إن العداء المرصود للفكر الليبرالي والعلماني في العالمين العربي والإسلامي لهو ظاهرة ذات جذور تاريخية نفسية تستدعي الدراسة المتعمقة، ليس فقط للجذر التاريخي ولكن للجذر النفسي الإنساني، كذلك في كيفية توارثه للضغائن عبر القرون وكيفية إسقاطه لهذه الضغائن على حاضره وما يحيط به من ظروف دون أن يعرف مصدرها الحقيقي، أو كيفية التعامل معها، والأهم كيفية التخلص منها حتى يسير متخففاً من الحقد ويصبح قادراً على التعامل مع، بل الاستفادة من، مصدر الضغينة بحد ذاته.

Ad

إن نظرة سريعة لتاريخ الدولة الإسلامية تفشي أسراراً حمراء كثيرة قد تشكل جذوراً لما نعانيه اليوم من داء الاستبداد والعنف. إلا أن هذه الدولة الإسلامية نفسها، في محطاتها المشرقة المختلفة، كانت قد بنت تقدمها الحضاري على أساس من الفكر المترجم لكبار فلاسفة الإغريق واليونان الذين كانوا مصدر الإلهام المباشر للفكر التنويري لابن رشد وللتأملات الوجودية لابن سينا وغيرهما. فإذا كانت الدولة الإسلامية قد مهدت بداية الطريق بالفكر التنويري لحضارة إنسانية بازغة لا يمكن أن تبنى إلا على أساس من الليبرالية الفكرية والسياسية والاقتصادية، فما الذي سبب "النكسة" التي قادتنا إلى "نكبتنا" الدامية الحالية؟ من جانب، تكالب حكام طغاة فاسدين على الشعوب العربية الإسلامية، ومن جانب آخر حل عليهم الاستعمار فيما يبدو وكأنه محاولة لإنقاذ هذه الشعوب من حكوماتهم، إلا أنه التف حبلاً مدمياً حول الأعناق مستغلاً بشراهة كل الموارد الطبيعية والقوى البشرية للمنطقة، فارضاً عليهم ثقافة اندمجوا فيها وهم يكرهونها، فدخلوا في صراع مع الذات المنقسمة الهوية وكرهوا أنفسهم قبل الغرب لاستقبال هذه الهوية، وهي كراهية ممتدة ومتوارثة إلى اليوم بصور وأنماط مختلفة.

هذا، وقد زاد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين الطين بلة، فبقي سكيناً في الخاصرة، تؤلمنا كلما حاولنا التقدم للأمام. بلا شك، خلف الاستعمار العسكري البائد والاحتلال الفلسطيني الممتد وكل ما صاحبهما من تجارب قاسية أسوأ الأثر في نفوس الشعوب العربية والإسلامية، وهو أثر ملموس تجاه كل "فكر" يأتي من الغرب، ولكنه غير ملموس مطلقاً تجاه "المحسوس" المستورد. هذا العداء أتى بصورة عكسية في الدول الشرق آسيوية، فاليابان مثلاً، وفي وضع متباين معنا، تناصب الغرب العداء تجاه "المحسوس"، أما الفكر فهي ترحب به وتنهل منه، فكان أن عادلت الموازين وقلبت سحر القنبلة النووية المدمرة على الساحر. فاليابان تتحسس من استيراد أي منتوجات من الغرب، بل هي تصدر له وتترفع عليه بإمكاناتها الاقتصادية والتكنولوحية والعلمية، في حين أنها ترحب بالفكر الليبرالي الغربي الذي أصبح مصدراً رئيسياً في إلهامها والدفع أماماً بها. أما نحن، فمنذ بداية حركاتنا القومية الحديثة التي اتخذت من الفكر الغربي، لا المنتوجات الغربية، العدو اللدود لها، ونحن ندور في دوامة حارقة من كره الآخر وكره الذات. أسقطنا، وبكل أسف، كل تجاربنا المريرة السابقة، كل الذكريات التي لم نعشها وإنما توارثناها حملاً ثقيلاً، على واقعنا الفكري الحالي، فرفضنا النتاج الفكري الإنساني الأروع القادم من الغرب والذي فيه نجاتنا من دوامتنا، واستقبلنا إنتاجهم المحسوس مقنعين أنفسنا أن ليس في ذلك مذلة، لم لا نناصب "الشفروليه" و"المرسيدس" و"البي إم دبليو" العداء، في ما نصب جام غضبنا على الفكر الليبرالي الذي، على الرغم من كون صيغته الحديثة مؤسسة غربياً، إنما هو نتاج فكر إنساني طويل لا يخص حضارة معينة بل الإنسانية جمعاء؟ لماذا نناصب العداء للفكر الليبرالي الذي أنقذ أوروبا وأميركا من دمار الحروب الدينية وأسس لحضارتها العلمية الفارعة، ونتمسح بذل قميء بكل محسوس غربي من الدبوس إلى الأقمار الصناعية؟ أوليس من الأجدى أن نستفيد من الفكر الليبرالي التقدمي الذي ساهمنا، كعرب ومسلمين، من الأساس في صنعه، لنصبح صانعين بدلاً من مستهلكين كل مؤهلاتهم نفط نَضوب؟

يبدو أن قرون الطغيان المذل قد نخرتنا "جينياً" فأصبحنا مخلوقات غاضبة، شعوبا كاملة مصابة بالتوحد، فانكفأنا على أنفسنا لا نريد من العالم شيئاً سوى أن يدس لنا صينية الطعام من تحت عقب الباب، نأكل ونحمد الله ونبصق على اليد الممدودة، دون أدنى مبادرة منا في تعلم الطبخ، بينما كل ما نحتاج اليه هو أن نفتح الباب، نستنشق هواء الحرية، وننطلق الى المطبخ بأنفسنا، عندها نستطيع أن نصنع أشهى الأطعمة المناسبة لذائقتنا، عندها ستكون "لقيماتنا" أشهى وهي من صنع أيادينا عوضاً عن استيرادها في علب حزينة من الغرب... (ترغبون "بمحروق صبعه" أصلي صنع بيت؟ دونكم الليبرالية).

وكل عام والجميع بخير

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة