت متأخر من عمرهما الفني، فهناك من يعتقد أن الزمن الافتراضي الأنسب لذلك اللقاء كان عقد الأربعينيات، عندما كان عبد الوهاب في ذروة تألقه اللحني، مع اكتمال في نضج تجربته الموسيقية، عندما كان يتدفق في كل سنة بالحان خالدة من وزن الجندول والكرنك وكليوبترة وحياتي إنت، والحبيب المجهول وقالت وعاشق الروح وهمسة حائرة وما إلى ذلك، وعندما كانت أم كلثوم قد وصلت في نضج صوتها ونضج خبرتها إلى الذروة التي غنت فيها رق الحبيب وغلبت أصالح وسلوا قلبي ورباعيات الخيام ومصر تتحدث عن نفسها.غير أن نظرية أخرى تفترض أن هذا السيناريو المثالي كان مستحيل التنفيذ، لأسباب فنية، خارج الأسباب الشخصية الأخرى المتعلقة بمشاعر التنافس الفني بينهما. من هذه الأسباب بالنسبة لأم كلثوم أنها كانت ما زالت خارجة من صدمة محاولات التجديد مع محمد القصبجي التي وصلت إلى ذروتها الناجحة مع «رق الحبيب»، ثم انفجرت في التجربة الفاشلة لألحان فيلم «عايدة». لذلك، فان أم كلثوم كانت عند ذلك المنعطف، بحاجة إلى الحان من مدرسة زكريا أحمد الكلاسيكية، أو مدرسة السنباطي الكلاسيكية المتجددة باعتدال، ولم تكن أبدا بحاجة إلى مجدد جرئ، قد تكرر معه تجربة محمد القصبجي، بل كانت تجاربها السابقة تدفعها إلى مزيد من المحافظة، وإلى الحذر الكامل من أي نزعة تجديدية.أما بالنسبة لعبد الوهاب، وعلى عكس ما ينظّر له الناقد الكبير كمال النجمي، من أنه في الأربعينيات كان قد فقد صوته الذهبي، الذي توقف عند مطلع الثلاثينيات، ففي رأيي أن اختفاء جزء من الطبقات العليا من صوت عبد الوهاب لم تفقده أبدا معدنه الذهبي، ولكنه إضافة إلى احتفاظه حتى ذلك الوقت بمساحات لا بأس بها من طبقات صوته العليا (حتى قيامه بغناء عاشق الروح في العام 1949، بل حتى حفلة كل دا كان ليه الحية في العام 1954)، كانت ينابيع الحلاوة والطلاوة في صوته قد زاد تدفقها (ولم ينقص)، وكانت خبرته في الأداء قد وصلت إلى ذرى عالية تتجاوز مرحلة 1925 - 1935 ، عندما كانت مساحات صوته العليا مكتملة.لذلك، فان صوت عبد الوهاب كان في ذروة تاريخية تجعله يضن بأي لحن كبير من ألحانه المطولة الرائعة، على أي صوت أخر غير صوته، أو تجعله، بعبارة أخرى، لا يحتاج لصوت آخر يعبر من خلاله عن خواطره الموسيقية الكبرى، ما دام صوته في تلك الذروة العالية.لذلك، كان طبيعيا أن تبقى ظروف ذلك اللقاء مؤجلة، خاصة وأن الأربعينيات والخمسينات كانت بمثابة شهر العسل التاريخي لعبقرية أم كلثوم الغنائية، وعبقرية السنباطي الموسيقية.أما عندما بدأ عقد الستينيات، فان أمورا فنية كثيرة كانت قد تبدلت في حياة أم كلثوم وعبدالوهاب، إضافة إلى ظروف العلاقة الشخصية، التي ذوب الزمن فيها كل حدة مشاعر المنافسة القديمة، عندما كان كل منهما منهمكا في بناء مجده الفني وتثبيت قواعده، ونشر ألويته بين جماهير مصر أولا، ثم جماهير الأمة العربية.أما في الأسباب الفنية، فكان عبد الوهاب قد اتخذ قراره باعتزال الغناء بعد تسجيل «هان الود» في مطلع الستينيات على أوركسترا كاملة، وبدأ يتفرغ لموهبته الموسيقية وحدها، من خلال ما يحلو له من أصوات ومن أساليب الأداء الغنائي التي يرتاح لها. وإذا كان عبد الوهاب قد بدأ يوزع ألحانه بسخاء على عبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة وفايزة أحمد ووردة وشادية وفيروز، فمن باب أولى أن تعاوده فكرة التلحين لصوت أم كلثوم، الذي لم يكن قد دخل مرحلة الشيخوخة بعد، برغم تراجعه النسبي عن ذروته الذهبية في عقدي الأربعينيات والخمسينيات.رواية عبدالوهابأما أم كلثوم، فبعد أن قطعت مرحلة طويلة من الاستقرار الإبداعي في إطار الصيغة السنباطية- الكلثومية، بدأت كما رأينا منذ منتصف الخمسينيات تستقطب المواهب الموسيقية الشابة إلى «بلاطها الموسيقي». فإذا كانت قد اندفعت بلا تردد إلى استقطاب ألحان من محمد الموجي ثم كمال الطويل، ثم بليغ حمدي (مع أن السنباطي كان ما يزال في كامل «لياقته» الموسيقية)، فمن باب أولى أن يعاودها التفكير بأن الوقت قد حان لحصولها على الحان من أستاذ أصحاب المواهب الموسيقية الشابة التي بدأت التعاون معها بلا وجل، خاصة وأنه هذه المرة قد انقطع عن الغناء رسميا.غير أن تضافر الظروف الموضوعية المناسبة، كان ينقصه اليد التي تشغل الشرارة في هذه الظروف.لقد روى محمد عبد الوهاب بصوته للقسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية حديثا مطولا عن رأيه بفن أم كلثوم وصوتها، وعن تفاصيل تعامله الفني معها، تعيد إذاعة لندن بثه بين وقت وآخر، وقد أتيح لي أن أستمع إليه عند كتابة هذه السطور، في برامج الإذاعة التي كانت تحتفي بالذكرى 27 لرحيل أم كلثوم.يتحدث عبد الوهاب عن دور جمال عبد الناصر في تحريك موضوع التعاون بينه وبين أم كلثوم، فيقول أن الأمر بدأ في اللقاء السنوي المتكرر مع كل ذكرى لثورة 23 يوليو، حين كان كل من عبد الوهاب وأم كلثوم يعد عملا فنيا يشارك به في احتفالات أعياد الثورة، وكان عشاء حميم يجمع بين الفنانين والرئيس عبد الناصر في هذه المناسبة. ويضيف عبد الوهاب أن الأمر بدأ على مائدة العشاء، حيث كان عبد الناصر يجلسهما إلى جواره، فطرح على أم كلثوم سؤالا:«لماذا لا نسمع لك أغنية من ألحان عبد الوهاب» ؟فترد أم كلثوم، وهي تشير بيدها إلى عبد الوهاب:«قول له».فيلتفت عبد الناصر إلى عبد الوهاب سائلا:«لماذا لا تلحن لها»؟فيرد عبد الوهاب، هو يشير لأم كلثوم:«قول لها».ويؤكد عبد الوهاب، في لهجة ضاحكة، أن الأمر تكرر بهذا الشكل سنتين أو ثلاث، حتى اكتشف الفنانان أن الأمر بالنسبة لعبد الناصر على درجة من الجدية، وأنه ليس مجرد حديث مناسبة عابرة، كما ظن كلاهما في بادئ الأمر.ويبدو أن عبد الوهاب كان قد بدأ يفكر جديا بالأمر، عندما استمع إليه عازف الكمان أحمد الحفناوي (والحديث ما زال لعبد الوهاب في مقابلة إذاعة لندن) وهو يحضر لحنا لأغنية من كلمات أحمد شفيق كامل بعنوان «إنت عمري»، فاعجب الحفناوي بالمقاطع التي سمعها، وقال لعبد الوهاب: «هذا لحن يليق بأم كلثوم، لماذا لا تعرضه عليها» ؟فتلقى عبد الوهاب الملاحظة، على أنها حديث عابر أيضا.ولكنه فوجئ بعد ساعة من خروج أحمد الحفناوي، بأم كلثوم تتصل به قائلة إن الحفناوي أخبرها بأنه يضع لحنا جميلا يليق بصوتها، وأنها تود الاستماع إليه. وبلباقة شديدة، ودبلوماسية راقية، يتابع عبد الوهاب رواية الواقعة، فيؤكد أن أم كلثوم حضرت إلى منزله للاستماع إلى اللحن، أو الأجزاء المكتملة فيه.وعندما تم الاتفاق، يروي عبد الوهاب، أن خلافا نشب بينهما على موضوعين:موضوع الكلام في مطلع الأغنيةوموضوع استخدام آلة الغيتار في المقدمة.عن مطلع الأغنية يقول عبد الوهاب أنه أصر على تبديل كلمة "شوقوني” في المطلع الأصلي للأغنيةشوقوني عينيك لأيامي اللي راحوالأنها لا تعبر عن المعنى. فالمعنى يوحي بأن العاشق يتحسر على ما ضاع من عمره، ولا يتشوق إليه. وفيما تمسك الشاعر أحمد شفيق كامل وأم كلثوم بكلمة "شوقوني” يقول عبد الوهاب أنه أصر على تبديلها، إلى أن تم الاتفاق على كلمة "رجعوني عينيك” التي اعتمدت نهائيا. أما فكرة استخدام الغيتار، فقد استهجنتها أم كلثوم ما دام "لدينا آلة العود الجميلة”.ويتابع عبد الوهاب في حديثه الإذاعي نص الحوار الذي دار بينه وبين أم كلثوم، فأكد لها أن المسألة ليست مفاضلة بين العود والغيتار، ولكن الحملة اللحنية الواردة في مقدمة "إنت عمري” مكتوبة للغيتار وليس للعود. ولما بقيت أم كلثوم على اصراها، استخدم عبد الوهاب معها أسلوب الإقناع العملي، لا النظري، وهو أسلوب سيلجأ إليه عبد الوهاب في كل الخلافات الفنية التي ستنشأ بينه وبين أم كلثوم في الألحان العشرة التي كانت حصيلة تعاملهما الفني.وتفتقت قريحة عبد الوهاب عن فكرة إحضار عازف العود في فرقة أم كلثوم (محمد القصبجي في ذلك الوقت) وعازف الغيتار المفترض، وهو أصلا عازف على آلة الكمان في فرقة أم كلثوم، اسمه عبد الفتاح خيري. وهنا، يتوقف عبد الوهاب في حديثه الإذاعي، عند ذكر اسم القصبجي، في لفتة جميلة، يؤكد فيها أن محمد القصبجي هو أستاذ كبير، وهو أستاذه على آلة العود. ثم يتابع الوقائع، فيروي كيف أنه طلب إلى العازفين أن يؤديا بالتناوب الجملة اللحنية المقصودة في المقدمة، ففعلوا ذلك تكرارا إلى أن طلبت إليهما أم كلثوم التوقف، والتفتت إلى عبد الوهاب قائلة (بعبارة فرنسية كما يؤكد عبد الوهاب):معاك "كارت بلانش” (ومعناها: لديك صلاحية مطلقة) افعل ما يحلو لك.هكذا ولد العمل الأول الذي اعتبر، بغض النظر عن قيمته الفنية التي سنتطرق إليها في السطور التالية، حدثا فنيا تاريخيا، لأنه جاء ثمرة متأخرة جدا لتعاون فني كانت الجماهير تنتظره منذ أواخر العشرينيات.ومع أن عبد الوهاب وأم كلثوم كانا في ذروة مجدهما الفني، عند ذلك المنعطف، فان المحيطين بهما، يروون عن تلك اللحظات أن حالة من التهيب الفني كانت تسيطر على الفنانين. وقد روى لي أحمد عبد الوهاب، النجل الأصغر للموسيقار، نص حوار دار بين والده وأم كلثوم في "البروفة” النهائية للحن، قال فيه عبد الوهاب لأم كلثوم:"أنا رصيدي الفني كله بين يديك الآن، فإما أن تصعدي به إلى السماء، وإما أن تنزلي به إلى الأرض”.فانتفضت أم كلثوم لسماع مثل هذا الكلام وبادرته بالقول مستنكرة:"ماذا تقول، انت دخلت التاريخ بالحانك، أما أنا فمغنية تردد الألحان، يحبها الناس الآن، ولكن لا أدري إلى متى بعد رحيلي”.ومهما بلغ من دقة هذه الرواية، فان مغزاها يبقى كبيرا في مجال القلق الفني العظيم، كما في مجال التواضع الفني العظيم لدى الفنانين العظيمين، وقد أكد لي أحمد عبد الوهاب حالة التهيب الحقيقي التي كانت تسيطر على والده، الذي اصطحبه إلى خلف الكواليس، في الحفلة الأولى للأغنية "إنت عمري”، فأكد لي أن قدم والده الموسيقار كانت ترتعش، وهو يطل من وراء الكواليس مستطلعا ردة فعل الجمهور على المقدمة الموسيقية.ونعود إلى الفقرة الأخيرة التي تهمنا هنا من مقابلة عبدالوهاب الإذاعية، والمتعلقة بتفاصيل لقائه بأم كلثوم، حيث يتحدث عن تحليله لأسباب السهولة التي تم بها تعامله مع أم كلثوم، بعد طول ممانعة، فيشير إلى اعتقاده أن من بين الأسباب التي سهلت أمر هذا التعاون، أن أم كلثوم بدأت تقبل بانفتاح أكثر على مجالات التجديد فيما تقدم من فن (المحرر: أضيف أن آثار صدمة "عايدة” كانت قد زالت نهائيا، وأنها أصبحت واثقة من قدرتها على رفض أي لحن تجديدي، قد تشم منه رائحة مغامرة جديدة غير مضمونة العواقب) ثم يتابع عبد الوهاب حديثه الإذاعي بأن صحتها ما عادت تحتمل ذلك الجهد المضني الذي كانت تبذله في أداء أغنيات طويلة ذات لوازم موسيقية قصيرة، بحيث يكون الاعتماد على صوتها كاملا لساعات طويلة، وأنها تقبلت فكرة إشباع الأغنية بمقدمات، ولوازم طويلة، تمنحها فسحة من الراحة الطبيعية، وتقدم فيها للجمهور مادة فنية جميلة تكون جزءا طبيعيا من العمل الفني. «انت عمري» البدايةنعود بعد هذا الاقتباس المباشر المطول، عن رأي عبد الوهاب ومعلوماته بشأن ولادة التعاون الفني بينه وبين أم كلثوم، إلى تسجيل تفاصيل الاستقبال غير العادي الذي أحاطت به الإذاعات العربية، وجماهير المستمعين العرب ظهور إنت عمري، قبل الدخول إلى تفاصيل التقييم الفني الموضوعي.إن بالإمكان تخصيص بحث أكاديمي كامل عن الظروف الاستثنائية التي أحاطت بهذا اللقاء الأول بين عبد الوهاب وأم كلثوم، وظروف استقبال. الإذاعات العربية وجماهير المستمعين له، وظروف التحولات التي أحدثها ظهور هذا اللحن على تقاليد وطقوس الحفلات الشهرية لأم كلثوم، نذكر منها على سبيل المثال: لقد افتتحت "إنت عمري” على سبيل المثال، عصر الأغنية الكلثومية التي استمر أداؤها على المسرح في الحفلة الأولى مائة وثلاثين دقيقة.لقد أدخلت "إنت عمري”، وما تلاها من الحان لعبد الوهاب وبليغ حمدي ومحمد الموجي إلى رحاب المستمعين لأم كلثوم، كل الشرائح الاجتماعية التي كانت خارج تلك الرحاب حتى ذلك الوقت. وحتى رياض السنباطي، ذلك الكلاسيكي المخضرم، استنفر ظهور "إنت عمري” نشاطه وجدد شبابه، فأطلق رائعته الخالدة الأطلال بعد ما كانت قصائده الأخيرة (مثل ثورة الشك) تبدو أقل لمعانا نسبيا من روائع الأربعينيات. كما أن جماهير المستمعين الذين أدخلتهم "إنت عمري” في رحاب أم كلثوم، أصبحوا يعيدون النظر فيما تقدم وتأخر من أغنياتها، بما في ذلك الحان زكريا احمد ورياض السنباطي ومحمد القصبجي في العقود السابقة.أصاب اللحن الجديد الإذاعات العربية بما يشبه "هوس أم كلثوم”، فبقينا أسابيع طويلة بعد الحفلة الأولى، نستطيع سماع "إنت عمري” كيفما أدرنا مؤشر الراديو على أي إذاعة عربية، في أي ساعة من ساعات الليل والنهار. فإذا انتقلنا الآن إلى محاولة التقييم الموضوعي لمجمل حصيلة التعاون بين عبد الوهاب وأم كلثوم، (وليس لإنت عمري فقط)، فان الملاحظة الأولى الجديرة بالتسجيل، هي أن هذا التقييم لم يتخلص حتى كتابة هذه السطور من شوائب المعايير غير الموضوعية المختلطة بالمعايير الموضوعية، مما يقلل من نسبة الموضوعية في تلك التحاليل، التي يبدو أنها ما زالت بحاجة إلى مزيد من فعل غربال الزمن.أما مصدر الصعوبة الأساسي في التقييم الموضوعي لحصيلة ذلك التعاون، فهو أن معظم محاولات التقييم، إن لم أقل كلها حتى الآن، لا ينطلق من الظروف الموضوعية التي أحاطت بهذا التعاون ورسمت له أشكاله وحدوده القصوى والدنيا (وهي حتما لم تكن ظروفا مثالية)، بل ينطلق من فرضية نظرية – في تحليلي الشخصي- تفرض أنه ما دام اللقاء بين أعظم ملحني العصر وأعظم مطربات العصر، فلا بد لثمار التعاون أن تأتي بأعظم أغنيات العصر، وأعظم ألحانه.ولكن النتيجة العملية لم تأت مطابقة للافتراض النظري (وما كان لها أن تأتي كذلك)، فلا شك بأن الأغنيات العشرة التي شدت بها أم كلثوم من ألحان عبد الوهاب (ثماني أغنيات عاطفية وأغنيتان وطنيتان) ليست في مستوى فني واحد، كما أنها ليست بالقطع أجمل أغنيات أم كلثوم، ولا هي أعظم ألحان عبد الوهاب. ومن المؤكد أن معظم تفاصيل سجل خلود عبد الوهاب وسجل خلود أم كلثوم، كانت قد كتبت بنصوصها شبه النهائية قبل "إنت عمري”.بعد هذا الإقرار بالنتيجة النهائية، يسهل علينا الاقتراب من تحليل ثمار العلاقة الفنية بين هذين العملاقين، بأدوات موضوعية.لقد ذكر عبد الوهاب في سياق حديثه الإذاعي المطول الأنف الذكر لإذاعة لندن، سببا جوهريا يفسر به تأخر تعاونه مع أم كلثوم، يأتي في درجة الأهمية- برأيي- قبل كل الأسباب التي يمكن أن نفسر بها هذا التأخر، وهو سبب اختلاف الأسلوب الفني بين عبد الوهاب وأم كلثوم، وهو الاختلاف الذي فصّلنا كثيرا في شرح أسبابه، عند محاولة تفسير أعماق الخلاف الفني بين أم كلثوم وأستاذها محمد القصبجي.فمع أن الفنانين الثلاثة (أم كلثوم والقصبجي وعبد الوهاب) قد نشأوا وتربوا على التعمق في أساليب الإنشاد الديني والتجويد القرآني، ثم التوسع في الإطلاع على تراث القرن التاسع عشر (كل على طريقته)، فان الطرق الفنية اختلفت بعد ذلك المنطلق الموحد، بين أم كلثوم من جهة، وعبد الوهاب والقصبجي من جهة ثانية، اللذين قادهما العقل الموسيقي الكبير الذي كانا يتمتعان به، إلى الافتتان بنماذج الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، وإلى التعمق في الاستماع التحليلي لعدد وافر من أهم نماذجها السمفونية والأوبرالية. ولأنهما يشتركان في التخصص بفن التلحين (صرح لي عبد الوهاب في حديث مباشر أنه يعتبر نفسه موسيقيا قبل أن يكون مطربا)، فقد كان لجزالة أساليب التعبير واتساع آفاقه في أقسام الاوركسترا السمفونية، أثر حاسم في تفكيرهما الموسيقي، لذلك تميزت موسيقاهما بأثر واضح للتفكير الأوركسترالي، بمعنى أنهما كانا يلحنان للأوركسترا، وليس للصوت البشري وحده.ومع أن أم كلثوم سايرت القصبجي مطولا في هذا الاتجاه، بآثار واضحة على أسلوبها في غناء ألحانه في عقد الثلاثينيات، فإنها ما لبثت- كما رأينا- أن انتهزت فرصة فشل فيلم عايدة، للفكاك من هذا الأسلوب الذي كان لا ينسجم بشكل تلقائي مع طبيعة تكوينها الفني الأساسي، بينما كان ذلك الاتجاه، ويقي، مسيطرا على أسلوب محمد عبد الوهاب في الغناء والتلحين.ولأن عبد الوهاب قد انطلق في هذا الاتجاه بعد استكمال استيعابه الكامل والمعمق للتراث الموسيقي والغنائي العربي الديني والدنيوني، فإن المحصلة العملية لمغامراته الفنية بعد ذلك ما كان يمكن أن تؤدي به إلى التغرب، كما كان يصر غلاة المحافظين (خاصة في النصف الأول من القرن العشرين) بل جاءت النتيجة بتوليد أساليب متجددة من داخل الشخصية الراسخة للغناء العربي والموسيقي العربية، وهو – برأيي – الطابع الغالب الذي سيبقى من تراث عبد الوهاب الموسيقي والغنائي، بعد استكمال عملية الغربلة التاريخية. يؤكد ذلك أن أوسع شرائح المستمعين العرب، قد استوعبت هذه التجديدات وهضمتها داخل وجدانها الموسيقي والغنائي بحرية تامة، ومن غير أن يضطرها أحد لذلك، وعلى مدى ثلاثة أرباع القرن.تراجع المساحات الصوتيةولا أوافق الناقد الكبير الأستاذ كمال النجمي على نظريته التي يؤكد فيها أن عبد الوهاب قد سلك هذا الاتجاه من باب التحايل على تراجع مساحاته الصوتية، فأخذ يلجأ إلى التوسع المتدرج في دور الأوركسترا، حتى يغطي تراجع صوته. ولعل الدليل الحسي الذي يؤكد أن هذا الأسلوب التجدد إنما كان خيارا واعيا وتعبيرا عن اتجاه فني عميق وأصيل، أن عبد الوهاب بدأ باعتماده حتى في المراحل الأولى التي كانت فيها مساحاته الصوتية في كامل لياقتها وفتوتها (استمع مثلا إلى أغنيات مثل في الليل لما خلي وأهون عليك وعشرات مثلها).ويسهل كثيرا العثور على عشرات الأدلة لدى مقارنة تراث عبد الوهاب بتراث أم كلثوم بين 1925 و 1935، على بداية ارتسام ملامح مدرستين مختلفتين في الأداء الغنائي (خاصة في أغنيات أم كلثوم من ألحان داود حسني وزكريا احمد)، يمكن وصفهما اصطلاحها بالكلاسيكية التقلديدية والكلاسيكية المتجددة.ومع أن أعمال القصبجي (وأعمال السنباطي الأولى) قد دفعت أم كلثوم مرات عديدة باتجاه الكلاسيكية المتجددة، إلا أن الكلاسيكية التقليدية الراسخة الجذور في أعماق أم كلثوم (منذ نشأتها الأولى) هي التي غلبت ما عداها في المحصلة العامة لمسيرتها الفنية.إذن، كانت المهمة الأصعب أمام عبد الوهاب عند لقائه المتأخر بأم كلثوم، محاولة إيجاد الصيغة التوفيقية ( وهو الملحن الخبير والمطرب الخبير) بين أسلوبين مختلفين، بل راسخي الجذور في اختلافهما.إضافة إلى ذلك، فان عبد الوهاب قد بدأ بلحن لأم كلثوم وهو ليس في ذروة حيويته الفنية، كما أن أم كلثوم كانت كمغنية قد بدأت بنزول السفح الأخر للهرم، فكان على عبد الوهاب أن يراعي ضرورات الاقتراب من أسلوب أم كلثوم الغنائي، دون أن يستسلم له كليا (وإلا فقد شخصيته الموسيقية تماما) وأن يراعي عوامل التراجع في صوت أم كلثوم، فيحد خياله الفني، بحدود قدراتها الصوتية المتراجعة.فإذا وضعنا كل هذه الظروف العملية والموضوعية في الاعتبار، ونظرنا على ضوئها إلى الأعماق الداخلية للحن انت عمري (على سبيل المثال) فإننا سنرى أن عبد الوهاب قد صاغ لحنه الأول لأم كلثوم وفقا لخطة تريد أن توفق بين أغراض ثلاثة (بعدد مقاطع الأغنية الثلاثة):فجاء المقطع الأول (أد إيه من عمري قبلك راح) مع المقدمة الموسيقية والمقدمة الغنائية، وهابيا خالصا.وجاء المقطع الثاني محاولة وهابية موفقة في الاقتراب من الأسلوب الكلثومي (الليالي الحلوة). أما المقطع الثالث، فلعل عبدالوهاب وضعه تحت هاجس الاسترضاء المؤكد للجمهور، بعيدا عن أي مغامرة تجريبية توفيقية، فصاغ اللحن من وحي الأغنيات الكلثومية الخفيفة ذات النفس الشعبي، على طريقة على بلد المحبوب (للسنباطي) وغني لي شوي شوي (لزكريا أحمد)ولا تبرح مخيلتي تلك الشروحات التي استغرقت نصف ساعة، للعبقري محمود الشريف، وهو يشرح لي عظمة المقطع الأول في "انت عمري” في جزالته اللحنية المدهشة ومتانة بنيانه الهندسي، معتبرا إياه واحدا من أجمل ما سمع من مقاطع في تاريخ الموسيقى العربية.أما الحان عبد الوهاب الكلثومية التي تتميز بتكامل واضح من أولها إلى آخرها، وباقتراب من الكمال الفني والعمارة الموسيقية الشامخة، فهي برأيي ثلاثة: على باب مصر، وهذه ليلتي، وانت الحب.بعد ذلك تجلت روح عبدالوهاب في الأصالة المنطلقة بلا كلل نحو التجدد، والتميز بغزارة الجمل الموسيقية الجميلة، في ثلاثة نماذج أخرى هي: فكروني ودارت الأيام وأغدا القاك.وحتى أمل حياتي وليلة حب، التي تبدو أضعف الحان عبدالوهاب الكلثومية، فإن من يستمع إليها بتسجيلات خاصة بصوت عبد الوهاب وعوده، يكتشف فيها حساسيات وهابية ما كان بإمكان صوت أم كلثوم في أخر حفلاتها (1973) أن تؤديها بما تستحق، وتكشف عن مكنوناتها.ولا بد من إشارة أخيرة إلى أقصر الحان عبد الوهاب لأم كلثوم، اصبح عندي الآن بندقية، الذي يعتبر أكثر ألحانه لأم كلثوم وهابية، ومع ذلك فقد أدته أم كلثوم بحساسية راقية وبمسحة من الحزن الدفين الراقي، النابع من مشاعر عميقة يحركها الموضوع الذي يتحدث عن مأساة فلسطين. ومن الملفت للنظر أن هذا اللحن القصير القوي، كان مناسبة لقيام أم كلثوم لأول وأخر مرة في حياتها، بالغناء على طريقة تسجيل الصوت فوق تسجيل الأوركسترا الجاهز، من خلال وضع السماعات في الأذنين.وقد روى لي عبد الوهاب أن أم كلثوم جفلت من تلك الطريقة في البداية، وحاولت الإصرار على الغناء الطبيعي مع الأوركسترا، ولكن عبد الوهاب استخدم معها مرة أخرى أسلوب الإقناع العملي، لا النظري، فقام بتسجيل الأغنية بصوته أمامها، بالطريقة التقنية الجديدة في ذلك الوقت، مما سهل الأمور، فتجاوبت أم كلثوم ، ولكن لأول وأخر مرة في حياتها.نختتم هذا الفصل فنقول أنه صحيح أن حصيلة التعامل المتأخر بين عبد الوهاب وأم كلثوم، ما كان يمكن لها (لأسباب موضوعية كثيرة) أن تكون أجمل أغنيات أم كلثوم، أو أعظم ألحان عبد الوهاب، ولكن رصيد أم كلثوم الغنائي، ورصيد عبد الوهاب اللحني قد اغتنى بهذا التعاون، الذي يمكن لبعض ثماره (كما أشرنا) أن تصنف بين اجمل أغنيات أم كلثوم، واجمل الحان عبدالوهاب. ويكفي أن هذه الألحان قد جعلت كل المستمعين العرب، من كل فنانهم وأعمارهم وأذواقهم، ينضمون بلا استثناء هذه المرة إلى جمهور المستمعين لأم كلثوم، ويندفعون بعد ذلك إلى ما هو أهم، إلى إعادة اكتشاف التراث الكلثومي والاستمتاع به، من أوله لأخره، وبكل المدارس الموسيقية التي ساهمت في إنتاجه.على أي حال ما كان يمكن لنا أن نتصور مرور القرن العشرين ورحيل عبد الوهاب وأم كلثوم من غير تعاون فني فيما بينهما. صحيح أن النتيجة لم تكن مثالية، وما كان يمكن لها أن تكون كذلك في توقيتها وظروفها، ولكن تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة في القرن العشرين هو، مع ألحان عبد الوهاب العشرة لأم كلثوم، أغنى منه بغير هذه الألحان. إلياس سحاب
توابل - سيرة
أم كلثوم... السيرة والأغاني - السيرة الفنية (الحلقة الرابعة والعشرون) حتى الستينيات كانت المنافسة بينها وبين عبدالوهاب في أوجها للتربع على عرش الغناء عبدالناصر سألها: لماذا لا تتعاونين مع عبدالوهاب؟ فقالت: قل له فسأل عبدالوهاب فقال: قل لها!
07-09-2010