مرَّ نحو 86 عاماً على صدور أكثر الكتب ذيوعاً في تاريخ العرب المحدثين والمعاصرين على حد سواء. وهو كتاب صغير، مركز الفكرة، مفعم بالشجاعة، ومثير للجدل، فتح الباب لكتب أخرى نبتت على ضفافه، إما رداً عليه قدحاً، أو مساندته مدحاً، وإما معالجة فكرته الجوهريَّة، ومقصده الذي لم يخطئه صاحبه. إنه كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ علي عبد الرازق، الذي لا يدانيه شهرة في العقود الأخيرة سوى كتابي «في الشعر الجاهلي» لطه حسين، و{تحرير المرأة» لقاسم أمين. فكرة الكتاب الأساسية تقول إن الخلافة ليست أصلاً أحد أصول الإسلام، وإنما هي مسألة دنيوية وسياسية أكثر منها دينية، وإن القرآن الكريم والحديث النبوي لم يوردا ما يبين، من قريب أو بعيد، كيفية تنصيب الخليفة أو تعيينه، ذلك لأن هذا التنظيم «اختراع بشري» أو «اجتهاد» من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، لجأوا إليه حفاظاً على تماسك الجماعة المسلمة بعد وفاة النبي. ثم اعتبر عبد الرازق الخلافة «نكبة على الإسلام والمسلمين، وينبوع شر فاسد» وراح يسرد من معطيات التاريخ ما يبرهن على هذا الرأي الصادم آنذاك. وينقسم الكتاب إلى ثلاثة كتب فرعية، الأول عن «الخلافة والإسلام» والثاني بعنوان «الحكومة والإسلام»، أما الثالث فيدور حول «الخلافة والحكومة في التاريخ». وبعد تعريفه الخلافة لغوياً وتاريخياً، ثم تناول كيفية تحولها إلى «ملك» على يد الأمويين، يؤكد عبد الرازق أن القرآن الكريم قد خلا من أي إشارة إلى الخلافة، ويقول: «لم نجد في ما مر بنا من مباحث العلماء، الذين زعموا أن إقامة الإمامة فرض، من حاول يقيم الدليل على فرضيته بآية من كتاب الله الكريم. ولعمري لو كان في الكتاب دليل واحد لما تردد العلماء في التنويه والإشادة به، أو لو كان في الكتاب الكريم ما يشبه أن يكون دليلاً على وجوب الإمامة لوجد من أنصار الخلافة المتكلفين، وأنهم لكثير، من يحاول أن يتخذ من شبه الدليل دليلاً. لكن المنصفين من العلماء والمتكلفين منهم قد أعجزهم أن يجدوا في كتاب الله تعالى حجة لرأيهم فانصرفوا عنه إلى ما رأيت من دعوى الإجماع تارة، ومن الالتجاء إلى أقيسة المنطق وأحكام العقل تارة أخرى». ويذهب عبد الرازق إلى أن السنة أيضاً تخلو من حديث مباشر وواضح وقطعي عن الخلافة، فيقول: «ليس القرآن وحده هو الذي أهمل تلك الخلافة، ولم يتصدَّ لها، بل السنة كالقرآن أيضاً، قد تركتها ولم تتعرض لها. يدلك على هذا أن العلماء لم يستطيعوا أن يستدلوا في هذا الباب بشيء من الحديث، ولو وجدوا لهم في الحديث دليلاً لقدموه في الاستدلال على الإجماع، ولما قال صاحب المواقف إن هذا الإجماع مما لم ينقل له سند». ويؤكد عبد الرازق أن الأصل في الخلافة لدى المسلمين أن تكون راجعة إلى اختيار أهل الحل والعقد، والبيعة الاختيارية، أما الملك فمن الطبيعي أن يقوم في كل أمة على الغلب والقهر. وقد هبطت الخلافة في تاريخ المسلمين إلى ملك لأنها «لم ترتكز إلا على أساس القوة الرهيبة، وأن تلك القوة كانت، إلا في النادر، قوة مادية مسلحة». وهذا يخالف جوهر الإسلام، الذي يؤمن بالمساواة بين سائر البشر، ويمنع عبوديتهم لغير الله، و{من الطبيعي في أولئك المسلمين الذين يدينون بالحرية رأياً، ويسلكون مذاهبها عملاً، ويأنفون الخضوع إلا لله رب العالمين، ويناجون ربهم بذلك الاعتقاد في كل يوم 17 مرة على الأقل، في خمسة أوقاتهم للصلاة. من الطبيعي في أولئك الأباة الأحرار أن يأنفوا الخضوع لرجل منهم أو من غيرهم ذلك الخضوع الذي يطالب به الملوك رعيتهم إلا خضوعاً للقوة، ونزولاً على حكم السيف القاهر».حجة ضعيفةيستعرض عبد الرازق بعض الأدلة على فساد الحكم واستبداده بعد الخلافة الراشدة، ثم يبدي مرونة عالية في تصور شكل الحكم في الإسلام، فيقول: «إن يكن الفقهاء أرادوا بالإمامة والخلافة ذلك الذي يريده علماء السياسة بالحكومة كان صحيحاً ما يقولون، من أن إقامة الشعائر الدينية، وصلاح الرعية، يتوقفان على الخلافة، بمعنى الحكومة في أي صورة كانت الحكومة، ومن أي نوع. مطلقة أو مقيدة، فردية أو جمهورية، استبدادية أو شورية. ديمقراطية أو اشتراكية أو بلشفية، لا ينتج لهم الدليل أبعد من ذلك. أما إن أرادوا بالخلافة ذلك النوع الخاص من الحكم الذي يعرفونه فدليلهم أقصر من دعواهم، وحجتهم غير ناهضة». ويذهب عبد الرازق إلى أبعد مدى فيقول: «ليس بنا من حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا، ولا لأمور دنيانا. ولو شئنا لقلنا أكثر من ذلك، فإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة على الإسلام وعلى المسلمين وينبوع شر وفساد». وينتقل عبد الرازق إلى شرح وجهة نظره حول «نظام الحكم في الإسلام» فينطلق ابتداء من أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمارس نوعاً واضح المعالم من الحكم، أو السلطة السياسية، فيقول: «وجدنا عند البحث في نظام القضاء في عصر النبوة أن غير القضاء أيضاً من أعمال الحكومات ووظائفها الأساسية لم يكن في أيام الرسالة موجوداً على وجه واضح لا لبس فيه، حتى يستطيع باحث منصف أن يذهب إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعين في البلاد التي فتحها الله له ولاة مثلا لإدارة شؤونها، وتدبير أحوالها وضبط الأمر فيها. وما يروى من ذلك فكله عبارة عن توليته أميراً على الجيش أو عاملاً على المال أو إماماً للصلاة، أو معلماً للقرآن، أو داعياً إلى كلمة الإسلام. ولم يكن شيء من ذلك مطرداً، وإنما كان يحصل لوقت محدود... ومن المؤكد أننا لا نجد في ما وصل إلينا من ذلك عن زمن الرسالة شيئاً واضحاً يمكننا ونحن مقتنعون ومطمئنون، أن نقول إنه كان نظام الحكومة النبوية». ويفرق عبد الرازق بين الرسالة والملك، ويرى أن محمد صلى الله عليه وسلم كان رسولاً فحسب، فبالنسبة إليه، الرسالة مقام، والملك مقام آخر، ويقول: «كم من ملك ليس نبياً ولا رسولاً. وكم لله جلَّ شأنه من رسل لم يكونوا ملوكاً بل إن أكثر من عرفنا من الرسل إنما كانوا رسلاً فحسب... محمد ما كان إلا رسولاً لدعوة دينية خالصة للدين، لا تشوبها نزعة ملك، ولا دعوة لدولة، وإنه لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ملك ولا حكومة، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يؤسس مملكة، بالمعنى الذي يفهم سياسة من هذه الكلمة ومرادفاتها ما كان إلا رسولاً كإخوانه السابقين من الرسل. وما كان ملكاً ولا مؤسس دولة، ولا داعياً إلى ملك... القرآن صريح في أن محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن له من الحق على أمته غير حق الرسالة». ويطلب عبد الرازق ممن يريد أن يحاججه في هذا الأمر أن يمعن النظر في القرآن والسنة ويبحث فيهما عن أي صيغة للحكم في الإسلام فلن يجد شيئاً ذا بال، وهنا يتوجه إلى من يشكك في هذا الأمر ويقول له: «التمس بين دفتي المصحف الكريم أثراً ظاهراً أو خفيّاً لما يريدون أن يعتقدوا من صفة سياسية للدين الإسلامي. ثم التمس ذلك الأمر مبلغ جهدك بين أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. تلك منابع الدين الصافية متناول يدك، وعلى كثب منك، فالتمس فيها دليلاً أو شبه دليل، فإنك لن تجد عليها برهاناً، إلا ظناً، وأن الظن لا يغني من الحق شيئاً». وينهي عبد الرازق كتابه باعتبار أن الخلافة ليست نظاماً دينياً، وليست نيابة عن صاحب الشريعة، وأن ما قيل في هذا الاتجاه لم يكن سوى ترويجاً واضحاً لمسألة خاطئة بما يحقق مصلحة السلاطين. وهنا يقول: «الخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهي عنها، وإنما تركها لنا، لنرجع فيها إلى أحكام العقل، وتجارب الأمم، وقواعد السياسة». ولد علي عبد الرازق في قرية «صفط أبو جرج» مركز «بني مزار»، بمحافظة «المنيا»/ صعيد مصر سنة 1305هـ1887 م. حفظ القرآن صغيراً والتحق بالأزهر، وتعلم على يد شيوخ كثر من بينهم الشيخ أحمد أبو خطوة، والشيخ أبو عليان. وحين افتتحت الجامعة الأهلية سنة 1908، التحق بها، من دون أن يترك دراسته الأزهرية، فجمع بين الاطلاع على العلوم الدينية والمدنية. وفي عام 1912 تخرَّج في الأزهر، وحصل منه على شهادة «العالمية».وعقب تخرجه سافر إلى إنكلترا على نفقة أسرته، والتحق هناك بجامعة أكسفورد، عازماً على دراسة الاقتصاد، لكن اندلاع الحرب العالمية الأولى اضطره أن يعود إلى مصر سنة 1915، ليعين في السنة ذاتها قاضياً شرعياً.وكتب عبد الرازق مقالات كثيرة في جريدة «السياسة» التي كان يصدرها حزب «الأحرار الدستوريين»، وحاضر في طلبة الدكتوراه في جامعة القاهرة 20 عاماً كاملة في مصادر الفقه الإسلامي. وقد ألف إلى جانب «الإسلام وأصول الحكم» كتباً هي «أمالي علي عبد الرازق» و{الإجماع في الشريعة الإسلامية» و»من آثار مصطفى عبد الرازق». فُصل عبد الرازق من عمله في 17 سبتمبر (أيلول) سنة 1925 بعد المحكمة التأديبية التي عقدها له الأزهر على كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، فخرج بمقتضى القرار من «زمرة العلماء»، لكن حين تولى أخوه الشيخ مصطفى عبد الرازق ( 1885 ـ 1946) مشيخة الأزهر أعاده إلى موقعه. وعين علي عبد الرازق وزيراً للأوقاف فترة قصيرة في حكومة إبراهيم عبد الهادي باشا امتدت من 28 ديسمبر 1948 إلى 25 يوليو 1949، كذلك شغل عضوية مجلس النواب، ومجلس الشيوخ، وعين عضواً في مجمع اللغة العربية في القاهرة. وقد توفي في جمادى الآخرة من عام 1386هـ الموافق 23 سبتمبر 1966.ومزية «الإسلام وأصول الحكم» الكبرى ليست فحسب إعطاءه مثلاً في استجابة الفقه للظرف السياسي، حتى لو أنتج رأياً عليه مطعن أو اجتهد اجتهاداً عليه مأخذ، بل أيضاً معالجته قضية تتجدد باستمرار في واقع المسلمين، ولا تلوح في الأفق أي بوادر لإمكان تبددها في المستقبل المنظور، بل إن وطأتها زادت مع صعود نفوذ الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي، أو التي تتخذ من الدين الإسلامي أيديولوجية أو إطاراً لفكرها وممارساتها في المجال العام. يزيد على ذلك أن الكتاب في حينه كان يبدو «ثورة فكرية» أو «خروجاً ظاهراً» على رؤى تقليدية، بغية تأسيس مسار مدني للدولة الشرقية، التي كانت لا تزال خارجة لتوها من فلك الصيغة الإمبراطورية.لكن مزية هذا الكتاب الأكبر، في ظني، هي أنه لم يسقط بالتقادم، أو يُحال إلى تاريخ المعرفة، بل لا يزال حياً بين ظهرانينا، وكأن صاحبه قد فرغ من تأليفه في اللحظة الراهنة، أو تلك المتوقع أن نحياها، ولا فكاك منها، وكما أنها تعيش بيننا عيانا بيانا، فإنها قادمة لا ريب فيها. وتبقى هذه السمة قائمة في فكرة الكتاب ومضمونه، حتى لو كان صاحبه قد انحرف عن دوره، أو قام بدور لا يروق لكثيرين. فربما كان علي عبد الرازق هو «مثقف السياق» الذي يلبي حاجة متغيرة، تفرضها عليه قوة تقع خارجه، أو ينجذب هو إليها ليؤدي لها خدمة تنتظرها، وقد لا تعرف هي ذاتها كيف تدبرها. وربما كان هو «المثقف الأزلي» أو «المثقف الحقيقي» الذي يلبي نداء داخله، يدفعه إلى أن يقول كلاماً محدداً، ويسير في طريق معين، بغية نصرة الحق، وإزهاق الباطل، من دون مساومة ولا تردد. لكن بغض النظر عن الفروق الجوهرية بين هذين النمطين من المثقفين، فإن عبد الرازق كان على الأقل يؤدي دور «المثقف الناقد» الذي يخرج على المألوف، ويقلب السائد على وجوهه المتعددة، وليس «المثقف الاحترافي» أو «الاختصاصي» الذي يكتب ما يملى عليه، أو يفصل ويشرح بإسهاب الفكرة المركزية التي تعطى إليه، من دون أن يختارها، أو يكون له رأي في اختيار غيرها، أو تفصيلها على نحو يخالف ما قصده أصحابها. كذلك لم يكن الكاتب الذي يرضى بمجرد نقل المعرفة، أو الفقيه الذي يستسلم لما أورده سلفه من اجتهادات، ولا يتعداها. والسطر الأول في الكتاب يظهر كيف كان صاحبه يتحلى بشجاعة الكلمة، ويبدى استعداده لتحمل تبعات ما تجره عليه من ويلات، فها هو يقول في افتتاح الكتاب: «أشهد أن لا إله إلا الله، ولا أعبد إلا إياه، ولا أخشى أحدا سواه. له القوة والعزة، وما سواه ضعيف ذليل. وله الحمد في الأولى والآخرة. وحسبي الله ونعم الوكيل». والحديث الذي أدلى به عبد الرازق لجريدة «البورس إيجيبسين» ونشرته جريدة «السياسة» مترجماً في عددها الصادر في 14 أغسطس (آب) سنة 1925، يثبت كيف كان في بداية المعركة مقتنعاً بما كتب، غير مبال بالعاقبة، وكأنه يدرك أن هذا قدر «المثقف المختلف». فحين سأله مندوب الجريدة: هل يخرجك حكم علماء الأزهر من الإسلام؟ أجاب في غضب: كلا على الإطلاق. الحكم أخرجني من هيئة علماء الأزهر، وهي هيئة علمية أكثر منها دينية، ولم ينشئها الدين الإسلامي ولكن أنشأها مشرع مدني لم تكن له أية صفة دينية ولأغراض إدارية. وبناء عليه فإنني لن أكون في حسن الإيمان والإخلاص للإسلام أقل من أولئك العلماء الذين قضوا بإخراجي».وعلى رغم أن علي عبد الرازق قد ألف ثلاثة كتب أخرى فإنه لم يعرف إلا بكتابه الرابع، الذي رام منه فصل الدين عن السلطة فصلاً ظاهراً لا لبس فيه ولا مماحكة أو مداورة. ولم يشأ أبداً أن يقف في منتصف المسافات، أو يميل إلى أنصاف الحلول في قضية شائكة، طالما سببت لكل من أبدى فيها رأياً يخالف التصور الموروث ضرراً تراوح بين التجهيل والتفسيق وصولاً إلى التكفير، أو على الأقل المحاكمة والطرد من «هيئة كبار علماء الأزهر».وقد وجهت هيئة كبار العلماء إلى عبد الرازق سبع «تهم» محددة هي:1 ـ جعل الشريعة الإسلامية شريعة روحيَّة محضة لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا.2 ـ وأن الدين يمنع من أن جهاد النبي صلى الله عليه وسلم كان في سبيل الملك، لا في سبيل الدين، ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين. 3 ـ وأن نظام الحكم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان موضوع غموض أو إبهام أو اضطراب أو نقض، وموجباً للحيرة. 4 ـ وأن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم كانت بلاغاً للشريعة مجرداً عن الحكم والتنفيذ.5 ـ وإنكار إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام، وعلى أنه لا بد للأمة ممن يقوم بأمرها في الدين والدنيا.6 ـ وإنكار أن القضاء وظيفة شرعية. 7 ـ وأن حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده كانت لا دينية. في أيامه أثار الكتاب ضجة عارمة، وتنافست الأقلام حوله، قدحاً ومدحاً، فأحط بعضها من شأن مؤلفه إلى أسفل سافلين، وأعلاه بعضها إلى منزلة راقية من الشجاعة والفهم. لكن المطالعة المنصفة والمدققة للكتاب وصاحبه بعد هذا العمر تجعل من الضروري إبداء ملاحظات عدة على النحو التالي:1 ـ اتبع علي عبد الرازق في كتابه المنهج الذي كان سائداً لدى فقهاء المسلمين وكتاب السير، والذين استفادوا من طريقة القرآن الكريم في عرض حجج المشككين فيه وفي الإيمان وفي وجود الله سبحانه وتعالى ثم دحضها. فعبد الرازق كان يعرض ما يتوقع أن يقوله خصومه حول ما جاء في كتابه، ثم يتولى الرد عليه تباعاً. 2 ـ من يمعن النظر في تفاصيل معركة كتاب «الإسلام وأصول الحكم» وأطرافها، ربما يجد تحققاً عملياً لبعض ما جاء في الكتاب ذاته. فالسياسة طغت على الدين، عبر استغلال المتنافسين في حلبتها الضارية لمادة الكتاب بغية تحقيق مآرب أبعد ما تكون عن مسائل العقيدة والعبادة. وهذا الأمر كان أحد الأسباب الرئيسة التي دعت علي عبد الرازق إلى رفض الربط بين الإسلام والسلطة السياسية.3 ـ لم ينج عبد الرازق من الوقوع في خطأ متكرر لدى كثيرين وهو اتخاذ الممارسة التاريخية حجة على النص. فالنص يعرض المثل العليا، والممارسة تجسد الواقع، ودوماً ثمة فجوة بين الاثنين، تتسع وتضيق، وتتقارب وتتباعد، لكن زلات التطبيق لا تعني أن في النص خللاً، وهذه مسألة تنسحب على قضايا كثيرة حفل بها النص الإسلامي المؤسس وهو القرآن الكريم، ومن بينها عدالة الحكم، بغض النظر عن عدم وجود تفاصيل تحدد هيكل الحكم ونوعه ومساره تحديداً صارماً. في الوقت نفسه يجب ألا تبنى الاستدلالات على إعطاء كل ما عدا القرآن حجية هذا الكتاب المنزل. فالفقه والتفسير هما منتج بشري، والصحيح من الأحاديث المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقع في درجة أدنى من القرآن، وإن تعارض معه فلا يلزم أحداً.4 ـ يجب إعادة التفكير في مسألة ربط الإسلام كدين بقيام دولة تعبر عنه تعبيراً محدداً، وتسهر على حراسته. فالإسلام انتشر في إفريقيا من دون دولة، إنما عبر جهود مشايخ الطرق الصوفية والتجار، ووصل إلى أصقاع في آسيا بالطريقة ذاتها، وهو الآن يتمدد في أوروبا إلى درجة أن 63 شخصاً يعلنون إسلامهم يومياً، حسب إحصاء مكتب الهجرة الأوروبي في النمسا، من دون أن يكون هناك إطار سياسي أو سلطوي يساعد هذا التمدد أو يحرسه.5 ـ حين نتعرض لطبيعة دور الرسول صلى الله عليه وسلم علينا أن نفرق بين «القيادة» و{الرئاسة» فالأولى ذات طبيعة اجتماعية، وهي تتأسس على سمات وصفات لدى شخص تلقى قبولاً عند الجماعة التي ينتمي إليها، فيخلعون عليه مهابة واحتراماً وحباً، من دون أي تقيد رسمي حياله، ولا سلطة رسمية له عليهم. أما الثانية فذات منحى رسمي، يرتبط وجودها بوجود منصب، ولا يحظى من يشغله بالضرورة حباً واحتراماً ومهابة. وليس له من طاعة على الناس إلا بمقتضى ما يوفره له المنصب من صلاحيات. وأعتقد أن وضع الرسول الكريم كان وضع «القائد» في المسلمين، وليس وضع الرئيس، وأن تصرفاته السياسية كانت بنت القيادة وليست نابعة من الرئاسة.
توابل
المجددون والتجديد في الإسلام 5 علي عبد الرازق...عدوّ الخلافة
29-08-2010