حين وصلت بديعة برفقة أمها إلى بيروت كانت علامات الفقر والبؤس تظهر عليهما بوضوح. لجأت الأم إلى مطرانية الروم الأرثوذكس في بيروت، مثلما يفعل فقراء طائفتها حين يشعرون ألا ملجأ لهم سوى هذا، وكان مطلبها الأول مكاناً يأويها وابنتها. وبعدما عرف من في المطرانية أنهما من عائلة مصابني، أشاروا إليهما بابن عم بديعة جورج مصابني فقد يعينهما، لكن الأم رفضت الاقتراح، وقالت إنها ستزور جورج، لكن بعد العثور على منزل تستقران فيه، وبعد بحث شاق وجدتا منزلاً متواضعاً بمساعدة شيخ الحي الذي تقع فيه المطرانية وكان اسمه نجيب الصباغة، وقد عرض عليهما إعطاءهما كل ما تحتاجان إليه إلى أن يأتيا بأغراضهما من الشام.

Ad

راحت الأم، عدوة الراحة والاستقرار، تشكو من حالة قلق وتظهر حنينها إلى الشام، ثم همست في أذن بديعة: «هيا يا ابنتي نعود إلى الشام»، إلا أن بديعة فاجأتها بثورة وقالت لها: «أي شام؟.. الشام الذي تعرف الألسنة الطويلة طريقها والألم واللاطمأنينة والأحزان الدائمة؟... يا أمي لا أمل في الشام... إذا كنت تريدين العودة عودي بمفردك... إذهبي أنت إلى شامك أما أنا فسأبقى هنا وحدي».

غادرت الأم بيروت إلى الشام فعلاً، تاركة بديعة وحدها، فراحت تستجدي الصباغة ليبقيها في المنزل، فرق لحالها وتركها مع بناته في منزله.

مر حوالى أسبوعين، ثم عادت الأم حاملة الأمتعة من الشام، وراحت بديعة ترتب المنزل، فكم هي مشتاقة إلى بيت تشعر فيه بخصوصيتها، وبعد ذلك بدأت العمل في أشغال الإبرة التي اتقنتها جيداً، واستطاعت أن تكفي نفقاتها، وبدأت تشعر بشيء من السعادة والهدوء في هذا البيت البسيط.

زواج لم يتم

توقفت بديعة أمام نفسها متسائلة، أليس من حقها أن ترفه عن نفسها لبعض الوقت؟ لقد اختنقت وضاقت من نكد أمها وكثرة الانشغال في العمل، ولم يكن أمامها من طريق سوى الحديث مع الجيران. كان جارهم إلياس الفران رجلاً كريماً ومضيافاً وشاعراً خفيف الظل مرح الحركات، وكان يتردد على بيته شعراء، والسهرات في بيته كان يحفها الأنس والمرح، فراحت بديعة تزوره بعد أن تعرفت إلى بنات إلياس وكن يتعلمن منها الأشغال اليدوية.

في إحدى الليالي، زار إلياس شقيق له قدم من أميركا، وحين رأى بديعة حدث بينهما استلطاف وقبول، فعزم النية على الزواج منها، إلا أن الأم وقفت للمرة الثانية في طريق زواج ابنتها، وراحت تسأل المتقدم: من أنت؟ ما سنك؟ ما يدريني أنك لم تكن متزوجاً في أميركا ولديك أبناء؟ أنت كهل وإذا سارت بديعة إلى جانبك سيظنون أنها ابنتك... ثم قالت له ليس لدينا بنات للزواج من الكهول... انصرف إلى حال سبيلك!

ظلّ العريس يحاول من ناحية وكل أفراد أسرة إلياس الفران من ناحية أخرى لإقناع الأم بالموافقة، لكن تلك المتجبرة لم تكتف بالرفض، بل قررت ترك بيروت والعودة ثانية وبديعة إلى قرية شيخان حيث تقيم ابنتها نظلة.

كانت أمنية بديعة الزواج من أي شخص لتتخلص من عذاب أمها، فأخبرت عائلة الفران بسفرها مع أمها إلى بلدة أختها نظلة، وطلبت منهم أن يأتي شقيق إلياس وراءها فربما يتمكن زوج نظلة ميخائيل جريوس من إقناع أمها، وفي الطريق إلى شيخان اشترطت بديعة على أمها ألا تسافر سيراً على الأقدام، لكن الأم تمادت في عنادها وقطعا المسافة إلى شيخان سيراً، وهناك كان العريس في انتظارهما، وأقام يومين في منزل نظلة حاول خلالهما ومعه الأطراف كلهم إقناع الأم بالقبول، لكنها استجمعت كل قوى الرفض ومانعت في الموافقة على هذه الزيجة، فعاد العريس بخيبة أمل كبيرة إلى بلده وبيته.

بعدما أمضت بديعة أياماً عدة في شيخان، عادت الأم ومعها بديعة إلى بيروت، ورجع العريس إلى أميركا مهزوماً، تاركاً عنوانه لبديعة لدى إلياس الفران فربما يمكنها اللحاق به بمفردها.

خادمة

سيطر على بديعة هاجس الهروب من هذه الظلمة الجاثمة على روحها، وقررت الفرار مهما كانت الصعاب والعوائق، لتتخلص من هذه الحياة الكئيبة، لكنها ظلت في حيرة من أمرها: هل تسافر إلى أميركا حيث العريس أم تبحث عن بديل آخر؟ وإذا سافرت إلى أميركا كيف ستمضي أمها أوقاتها في ذلك المنزل الصغير من دون أبناء؟ فعلى رغم أن والدتها كانت تسقيها الذل، إلا أن بديعة لم تستطع تركها وحدها.

فيما كانت بديعة غارقة في صراعاتها النفسية، زارها ووالدتها شيخ الحي نجيب الصباغة، وعرض عليهما العيش مع أبناء عمها، فهم أغنياء وظروفهم المادية ممتازة، وتفنن في إقناع الآم وتزيين الحياة لدى أبناء العم، ثم اتصل بجورج مصابني فأظهر الأخير اهتمامه بالأمر، إلا أنه اختار بديعة بمفردها للمكوث في منزله، فوافقت بديعة وأمها.

في منزل ابن عمها، فوجئت بديعة بإعطائها «مريلة» والطلب منها دخول المطبخ، لتكتشف أن مهمتها هنا ستكون العمل كخادمة، فتبدد حلمها بحياة هانئة وسعيدة، لكنها رضيت بالوضع، وظلت تعمل إلى أن جاءت أمها للاطمئنان عليها، وحين أدخلوها إليها من باب الخدم ورأتها في ثوب الخدم في المطبخ جن جنونها، فنهرتها قائلة: «هيا ارتدي ثيابك لنعود إلى غرفتنا. الفقر أشرف لنا من أن نعمل كخادمات في بيوت أهالينا».

تركت بديعة منزل جورج وعادت مع أمها، وفي الطريق ذهبت الأخيرة إلى جورج في مخزنه، وقالت له: «بديعة ابنة عمك يا جورج وليست خادمة عندك، وتحمل اسم مصابني»، وبكل برودة أعصاب أجابها: «هذا كل ما لدي وليس بوسعي غيره، فأنا متزوج ومسؤولياتي كثيرة، وزوجتي لا تحب أن يدخل البيت غريب، وأولادي يكرهون الغرباء، عليك بشقيقي ليان، فهو أعزب».

كان ليان حاضراً الموقف، فدعا بديعة ووالدتها إلى بيته على مضض. كان يعيش بمفرده في منزل كبير يستوعب عائلة كبيرة، وقفت بديعة تتأمل كل شيء فيه وهي مبهورة، فللمرة الأولى في حياتها ترى مثل هذه الأشياء الفخمة، وشتان بينها وبين الغرفة المظلمة الرطبة حيث تعيش بلا سرير.

كان في منزل ليان سيدة غير معروفة الصفة، فلا هي زوجة ولا هي خادمة بل تجمع الصفتين، لم تنسجم مع بديعة، وراحت تتفنن في مضايقتها وأمها حتى نجحت في ذلك. حينها لم يكن أمامهما إلا العودة إلى الشام.

ضربت أمها

واصلت بديعة مسلسل الترحال مع أمها بما فيه من عناء ومشقة، وعادت مجدداً إلى منزل الأسرة في دمشق حيث اكتشفتا أن شقيقها توفيق استولى على منزل الأسرة بكامله، وعاش في جزء منه، وأجّر الجزء الآخر! طلبت بديعة من أمها ترك المنزل واستئجار غرفة بعيداً عنه، لكنها رفضت، وعرضت عليها الذهاب إلى منزل خالتها، فرفضت أيضاً وأرغمتها على تمضية ليلتها في الحظيرة الملحقة بالمنزل، مع الحيوانات والفئران وأنواع كثيرة من الحشرات، حيث الروائح الكريهة والأرض الرطبة، فتوسلت بديعة إلى أمها البحث عن غرفة ترى الشمس، لكنها لم تستجب.

عاشت بديعة فترة طويلة في ذلك المكان الموبوء، وعادت تعمل بالإبرة، لتعينها على متطلبات المعيشة في ذلك المكان القذر، ثم خرجت بحثاً عن غرفة ترحمها من الحياة في هذا المكان العفن، وفعلاً وجدت واحدة نظيفة تتسع لاثنين، فاصطحبت معها فريدة زوجة شقيقها توفيق واستأجرتها، وعادت مسرورة.

ما إن عرفت أمها بخبر الغرفة حتى انتابتها ثورة غضب شديدة، ثم شرعت تضرب فريدة زوجة ابنها وبديعة بكل ما تملك من قوة. في هذا الموقف، خرجت بديعة عن صوابها وهددت أمها بأنها إذا ضربتها سترد لها الصاع صاعين، وعندما تمادت الأم هجمت عليها بديعة فضربتها وعضتها، ثم قيّدت وثاقها بحبل، وأفهمتها بأنها كبرت وعليها أن تتعامل معها بأسلوب حسن، فاستسلمت الأم لكلامها.

زواج آخر يفشل

وافقت الأم أخيراً على استئجار غرفة جديدة نظيفة يدخلها نور الشمس، وعاشت بديعة كأنها تحلم، فهي لم تصدق أن الفئران ذهبت بعيداً، وراحت تستحلف أمها ألا تذكر أي شيء عن الماضي، وعن حادثة الاغتصاب التي تعرضت لها كي تتمكن من إيجاد رجل يجهل ماضيها فتتزوجه، وتعيش في ظله، لكن الأم لم تهتم بما سمعت.

آنذاك، تعرفت بديعة إلى شاب فلسطيني قدم من حيفا بحثاً عن عروس للتهرب من الخدمة العسكرية، لأن القانون العثماني كان يمنع أي شاب متزوج من أجنبية من أداء خدمة الجندية.

لأن بديعة كانت جميلة وحسنة الخلق، ارتاحت والدة الشاب لها، وقررت خطبتها لابنها من أمها في أسرع وقت. بدوره، كان العريس المدعو ميشال حاصباني شاباً أنيقاً ورقيقاً، ووجدت فيه بديعة كل ما كانت تحلم به، لكن ما إن دخل منزلها القديم، حتى حاصرته سيرتها وعرف كل شيء عنها، لكنه لم يعبأ بكل بما سمع، وكان يرى أن بديعة ضحية ظروف رديئة، وذئب غدر بها ولا ذنب لها في ذلك، لكن أمه لم تقتنع، وراحت تسأل وتتفحص. في النهاية، قررت أن تذهب بديعة إلى الطبيب للكشف عليها، فشعرت الابنة وأمها بالخزي والمذلة.

ذهبت بديعة إلى سيدة عجوز تفهم في الطب النسائي (داية)، وبعد الكشف عليها أخبرتهم أنها ليست بكراً، وسبب ذلك حادث قديم، فقبل العريس هذا الوضع، وتفهم أن ذلك قد يحدث من دون قصد، بينما استغلت أمه هذه النقطة لصالحها، فراحت تفاتح أم بديعة في مسائل المهر والزواج، لكن الأخيرة أخبرتها أن تقاليد طائفتهم تحتم على العريس شراء حاجيات العروس وتحمّل تكاليف الزفاف، ولأن أم العريس كانت لا تختلف كثيراً عن أم بديعة في القسوة والتعالي غير المبررين، قالت لها: «يصحّ هذا الأمر لو كانت العروس سليمة وغير مشوهة».

لما سمعت أم بديعة هذا الكلام لزمت الصمت على غير عادتها، وشعرت بالخزي والانكسار، وعلى غير المتوقع منها قالت لأم ميشال إنها تملك مبلغ 50 ليرة ذهبية، فأجابتها أن «هذا لا يكفي». أضافت أم بديعة: «سأبيع حصتي في هذا البيت، علاوة على أنني لدي ماكينة خياطة، وسأسعى بكل ما لدي من قوة لأوفر لكما ما تريدانه».

كانت بديعة غارقة في الدهشة المفرطة أمام سخاء الأم الذي ظهر للمرة الأولى، فربما شعرت أن الحياة قصيرة وأن أيامها فيها معدودة، فأرادت أن تستر ابنتها، وفعلاً صارحت الأم بديعة أنها في أشد الحاجة إلى رؤيتها في كنف رجل يحميها، وقالت لها: «ما أريده الآن أن توفقي في زيجتك، وليهنئك الله بعريسك».

في اليوم التالي، حضر العريس وكانت علامات الفرحة تملأ وجه بديعة فرحبت به، وبدأت تشعر بالطمأنينة، وأحست أنها تبادله حباً، ونسيت ما فعلته والدته. لكن السعادة لم تدم لساعات، فقد حضر توفيق شقيق بديعة، وأصر أن تطلعه الأم على تفاصيل الزواج، وحين عرف أنها تريد بيع حصتها في المنزل هاج وثار، ثم طرد العريس، فخرج ولم يعد وأسدل الستار على هذا المشروع. هكذا كان توفيق وراء كارثتين كبيرتين: أولاً تعرض بديعة للاغتصاب وهي ما زالت طفلة، إذ لولا إدمانه على الخمر لما ذهبت تبحث عنه في الخمارة وتقع فريسة في يد صاحبها، ثانياً، إفساده مشروع زواجها الذي كان سينتشلها من الفقر والذل والقهر الملازمين لها.

لا رجوع

استعرضت بديعة حياتها أمام عينيها كشريط سينمائي، راحت تتذكر ما فعله أفراد عائلتها بها: هاجرت مع أشقائها إلى آخر البلاد فتركوها، وأمها أذاقتها من الذل والقمع ما لم يذقه أحد في مثل سنها، وشقيقها توفيق كان سبباً في فقدانها العريس، وابن عمها جورج جعل منها خادمة في منزله.

تذكرت ليالي النوم مع الفئران والحشرات... التعب والمشقة لتحصيل لقمة العيش، هذا كله والعائلة تقوم بدور المتفرج، من دون أن يجتهد أحدهم بالتفكير في مصير فتاة لا حول لها ولا قوة. لقد فقدت كل شيء وهي صغيرة، وابتليت بأم قاسية تسقيها الذل والمهانة ودمرت حياتها وهي في سن الشباب.

انتهت بديعة إلى اتخاذ قرار نهائي بالهروب وترك الأم والبيت والعائلة، بحثاً عن حياة جديدة، وبما أنها فكرت في الهرب، كان من المنطق أن تفكر في النفقات التي ستتطلبها هذه المغامرة، إضافة إلى المكان الذي ستذهب إليه: بيروت حيث تعيش أختها نظلة، أم إلى مكان آخر خوفاً من أن تدرك الأم مكانها فتلحق بها؟ هل تذهب إلى الأرجنتين وتعمل هناك بالأشغال اليدوية؟ والأهم من ذلك كله توفير المال اللازم لرحلة الهروب هذه.

فكرت بديعة في الشيك الذي أرسله شقيقها كمال إلى أمها وقيمته 50 ليرة ذهباً، لكن كيف ستصل إليه؟ راحت تراقب أمها بانتظار أن تتسنى لها سرقته. إنه أملها في حياة جديدة، وكانت الأم لا تتركه بعيداً عن نظرها، وتضعه تحت الوسادة خلال نومها. لكن يوم السبت تنشغل عنه بغسل الثياب وتنظيف المنزل، لذا فكّرت بديعة في أنه اليوم المناسب للحصول على الشيك.

في اليوم الموعود، أخذت بديعة الشيك من الكيس ووضعته في صدرها، ثم تظاهرت بالنوم. وعندما ابتعدت الأم نهضت بديعة من فراشها بسرعة مذهلة وقفزت من سريرها، وخرجت إلى حيث لا رجوع، إلى حياة جديدة ربما تكون أفضل وأكثر رحابة من هذا العالم الخانق.