كلـما عدت إلى كتب الـمغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي أبدو مندهشاً أمام أفكاره وحميميته في الكتابة، فهو يعطيها روضها ورونقها وحضورها، إذ يدخل الأدب في السوسيولوجيا والـميتولوجيا الشعبية في دائرة الـجملة الشعرية، ويجعل القارئ منشغلاً بعذوبة أفكاره سواء عن الـجسد العربي أو الشرقي، أو عن اليسار واليهود وماركس وسارتر والـمغرب وقضايا الحداثة.

يبدو عبد الكبير الخطيبي، الـممتع في كتاباته، مهمشاً مقارنة بـمفكرين عرب آخرين يطرحون النظريات والـمواضيع الطنانة والعناوين العريضة، فهو لـم يأخذ حقه في الوسط الثقافي العربي على رغم أن «دار الـجمل» العراقية أعادت قبل نحو السنة طباعة بعض أعماله.

Ad

يتجلى تهميش الخطيبي في وسائل الإعلام العربية أولاً، التي تـحب أصحاب الـمشاريع لا رواد الكتابة والأفكار الرزينة، وقد يكون سبب تهميش الخطيبي أنه رفض دوماً أن يكون له أتباع أو مريدون، وضحك ساخراً ممن حاولوا التنظير لـمذهب فكري أو بحثي خاص به، قائلاً في مقالة شهيرة نشرها في مجلة «الكرمل» الفلسطينية عام 1984 بعنوان «الباحث الناقد»: «يريد الآخرون أن يؤطّروني في خانة ما، والحال أني ممتهن لقياس الـمساحات!».

تكفي نظرة سريعة إلى أعمال الخطيبي للتأكد من أنّه كان فعلاً مثقّفاً مستعصياً على أي تأطير. فهو أحد السوسيولوجيين الرائدين في علـم الاجتـماع، له نصوصه اللافتة والنادرة، وإذا انطلقنا من بعض عباراته نتعرف إلى أطر تفكيره ومنهجيته الـمفتوحة على مختلف الثقافات الرولان بارتية (نسبة الى رولان بارت) في الكتابة الى حدّ جعلت هذا الأخير يقول: «إنني والخطيبي نهتـم بأشياء واحدة، بالصور، الأدلة، الآثار، الحروف، العلامات. وفي الوقت نفسه يعلـمني الخطيبي جديداً، يخلخل معرفتي، لأنه يغير هذه الأشكال، كما أراها يأخذني بعيداً عن ذاتي، الى أرضه هو، في حين أحس كأني في الطرف الأقصى من نفسي».

كان بارت، إلى جانب موريس نادوا وجاك دريدا، من بين أوائل الذين اكتشفوا الخطيبي وتبنّوا كتاباته ونشروا له في فرنسا، أواخر الستينيات.

أفق الـمغرب

ألّف الخطيبي كتاب «الـمغرب أفقاً للفكر»، داعياً فيه إلى التخلّي عن الاستسلام للنظرة السائدة عن أنفسنا وعن الآخرين، وخلخلة نظام الـمعرفة السائد من حيث أتى!! ودوَّن في كتابه الشهير «الإسم العربي الـجريح»: «ليس الـجسد هو النص، لكن الـجسد هو الصورة الغامضة لنصوص يتيمة لانهائية». وقال في أكثر من مناسبة: «نحن نسمح للدعارة أن تكون في الشارع ولا نسمح لشخصيّة روائية أن تعهر».

وفي تـمهيد كتابه «النقد الـمزدوج»، اعتبر أن الهوية الأصلية التي تقوم على الأصول اللغوية والدينية والأبوية لا يمكن أن تـحدّد وحدها العالـم العربي. فهذه الهوية تصدّعت وتـمزّقت بفعل الصراعات والتناقضات الداخلية. ثم إنها تجد نفسها مرغمة على التكيّف مع مقتضيات الحياة العصرية والتفتّح على العالـم. و{العالـم العربي إذا تعدد، وهو لا يشكل – ولا يمكن أن يشكل في حد ذاته- وحدة أو كلاً متـماسكاً بإمكاننا أن نحصره داخل منظومة واحدة». لذا يدعو الخطيبي الى «نقد مزدوج»: «ينصب علينا كما ينصب على الغرب، ويأخذ طريقه بيننا وبينه، فيرمي الى تفكيك مفهوم الوحدة التي تثقل كاهلنا والكلية التي تجثم علينا، وهو يهدف الى تقويض اللاهوت والقضاء على الايديولوجية التي تقول بالأصل والوحدة الـمطلقة.

في أطروحته عن الرواية الـمغاربية، كان الخطيبي أول من قام بـمسعى بحثي جاد إلى تقريب الهوّة بين شقّي الرواية الـمغاربية: العربي والفرنكوفوني. إذ برهن أنّ تلك الروايات، بغضّ النظر عن لغة الكتابة، تنطلق من متخيّل ثقافي واحد. أما ديوانه «الـمناضل الطبقي على الطريقة الطاوية»، فقد أحدث صدمةً أثّرت في وعي أجيال كاملة من الأدباء والـمثقفين. إذ إنّ الخطيبي لـم يتردّد في رشق الفكر اليساري الذي كان غالباً آنذاك، بحصى النقد والتجديد، رافضاً مفهوم «الـمثقف الوظيفي»، قائلاً: «الـمثقّف، سواء كان مناصراً للعقل الـمطلق أو للحكمة في خدمة الإنسان، أو كان مناصراً لقضية أو مثل أعلى، فهو مطالب بأن يتكيّف باستـمرار مع الـمبادئ والقيم التي يدافع عنها، وبالتالي فهو مرغم على سلوك موجّه إلى ذاته، لأنّ وظيفته هي تـحريك الفكر وتـحليل الـمجتـمع لا إدارته».

ميتافيزيقا الكليات

الخطيبي، وعلى رغم قلة أبحاثه السوسيولوجية الـمحضة ومحدوديتها، أراد بإصرار أن يثبت مكانة علـم الاجتـماع العربي في خارطة العلوم الإنسانية عموماً، في ضوء استراتيجية معينة، قصد منها تـحديداً زعزعة دعائم النظام الـمسيطر للـمعرفة الراهنة. فهذه الـمعرفة، في نظره، التخلي عن الدراسة النمطية في السوسيولوجيا، لأنها تخفي وراءها «ميتافيزيقا الكليات». وغاية هذه الدعوة هي تأسيس كتابة سوسيولوجية «لا يمكن أن تكون إلا ممارسة عنيفة تأخذ على عاتقها التاريخ والإيديولوجيا والعلـم».

لـم يقدّم الخطيبي أعمالاً سوسيولوجية أكاديمية كثيرة، ربـما كان الأمر يعود إلى توزّع اهتـماماته بين العلوم والفنون، لذا انحسر مدى تدخله في هذا الـمجال، وبشكل ملحوظ، في الـمطالبة بـمراجعة جذرية سواء للسوسيولوجيا أو لكل معرفة راهنة أو سائدة. هكذا ظلَّ يدعو إلى عدم «نسيان اللحمة بين الفلسفة والعلوم، لأن هذا يعني التـمسك بالعمل في العماء». كذلك، اختار مواضيعه بعناية، من خلال طروحاته وتصوراته الإيستـمولوجية عن طبيعة الفلسفة والعلوم والفنون تـحديداً. وهكذا اشتغل على الثقافة الشعبية، مازجاً بين الإبداع والـمعرفة العلـمية، من دون أن يكون باحثاً عن آثار يصنفها ويرتبها. واشتغل على التاريخ، من دون أن يكون مؤرخاً محترفاً يعتني بالحدث التاريخي في حد ذاته، بقدر ما اهتـم بـمفعولاته على صعيد الـممارسة الاجتـماعية أو الثقافية أو السياسية، وبالتالي كسيرورة تاريخية معقّدة وقابلة للتفجير والتفكيك. كذلك، اشتغل في حقل الفلسفة من دون أن يدخله، تاركاً وراءه تاريخها الطويل إذ لـم تستهوِه فكرة النسق والبناء الفكري الـمتكامل، جاعلاً من الفلسفة سلاحه النقدي العنيد في مناقشة قضايا شائكة خطيرة ومتباينة.

يقول محمد برادة في مقدمة كتاب «في الكتابة والتجربة» إن نقد الرواية جزء من مغامرة الكتابة لدى الخطيبي، وهو عندما نشر دراسته عن الرواية في بلدان الـمغرب العربي عام 1968، كان معظم الدراسات النقدية النقدية الـمكتوبة باللغة العربية يتخذ من النقد وسيلة لتـمرير بعض التصورات الإيديولوجية الـمسبقة أو لتكرار وصفات مدرسية عن الـمذاهب والاتجاهات الأدبية. وكان منهج الخطيبي «شاذاً» في العالـم العربي، والكتابة بالنسبة إليه، مغامرة تقتضي تفكيك الأشياء وممارسة النقد الـمزدوج للتراث ولـمعرفة الآخرين، وتقتضي إلغاء الحدود الـمصطنعة بين الأجناس الأدبية وبين أنواع الكتابة. وذلك يتبلور في روايته «سفر الدم» حيث يتـحاذى الشعر والحكاية والـمسرحة والسرد في فضاء وزمن مطلقين لا تـحدهما شساعة العشق وجمال الـموت وإغراء التطابق والـمغايرة. وهو كان يغوص من خلال لغته الرقراقة الهامسة، في مناخ «ألف ليلة وليلة» الـجميل الذي يلخّصه الخطيبي في «إحكِ حكاية والا قتلتك»، إلا أنه يحكي لا «خوفاً من الـموت، لكن خوفاً من أن تنتهي الليلة البيضاء» لحظة الشطحة والتواصل والحب الـمستـحيل.

يقرأ الخطيبي جزءاً من موروث الرواية وجزءاً من التراث القصصي في العالـم العربي، وكتابته النقدية بل منهجيته في النقد تجعلنا نتـحمس لقراءة كثير من النصوص الأدبية بطريقة مختلفة، إذ نفكر بـما بين السطور بعيداً السطحية، لأن للغة في هذا الـمكان حضورها الأخاذ والفاتن من دون زخرفة، فالخطيبي يقدم النقد الفلسفي من دون غموض أو تقعير كلامي أو هذيان لفظي، أو لنقل إنه يكتب نقداً يصل الى حد الشاعرية في بعض النصوص، ويجعلنا نشعر بـ {لذة النص» كما يسميها رولان بارت.

جروح الـمجتـمع

كان الخطيبي يعشق العلامات والرموز، والحروف والصور والأشكال، ويرصد جروح الـمجتـمع وانكسارات الحاضر، خصوصاً في كتاب «الإسم العربي الـجريح» الذي ترجمه الشاعر محمد بنيس، وقدم له الناقد رولان بارت، وفيه يعتـمد الـمؤلف على نقد مفهوم الـجسم العربي اللاهوتي، نقد الـمقاربات الاثنولوجية التي تتعامل مع الثقافة الشعبية تعاملاً خارجياً، ذلك طبقاً لـما كانت عليه في مرحلة تاريخية لا تخرج عن تقديس الـمتعاليات. والهدف من البحث الفصل بين الـجسم الـمفهومي والـجسم الحقيقي الـمُعاش والـملـموس، في محاولة لتجاوز قراءة الـجسم قراءة لاهوتية عن طريق التركيز على الهامشي في الثقافة والذي يعتبر محرماً مثل: «حديث الأمثال، الوشم، وكتاب الروض العاطر للشيخ النفزاوي، كتابة الخطيبي عن النفزاوي، ألف ليلة وليلة، روض آخر، روض العبارة الـمخزونة بالـمعاني»... والأمر نفسه في كتابته عن قصة الطائر الناطق بالإضافة الى الخط، على رغم أن هذه الـمجالات غريبة عن الثقافة العربية الـمكتوبة.

أما في ما يتعلّق بالإنجاز الـمعرفي الكبير الذي حقّقه «الاسم العربي الـجريح»، لا سيما في إشكالية فهم «الـجسد الشرقي» ونقده - وقد باتت اليوم، بعد أكثر من ثلث قرن على صدور البحث، راهنةً أكثر من أي وقت مضى، في زمن الردّة والـمدّ الأصولي- فقد كتب بارت في مقدّمته: «الخطيبي ينطلق من فرضية مهمة مفادها أنّ التـحرر العربي يتطلّب تـحرّر الـجسم هو الآخر. وهذا ما يجعل هذه القراءة تقترن بالإسلام، بوصفه مفهوماً مسبقاً ومتعالياً للذات وللعالـم، كذلك تعرض (القراءة) لـمسائل الهوية والأصالة الـمزعومتين، وأيضاً للاحتفال بشهوة الـجسم ومتعته».

«الاسم العربي الـجريح» له فرادته في الثقافة العربية الحديثة، وهو أهم كتب الخطيبي، في مجال البحث، ويقارن أهميته «كتاب الدم» في مجال الإبداع.

يعيد هذا الكتاب قراءة الـجسم العربي من خلال موروث الثقافة الشعبية الـمغربية بوعي نقدي، ويعتـمد بعدين أساسيين هما نقد الـمفهوم اللاهوتي للـجسم العربي من جهة، ونقد الـمقاربات الأثنولوجية التي تتعامل مع الثقافة الشعبية تعاملاً خارجياً ومتعالياً من جهة ثانية. إنه النقد الـمزدوج كما يسميه الخطيبي. وكل اطمئنان يجد نفسه هنا محاكماً، يستقبله سؤال ما نطق به اللسان سابقاً.

تستند قراءة الخطيبي للـجسم العربي إلى الفرق، وهو قانون أساس من قوانين هذه القراءة. وهو إقرار بالتعدد، ويستـحيل الوصول إلى الكشف عن غور الإسم العربي الـجريح من دون إعطاء الاعتبار لتعدد اللغات التي صيغَ بها هذا الـجرح. وحديث الكتب عن الكتب هو أحد أبعاده، حديث الـمركز عن الهامش، حديث الوحدة عن التعدد حديث الغياب عن الحضور، وبالتأكيد فإن لهذا الحديث طابعاً قمعياً، يرى ما حوله مواتاً لا نطق فيه ولا ارتجاج. والفرق هو الفاعل الـمحرك بالنسبة إلى الخطيبي، فثمة فرق طبقي، فرق لغوي، فرق تاريخ، فرق جغرافي، فروق لا نهائية عمدت الثقافة العربية الحديثة، أكانت سائدة أم في طريقها إلى السيادة، إلى قمعها.

يقول محمد بنيس في مقدّمة «الاسم العربي الـجريح»: «ترددت كثيراً قبل الشروع في تقديم أخشى أن يكون حاجزاً بين القارئ والكتاب، أو حداً من حرية قراءته على الأقل. إن الـمقدمة عادة ما توجه القراءة، رغم أنها قد تكون مساعدة على تفكيك وتركيب الـمتن الـمقروء، ومع ذلك فإن بعض الـمتون تنفر من كل تقديم، يظل انفتاحها خارجاً على انغلاق الـمقدمات، وهذا هو الشأن مع كتاب الخطيبي، «الاسم العربي الـجريح»». يبين بنيس أن قراءة الثقافة الشعبية لدى الخطيبي توقّف منهجي ونظري في مرحلة تاريخية ما تزال تقدّس الـمتعاليات، وتصمت عند حدود ترى أن الـمساس بها مدعاة للهدم. هذه الـمرحلة التاريخية هي التي ما يزال الفكر اللاهوتي حولها متـمحوراً.

الـمغرب

كان الـمغرب أحد الانشغالات اللافتة في مسار الخطيبي الفكري والإبداعي. ففي كتابه «الـمغرب العربي وقضايا الحداثة»، جمع مقالات تعكس في تنوّع موضوعاتها ومقارباتها الرحابة اللافتة لأفق تفكير الخطيبي وتعدد أدواته الـمعرفية، ما مكنه من الإحاطة بأبعاد إشكالية بناء الفضاء الـمغاربي كضرورة جيوسياسية واقتصادية، وكموضوع للنقد الثقافي. وكرّس الخطيبي في كتابه مساهمته في مقاربة الـمشروع الـمغاربي انطلاقاً من جولة في مفهوم الـمثقف ووظيفته، الـمطالب بـ{تنبيه الفكر على ذكاء عصره وحساسيته»، و{إبراز نقاط القوة والضعف لدينا»، وشدد الخطيبي أيضاً على الأولوية التي ينبغي إيلاؤها لـمشروع ثقافي مغاربي تستند إليه العملية الاندماجية الكلية، قائلاً: «... فبدون قيم حضارية لن تكون هناك هوية، ومن دون هوية مرجعية ذاتية لن يكون هناك مشروع ولا تفتـح على العالـم في اختلافه وتنوعه».

رأى الخطيبي أن التنمية التعليمية عنصر شرطي لنجاح الـمشروع الذي لن يتـحقق من دون إتقان الـمعرفة والتعليم. إذ بذلك فحسب تكون الثقافة بناء حياً تدعمه الـمقاييس والـمناهج والقدرات الفكرية. و{كل ثقافة وطنية قد تتراجع أو تضمحل في غياب تعليم يكون في مستوى الحضارة الـمعاصرة والـمستقبلية». وطرح الخطيبي على هذا الـمستوى عدداً من القضايا، مثل علاقة التعليم بالتقنية، وبـمسألة التعدّد اللغوي. والى جانب الإشكالية الـمغاربية، تضمّن كتابه الـمذكور سابقاً تأملات في الوضع العربي الراهن ركّزت على الهشاشة التي تطبع شخصية الإنسان العربي الـممزّق في ذاكرة انكفائية يؤثتها الحنين الى ماض لا تسنده حقائق الحاضر. والأمر يتعلق، حسب تعبير الخطيبي، بـ{ذاكرة تـحاول أن تـحيا في الكآبة ومن نفي الحاضر». ذاكرة تـحبس الإنسان في حنين دائم الى زمن ميت. وهي من جهة ثانية تعيش الحاضر كما لو كان حلـما وكابوساً».

يعيد الخطيبي في كتاباته إلى الأفكار حضورها ومعانيها، وهو الـممتع في زمن سيطرة الأشباح.