عادةً لا يستخدم حنّا ناصر، رئيس لجنة الانتخابات المركزية في فلسطين، الكلمات النابية، لكن عالم الفيزياء النووية المسيحي هذا، وعميد جامعة فلسطين البارزة سابقاً، زاد منها حين ألغت أخيراً حكومة رئيس الوزراء الفلسطيني، سلام فياض الذي يدير الضفة الغربية، الانتخابات البلدية التي كان يعد لها. وإن دل ذلك على شيء فهو يدل على أن نظيره المنافس له في غزة، إسماعيل هنية، زعيم حركة حماس، أقل ميلاً إلى وضع شعبية حركته قيد الاختبار. تلك هي ثالث دورة انتخابات تلغيها السلطة الفلسطينية في أقل من عام. فقد انتهت اليوم مدّة رئاسة السلطة الفلسطينية، والبرلمان والبلديات. وفي ظل غياب موعد محدد لانتخابات جديدة وظروف غير مألوفة دستورياً، يزداد حكم المسؤولين تسلّطاً. لذلك يأسف ناصر لمدى تردي الوضع الفلسطيني عما كان عليه في عامي 2005 و2006 حين أشرف على الانتخابات التي اعتبرها المراقبون الدوليون من بين أكثر الانتخابات نزاهةً في الشرق الأوسط. وهكذا عوضاً عن بناء دولة ديمقراطية، تتجه السلطة الفلسطينية سريعاً نحو إنشاء مجرد دولة استبدادية عربية أخرى.

Ad

من جهتها، لا تبدو الحكومات الغربية التي تمولها قلقة كثيراً. فمعظمها يرى السلطة الفلسطينية بمنزلة حصن ضروري ضد موجة انتخابية إسلامية أوصلت في عام 2006 "حماس"، أحد فروع حركة الإخوان المسلمين، إلى السلطة في الأراضي الفلسطينية. وبدلاً من تقبل انتصار الإسلاميين، حولت الحكومات الغربية تمويلها من مؤسسات السلطة الفلسطينية الديمقراطية إلى قوات الأمن التابعة لها تحت إشراف محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية المنتخب سابقاً (بنزاهة)، والذي مُنيت حركة فتح العلمانية، التي يرأسها، هزيمة على يد "حماس" في الانتخابات العامة لعام 2006. وحين طردت "حماس" "فتح" من غزة في السنة اللاحقة، استثمرت الحكومات الغربية في حكومة طوارئ غير منتخبة أُنشئت في الضفة الغربية بزعامة فياض، تكنوقراطي عيّنه عباس مع أنه لا يدين لـ"فتح".  

حيت الحكومات الغربية فياض على كفاءته في الحكم. بخلاف ياسر عرفات، أول زعيم للسلطة الفلسطينية اتصف بالتقلب إنما تحلى بالجاذبية، أدار فياض عجلة الحكومة بسلاسة. فما سهل قدرته على توفير الخدمات سخاء الدول الغربية فضلاً عن تحصيل فواتير الكهرباء. مع ذلك، يزداد عدد المشككين الفلسطينيين الذين يقولون إنهم لم يشهدوا بعد أثر المؤسسات التي وعد فياض ببنائها، كذلك لم يروا بوادر ملموسة لدولته الموعودة. فقد جُرّد البرلمان، أكثر ما يرمز إلى السيادة الفلسطينية، من سلطته. على مدى ثلاث سنوات، صدت حكومة فياض المساعي إلى إنعاشه وإحالة التشريعات إلى التدقيق البرلماني. بحسب ناثان براون من جامعة جورج واشنطن في العاصمة واشنطن: "عتّم التركيز على مزايا فياض الشخصية على سلسلة من التطورات السياسية الخطيرة، فضلاً عن أنه يحدث التباساً بين الإدارة النزيهة والسياسة السليمة".

بنتيجة الأمر، تبدو الحوكمة متشابهة إلى حد كبير في النصفين الفلسطينيين. فكل من "حماس" وفياض يحكم بشكل تسلطي، عبر دمج الهيئتين التنفيذية والتشريعية في واحدة، وكلاهما يعدان بإجراء انتخابات في المستقبل إنما يحاصران خصومهما ويسكتان وسائل الإعلام المستقلة غير المرخصة. وكدليل على نيتهما بالحكم من دون الالتزام بقيود الانتخابات الوشيكة، لدى فياض خطة للحكومة تمتد سنتين، في حين لا تقل خطة "حماس" عن عشر سنوات. هذا ويحاول كلاهما استبدال المشاركة الشعبية بالشعبوية. فيسعى فياض إلى لفت الأنظار طالباً من شعبه عدم شراء المنتجات المصنوعة في المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، بينما يعتلي هنية، نظيره في غزة، المنبر في المساجد ويوزع شخصياً الدولارات على شعبه المحاصر. في كلا الجزأين من الأراضي الفلسطينية، يذعن معظم الناس لأوامر حاكميهما من دون اعتراض خشية أن يتعرضوا للضرب. وإن حالفهم الحظ، قد يُدعى المنشقون إلى تناول الشاي مع ضباط الاستخبارات المحلية. أما من ينتهكون القانون مرات عدة فيُزجون في السجن. لذلك يخشى معظم الناس تجاوز الحدود بما أنه يجدر بالمتقدمين لوظيفة حكومية، في مجال التعليم مثلاً، الحصول على شهادة حسن سلوك في الضفة الغربية من مسؤولي الأمن المحليين وفي غزة من المسجد المحلي.

مع ذلك، ولّدت مثل هذه القيود شعوراً باللامبالاة في كلا الجزأين الفلسطينيين. فقد قاطعت بعض الفصائل السياسية الرئيسة الانتخابات المحلية التي نظمها ناصر، بينما كان البعض الآخر أكثر فوضويةً من أن يطلق حملات فعالة. لذلك بدت الاحتجاجات على إلغائها متواضعة ووجيزة. ووفق استطلاعات الرأي، يبدي الفلسطينيون استعداداً إلى حد ما للتعايش مع قدرهم المكمم، بعد أن أنهكتهم انتفاضاتهم، والقمع الإسرائيلي، والفوضى التي تشتعل من حين إلى آخر. من جهتهم، لا يبدو صنّاع السياسة الغربيون، الذين يسعون جاهدين اليوم إلى استئناف المحادثات المباشرة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية في الأسابيع المقبلة على الأرجح، على استعداد للترويج لجولة جديدة من الانتخابات قد تسمح بانتصار آخر لـ"حماس". في المقابل، تتصرف "فتح"، الفصيل الذي تؤيده، بشكل جامح وتشوبها الفوضى. في هذا الإطار، رفضت الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي الاقتراح المصري بأن تخلف حكومة مؤقتة جديدة الحكومتين المتنافستين في الضفة الغربية وغزة، وأن يجري التحضير لانتخابات هناك. على حد قول أحد المسؤولين الأوروبيين: "آخر ما يرغب فيه كثيرون في أوروبا أن تستعيد (حماس) دوراً تنفيذياً في الضفة الغربية. نفضّل الانقسام على انتخابات للمصالحة وإجراء انتخابات". في المقابل، يؤيد البعض على ما يبدو إنشاء النموذج السائد في الأردن، حيث يعلق الملك عبدالله البرلمان من وقت إلى آخر ويصدر الأحكام منفرداً، إنما يحافظ على الاستقرار، ويرفض تهديد إسرائيل، ويصغي بشغف إلى داعميه الأجانب كما إلى شعبه. فقد تكون مصر حثت السلطة الفلسطينية على وقف انتخاباتها المحلية. لكن لمثل هذه السياسات الإقليمية سيئات. فإبقاء الوضع الحالي على ما هو عليه يعني إرجاء مهمة إعادة توحيد الضفة الغربية وغزة وإقامة دولة فلسطينية موحدة. وفي ظل أمل ضئيل بحدوث تغيير سلمي عبر الانتخابات، ينظر المتنافسون حتماً في وسائل أخرى أكثر عنفاً. يلفت محمود زهار، أحد قادة "حماس" في غزة: "اخترنا السعي وراء السلطة بالوسائل الديمقراطية أو بالثورة". لقد تقوضت ثقته بالتغيير الديمقراطي، شأنه شأن معظم الفلسطينيين، بسبب الجهود المدعومة من الغرب لإبطال أو تجاهل نتائج فوز "حماس" في عام 2006. لكن صعود نجم فياض، الذي فاز حزبه بمقعدين فقط في البرلمان الفلسطيني من أصل 132 في تلك الانتخابات، علّم الطامحين الآخرين أن صندوق الاقتراع ليس السبيل الوحيد لبلوغ الأعلى.  

يُذكر أن فياض في الثامنة والخمسين فقط من العمر، لكن لائحة خصومه، المسلّح بعضهم، تطول. وقد بدأ المرشحون مسبقاً التنافس للحلول محل رئيس السلطة الفلسطينية الذي يزداد وهناً، عباس، البالغ اليوم 75 عاماً والذي غالباً ما يقول إنه يريد التنحي. وهكذا قد تتشكل الحكومة في فلسطين نتيجة تعيين، أو انقلاب، أو وسيلة أكثر دمويةً وليس نتيجة الانتخابات.