يعني الإصلاح لغة، إزالة الفساد عن الشيء، وتوفيق الإنسان إلى ما يوافقه ويحقق مصلحته. وفي الأرض يكمن إصلاحها في تحويل الجدباء منها إلى صالحة للزراعة، أما «الإصلاح الزراعي» فانطوى في التجارب الاشتراكية على تقييد الملكية الزراعية، كي لا تتجاوز حداً معيناً، مع تعويض من نزعت ملكية بعض أرضه أو كلها تعويضاً عادلاً ومناسباً، ثم تنظيم العلاقات الاقتصادية الخاصة بالزراعة وأحوالها. لم يزد معجم بلاكويل للعلوم السياسية في تعريفه للإصلاح على القول بأنه: «مصطلح واسع الانتشار، يطلق على التحسينات، أو على إلغاء سوء التصرف والعيوب. وُيترك للمؤرخين تقرير ما إذا كانت الإصلاحات قد حسنت الأمور بالفعل من عدمه. وعلى كل فإن الإجابات لا بد من أن تكون ذاتية غير موضوعية، على أنه لا يمكن إنكار حدوث تغييرات كبيرة في بعض العهود. وفي بريطانيا تقترن برامج الإصلاح بالحكومة الليبرالية قبل 1914، وحكومة العمال بعد 1945 وتقترن في الولايات المتحدة برئاستي فرانكلين روزفلت وليندون جونسون». أما بالنسبة إلى الناحية الدينية فقد شهدت أوروبا حركة إصلاح كبيرة، تمثلت في ثورة مارتن لوثر على الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر الميلادي، والتي انطلقت شرارتها منذ لحظة زيارته كنيسة روما، ورؤيته الفساد يضرب في جنباتها. ورمت هذه الثورة في البداية إلى تصحيح ما اعوج، فطرح لوثر 96 مطلباً لعملية الإصلاح هذه، لكن حركته لم تلبث أن تحولت إلى حركة عقائدية كاملة، تنافس الكاثوليكية، وتخصم من رصيدها، وتتحداها، عرفت باسم «البروتستانتية، التي أخذت تنتشر في معظم ألمانيا، واكتسحت الدول الإسكندنافية، وصارت لها جيوب في فرنسا، وأطلقت على نفسها في إنكلترا اسم «الكنيسة المشيخية»، ثم بدأت أعداد تابعيها تتزايد في أوروبا الشرقية.انصرف الإصلاح البروتستانتي إلى نواح علمية وفلسفية واجتماعية وسياسية، إلى أن صار يشكل الحد الفاصل بين العصور الوسطى والزمن الحديث في أوروبا، لا سيما مع فصم الارتباط بين الأرسطية والمسيحية، والإقبال على العلم الجديد، الذي يساعد الإنسان في استعادة مجده ومعرفته. وجاء كالفن خليفة لوثر ليرفع من شأن الفلكيين ويعتبرهم الأقرب إلى عقل الله، وقال قولته الشهيرة: «إن آيات سفر التكوين، والمزمور التاسع عشر، ليست صياغات علمية، لكنها عبارات أدبية تناسب غير العلماء». وفي الجانب الديني قامت البروتستانتية على إلغاء الوساطة بين الإنسان وربه، وأقرت بحق الفرد في أن يقرأ الإنجيل ويفهمه من دون مساعدة رجل دين، فيصير الشخص هو قس نفسه، بل هو البابا ذاته. وعلى التوازي ظهرت جماعات إصلاحية أخرى، مثل حركة إرازموس، الذي سبق لوثر في أفكاره، لكنه لم يبلغ مبلغه في معاداة الكنيسة الكاثوليكية حرصاً على وحدة العالم المسيحي، بل دعاها إلى العودة إلى صفاء المنابع المسيحية الأولى التي تنشغل بمبحث الأخلاق. وجاء المصلحون الراديكاليون، فدعوا إلى الفصل التام بين الكنيسة والدولة، وانقسم هؤلاء إلى اتجاهات عدة، فبعضهم دعا إلى تجديد العماد والانتظام في جماعات صغيرة على طريقة الحواريين الذين كانوا يلتفون حول السيد المسيح عليه السلام، مثل الإخوة السويسريين Swiss Brothers وجماعة الهتارايت Hutterites والمينونايت Mennonites. وثمة الروحانيون مثل كاسبر شفنكفيلد وسباستيان فرانك وتوماس مينزر وأندرياس كارلستات الذين نادوا بأن تكون الصلاة لله مباشرة من دون المرور بالقساوسة. إضافة إلى العقليين الذين دعوا إلى إعمال العقل في تدبر الإنجيل، ورفضوا بعض المسائل العقدية مثل ألوهية المسيح والفداء. وفي القرآن الكريم، ارتبط مصطلح «الإصلاح» بثلاث قضايا الأولى هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما عبرت عنه الآية الكريمة التي تقول: «إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب» (سورة هود: الآية 88). والثانية هي إحلال السلام والمودة بين الناس أو «إصلاح ذات البين»، وهذا ما تظهره الآية: «لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً» (سورة النساء: الآية 114).وفصّل الإمام عبد الحليم محمود في هاتين الناحيتين، من دون أن يذكر ذلك مباشرة في كتابه «منهج الإصلاح الإسلامي في المجتمع»، حيث انطلق من وجود دعوة دائمة إلى الإصلاح ومن يعمل في سبيله لتحقيق النهضة، ليتناول العناصر التي يقوم عليها الإصلاح الإسلامي في الأسرة والمدرسة والجامعات والمجتمع الكبير، ويحددها بالجوهر والمقدمات والثمار في العلم والعبادة والجهاد والرحمة.أما الثالثة فتتعلق بتولية الأكفأ، تطبيقاً للحديث النبوي الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: «من ولي من أمر أمتي شيئاً، فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه، قد خان الله ورسوله». ومفهوم الصلاحية لدى غالبية الفقهاء يرتبط بالكفاءة، أي أن يتم الاستعمال في كل موضع أكفأ من يقدر عليه. ولعل ما جاد به ابن تيمية في هذا الشأن يكون مفيداً ودالاً، إذ يقر بأن الأصلح في كل ولاية بحسبها. فالقوي لإمارة الجند حتى ولو كان فاسقاً، فقوته للمسلمين وفسقه على نفسه. والتقي لإمامة الصلاة حتى ولو كان ضعيفاً، فتقواه للمسلمين وضعفه على نفسه. رواد النهضةكانت فكرة الإصلاح محور اهتمام رواد النهضة الإسلامية الحديثة، خصوصاً لدى جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده، وقبلهما محمد بن عبد الوهاب. وهؤلاء هم رموز تيار لم ينقطع عطاؤه في تاريخ الإسلام الحديث والمعاصر. وثمة أربع سمات لفكر الإصلاح العربي ـ الإسلامي، أولها أن فكر الإصلاح الذي نشأ لدى العرب والمسلمين حديثاً لم ينفك عن بينة المعرفة المجتمعية القائمة والمتجددة بعمقها وأغوارها. وثانيها أن هذا الفكر قد تشعب إلى شعبتين، إحداهما اعتمدت على الذات والموروث الثقافي، والأخرى انطلقت من موروثها لكنها تأثرت بما لدى الغير، أو بالوافد الثقافي. والثالثة أن هاتين الشعبتين لم تخرجا عن الخصوصية العربية في طبعها ونموذجها، على رغم الاختلاف الظاهري بينهما.أما الرابعة فإن حركة الإصلاح العربية لم تختلف عن نظيرتها الأوروبية فحسب، بل أيضاً عن حركة الإصلاح التي قامت بها طائفة العقليين من المصلحين الهنود، الذين كان همهم الأول منصرفاً إلى الحركة الثقافية، والتوفيق بين الإسلام وبين مطالب المدنية الأوروبية الحديثة. وإن كانت الحركتان قد اتفقتا على أن الإسلام دين عام وعالمي يناسب جميع الناس، ويلائم جميع العصور والثقافات. وانصب جهد ابن عبد الوهاب على تخليص العقيدة الإسلامية مما شابها وخالطها وحاول أن يعكر صفوها، وإعادتها إلى أصلها الذي يكمن ويدور حول «التوحيد». وتطلب منه هذا محاربة البدع والطقوس الغريبة التي دخلت على المسلمين في زمن حكم العثمانيين، فلا أصنام ولا أوثان ولا عبادة آباء وأجداد ولا رجال دين أو أولياء. لكن هذا الإصلاح القائم على تصحيح العقيدة، قابله دفاع شديد وراسخ عن مبدأ الأخذ بالحديث والاعتماد عليه كلياً مهما كانت درجة صحته، ضد نزعة بقية الفقهاء الآخذين بالرأي والاجتهاد. أما الأفعاني فقد شغل نفسه بسبل النهوض بواقع العالم الإسلامي الاجتماعي، أكثر من اهتمامه بالمسائل العقدية، وكان يقرن النصر بتحقيق الإصلاح السياسي والإصلاح الديني في آن، ورأى أن كلا منهما مكمل للآخر. وعلى النقيض من هذا اقتنع محمد عبده بأن الإصلاح الديني والعلمي والتربوي قد يتم بمعزل عن الإصلاح السياسي، ومال إلى أن إصلاح الفرد والمجتمع مكمنه في إصلاح المؤسسات التربوية كالأزهر والمدارس والمساجد وجمعية التقارب بين الأديان. وبينما كان الأفغاني سياسياً ومفكراً ثورياً، لا يقبل الحلول الوسطى، وينظر إلى الشعوب الإسلامية من غانا إلى فرغانة باعتبارها كتلة واحدة متكاملة، كان عبده يردد: «خلقت كي أكون مدرساً».كان الأفغاني يؤمن بأن الإصلاح يمكن تحصيله في التو، شرط العمل لأجل بلوغه، أما الثاني فرأى أن الإصلاح عملية متدرجة، تتحقق بعد مدة، لذا هادن الاستعمار الإنكليزي، خارجاً على ثورية أستاذه الذي نادى بالكفاح ضد الاحتلال. وخالف عبده الزعيم أحمد عرابي الرأي حول التحول إلى الحكم النيابي الدستوري، محبذاً البدء بالتربية والتعليم لتكوين رجال قادرين على القيام بأعباء الحكم النيابي، وتعويد الناس على البحث في المصالح العامة، بما يقود في نهاية المطاف إلى حمل الحكام على العدل والإصلاح.وبلور عبده، بشكل أكثر جلاء، رؤيته المنحازة إلى التدرج في الإصلاح في طلبه من الأفغاني، وهما في باريس عام 1883، أن يذهبا سوياً إلى مكان غير خاضع لسلطان دولة تعرقل مشروعهما الإصلاحي، ليؤسسا مدرسة للزعماء، يختارا تلامذتها من الأقطار الإسلامية، ويقوما بتربيتهم لمدة معينة، ليصبحوا بعدها مؤهلين لقيادة الإصلاح في بلدانهم. لكن الأفغاني، الذي كان متعجلاً، رفض هذه الفكرة «الطوباوية»، والتي أعيد إنتاجها، بشكل مختلف، ولمقصد مغاير، داخل الحركة الإسلامية، وهي تتأسس على تأويل ذاتي لحدث الهجرة النبوية الشريفة، ينزعه من سياقه التاريخي والاجتماعي.وما بين الأفغاني وعبده من اختلاف في تقدير زمنية الإصلاح يعود في نظر عباس محمود العقاد إلى «اختلاف الفطرة والاستعداد بين هذين الإمامين العظيمين، فأحدهما خلق للتعليم والتهذيب، والآخر خلق للدعوة والحركة في مجال العمل السياسي والثورة الأممية». وربما وزعت الفطرة كلا منهما على مسلك مغاير للآخر، فالأفغاني يعول على الجماعة، وينادي بالثورة، ويمارس السياسة من أوسع أبوابها، ويقطع بعدم التعاون مع المستعمر، أما عبده فيعول على الفرد، ويسعى إلى تأجيج العاطفة الدينية، ويتوخى التربية سبيلاً إلى بلوغ الهدف ويكره على التوازي السياسة، فيستعيذ بالله من «ساس ويسوس»، ولا يرفض التعاون مع المستعمر إن كانت المصلحة تقتضي ذلك.مزاوجةيرى المفكر الجزائري مالك بن نبي أن الوضع الأفضل يقتضي المزاوجة بين أفكار الأفغاني وعبده، ويقول: «لو استطاعت المدرسة الإصلاحية تركيب أفكارها وتجميع عناصرها لتوحد بين أفكار الأصول التي ذهب إليها الشيخ محمد عبده، وبين الآراء السياسية والاجتماعية التي نادى بها السيد جمال الدين الأفغاني، لكان هذا سيؤدي حتماً إلى طريق أفضل من مجرد مبادئ إصلاح العقيدة» .تحقق هذا مع عبد الرحمن الكواكبي الذي اتبع في آن أساليب عدة في الإصلاح، تراوحت بين الميل إلى القوة والثورة والاقتناع بالهدوء والانتظار وبينهما التدرج في الإصلاح عبر تجهيز الرأي العام لقبول التغيير والإيمان بضرورته. وآمن الكواكبي بأن الإصلاح الديني هو الأصل والمنشأ لأي عملية إصلاح، سياسية أو اجتماعية، لأن الاستبداد يبدأ في نظره دينياً ثم يمتد إلى مجالات أخرى، وأن الدين إن صلح تصلح السياسة وغيرها. ولا يعني هذا أن الكواكبي نادى بإرجاء الإصلاح السياسي إلى أن يتم إصلاح الدين، بل دعا إلى أن يتم الاثنان في وقت واحد. وزاوج الكواكبي بين الفكر والممارسة، فأنتج كتباً عدة في مطلعها «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» وأنشأ جمعية «أم القرى» ووضع خطة ثورية لقلب نظام الحكم العثماني المطلق في بلاد العرب وإقامة حكم قومي على أساس الشورى، يقف على أكتاف «جمعية حكماء» تحرض الجماهير على المقاومة. وسار عبد الحميد بن باديس في الجزائر على الدرب نفسه، حيث أدّى دوراً سياسيّاً مهماً في سبيل استقلال وطنه، جنباً إلى جنب مع دوره التربوي، وسلك الطريقين بغية الحفاظ على هوية بلاده، التي كانت فرنسا تسعى إلى مسخها وإزالة أصولها، ودمجها في الجمهورية الفرنسية. فابن باديس ركَّز طيلة حياته على محاربة البدع، وتجديد الدين بربط الفروع بالأصول، والتربية والتعليم، وإعداد «القادة القرآنيين»، وكان يتفق مع محمد عبده في ضرورة أن ينطلق الإصلاح من التغيير النفسي، إذ يقول: «إن الذي توجه إليه الاهتمام الأعظم في تربية أنفسنا وتربية غيرنا هو تصحيح العقائد وتقويم الأخلاق، فالباطن أساس الظاهر». وكان في الوقت نفسه يتفق مع الأفغاني في ثوريته، بعد أن ضاق ذرعاً بالاستعمار، وانتابه خوف شديد على هوية الجزائر، وها هو يقسم: «والله لو وجدت عشرة من عقلاء الأمة الجزائرية يوافقونني على إعلان الثورة لأعلنتها». وجاءت الجماعات السياسية ذات الإسناد الإسلامي، لتتراكم على هذين المسلكين، فاختلفت بين نهج «الإخوان المسلمين» الذي يؤمن بالتدرج، ونهج «الجماعة الإسلامية» و{تنظيم الجهاد»، الذي يسعى إلى القفز على السلطة مباشرة. لكن الاختلاف حول «التدرج» و{القفز» لا يمثل لدى هذه الجماعات طريقة لدفع السلطة الموجودة إلى تبني الإصلاح، حسبما كان يرمي الأفغاني ومحمد عبده، لكنه يعني، ودون مواربة، اختلافاً حول طريقة إزاحة هذه السلطة أو الحل مكانها، سواء باستخدام الآليات السليمة المتاحة، والتي دفعت الإخوان المسلمين في مصر ليقدموا مبادرة للإصلاح السياسي، أو من خلال الانقلاب المسلح، كما يحاول تنظيم الجهاد، وغيره من تنظيمات إسلامية راديكالية.فالإخوان حين يتوسلون بالدعوة أو التربية الأخلاقية، فإنهم يقصدون بذلك تهيئة المجتمع لقبول حكمهم، والجماعات الإسلامية الراديكالية، على ما بينها من أوجه للاتفاق والاختلاف، لم تكن تقصد، حين حملت السلاح ضد النظم الحاكمة، الضغط على السلطة القائمة كي تصلح الأوضاع المتردية، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، بل على النقيض تماماً، فهذا الإصلاح لا يصبّ في مصلحتها، لأنه يعني تقوية شوكة النظم القائمة في مواجهتها، ثم كان مقصدها هو إسقاط النظم واغتنام نفوذها وفرصها ومكانتها. لكن ربما تغيرت هذه الاستراتيجية مع انتهاء المواجهة المسلحة لصالح النظم، وتيقن بعض فصائل الحركة الإسلامية من أن طريق العنف لن يجدي كثيراً ضد حكم مدجج بركائز القوة المادية والمعنوية، ثم راح «الإسلاميون» يطالبون بالديمقراطية، اعتماداً على أنها الوسيلة الأقل تكلفة والأكثر أمناً لهم في السعي إلى السلطة.سجال فكريفي السياق العام المعاصر، اعتنى العالم العربي بقضية «الإصلاح» عناية كبيرة رداً على الضغوط الأميركية التي انبنت على ربط واشنطن في لحظة ما بعد أحداث 11 سبتمبر بين «الإرهاب» و{الاستبداد». ودار جدل واسع حول هذه المسألة، وعلى غزارته، انتظم السجال الفكري العربي حول قضية الإصلاح السياسي في ثلاثة مسارات أساسية، ليست منبتة الصلة عن بعضها البعض، بل إن كلا منها يكمل الآخر، أو يفسره، أو يجلي غموضه. الأول هو زمنية الإصلاح، حيث تناقش العرب حول ما إذا كان من الضروري حرق مراحل الإصلاح أم يجب التدرج فيه. والثاني هو اتجاه الإصلاح إلى معرفة ما إذا كانت المسيرة يجب أن تبدأ من القمة لإصلاح «الحكام» أم من القاع لإصلاح الشعوب. والثالث هو جهة الإصلاح، بمعنى ما إذا كان سيتم بيدنا أم بيد عمرو، «الجماهير»، وما إذا كان رفض ما لدى الغير فرصة سانحة لنقد الذات العربية، لتحصينها ضد الاستغزاء.ويتواصل جهد المثقفين والباحثين والخبراء والحقوقيين ونشطاء المجتمع المدني ورموز المعارضة لتحصيل إصلاح حقيقي وشامل، يضمن تداول السلطة وانتقالها بشكل سلمي، بعد أن تختفي القوانين الاستثنائية والسالبة للحريات العامة، حرية التفكير والتعبير والتدبير، وتتحرر النقابات العمالية والمهنية، والجمعيات الأهلية، من قبضة السلطة الغاشمة، والقوانين الظالمة، وتضع جمعية تأسيسية دستوراً جديداً، فيشرف القضاء على الانتخابات، وتتساوى فرص المتنافسين السياسيين، ولا يحكم رئيس أكثر من مدتين، ولا يورث حكم، وتختفي ألوان القهر والجور كافة، وأشكال الزيف والتلاعب والتحريف، وأنواع التمييز على أساس الطبقة والمهنة والدين ولون البشرة والموقف السياسي، والأسوار التي تحجز الغلابة عن المترفين.وثمة من يدعو إلى تغيير السياق العام الذي يحيط بالعمليات والسلوكيات السياسية والاقتصادية، ليتم الانتقال من الاعتماد التام على السلطة إلى تحمل المسؤولية الفردية في مجال صنع مختلف القرارات، والانتقال من الإحجام إلى الانخراط، ومن الانعزال الثقافي إلى التفاعل الاجتماعي الخلاق، ومن المعارضة المطلقة الحدية إلى تبني منظورات تعاونية تقبل الاختلاف، ومن ثنائية الخطأ والصواب إلى التفاهم حول الحلول الوسطى، وتبديد مناخ اليأس والقدرية المغلوطة وصولاً إلى الثقة بالذات وبذل الجهد لأجل تحديد المصير، والانتقال من الشك المفرط إلى الثبات النسبي والثقة الفاعلة، ومن السرية والانغلاق إلى الشفافية والانفتاح، ومن الخضوع القسري إلى الانضباط الذاتي. وبالطبع، فإن القيمين على أمر الأنظمة الرسمية العربية يضيقون ذرعاً بمصطلح «الإصلاح»، لذا حاولوا خلال القمة العربية المنعقدة في تونس عام 2004 استبداله أو التعمية عليه باستدعاء كلمتي «تحديث» و{تطوير» من التاريخ الثقافي والسياسي غير البعيد، واستخدامهما في البيانات والتصريحات الرسمية، ثم انتقل القول إلى الفعل، بانقضاض السلطات العربية على غالبية الاستجابات التي كانت قد أبدتها حيال المطالبة بالإصلاح، وإعادة احتلالها المساحات التي كانت قد انحسر عنها الاستبداد قليلاً. لكن هذا كله لم يطمر مصطلح «الإصلاح» ولم يخرس ألسنة المتمسكين به، والمدافعين عنه.
توابل
المجددون والتجديد في الإسلام 10 الإصلاح... المنشود
03-09-2010