إن مشكلة «البدون» المعقدة صناعة حكومية بامتياز، فالحكومة مارست المماطلة والتسويف والتهرب من حلها عبر سياسة التصريحات والوعود السرابية والإبر المخدرة، وآخر هذه الوعود البراقة هو الوعد بحل المشكلة قريباً! وكأن كل الجهود التي بذلت في حصر الأعداد وفرزها طيلة السنوات الماضية قد ذهبت أدراج الرياح ورجعنا إلى المربع الأول.

Ad

طالما قلنا مثلما قال كثيرون إن قضية «البدون» قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت، ومع أن ما جرى في الأيام الماضية لا يعتبر انفجاراً، لكنه بالتأكيد يُعد تنفيساً عن مشاعر هذه الفئة، وقد يتحول إلى انفجار في يوم من الأيام، ومع ذلك لا أدري ما الحكمة من محاولة قوات الأمن تفريق المظاهرات التي خرجت بالقوة؟ فلم يكن للمشكلة أن تتفاقم وتتضرر بعض المنازل ويصاب البعض الآخر إضافة إلى اعتقال العشرات لو ترك للمتظاهرين أن يعبّروا عن مشاعر الإحباط والسخط التي تجول في خاطرهم ثم تنفض المظاهرات بسلام دون أي مشاكل.

وليس من الإنصاف أن يتم لوم المتظاهرين على اختيار توقيت خاطئ للتعبير عن مطالبهم بعد كل الضغط الذي يمارس ضدهم طيلة السنوات الماضية، فنكون بذلك كمن يلوم المتعرض للضرب المستمر لصراخه وتعبيره عن ألمه.

طبعاً هناك دائما من يحاول الالتفاف على هذه المشكلة عبر محاولة إلصاقها بملف التجنيس، لكن للمرة الألف نقول إن ملف التجنيس منفصل عن الحقوق المدنية التي تكفل الحد الأدنى من الحياة الكريمة لهذه الفئة المظلومة.

فلم يعد من المقبول أن تعاني هذه الفئة الحرمان من العديد من الخدمات مثل التعليم (وإن تمت معالجته جزئيا) والصحة وتوثيق العقود والتوظيف في الجهات الحكومية مع أنهم الأولى بالتوظيف من الأجانب لأن ما يتقاضونه من رواتب سيصرف داخل البلد ولا يحول إلى الخارج كما هي الحال مع الكثير من العمالة الأجنبية.

إن مشكلة «البدون» المعقدة صناعة حكومية بامتياز، فالحكومة مارست المماطلة والتسويف والتهرب من حلها عبر سياسة التصريحات والوعود السرابية والإبر المخدرة، وآخر هذه الوعود البراقة هو الوعد بحل المشكلة قريباً! وكأن كل الجهود التي بذلت في حصر الأعداد وفرزها طيلة السنوات الماضية قد ذهبت أدراج الرياح ورجعنا إلى المربع الأول. ولست متفائلا بوفاء الحكومة بوعدها الأخير لأن من وضع على رأس الجهاز له موقف مسبق من هذه القضية (مع كامل احترامنا لرأيه و لتاريخه) واستعان بنفس المسؤولين عن المشاكل السابقة.

ويبدو أنه قدر لنا في هذا البلد ألا تتحرك الحكومة إلا بعد خراب البصرة... خذوا مثلاً مجمع الصوابر الذي أجمع الكثيرون على فشله وحذروا من تزايد الحرائق فيه، ومع ذلك صمّت الحكومة أذنها حتى حدوث الحريق الأخير لتحسم أمرها بالتثمين. إن المطلوب من الحكومة ومجلس الأمة أيضا حسم قضية الحقوق المدنية لهذه الفئة المظلومة الآن وترك ملف التجنيس للجهاز المركزي المعني بهذا الملف قبل فوات الأوان، وتفاقم المشكلة إلى ما لا يحمد عقباه، فالإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول: «عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج للناس شاهراً سيفه»، فالحرمان في بلد الخير أصعب من الحرمان في بلدان يعمها الفقر، خصوصاً في بلد نقرأ فيه يوميا عن كوادر وزيادات ومنح.