من غير المجدي تلخيص أحداث «الوتر» بدقة، ليس لأنه فيلم بوليسي ويتمحور حول جريمة قتل (نتحفظ عن ذكر القاتل لتشويق القارئ)، إنما في الحقيقة لأنه، بخلاف ما يبدو للوهلة الأولى، ليس فيلماً بوليسياً من النمط المعتاد بل هو من طراز سينما غير تقليدية لا تعتمد على الأحداث وروايتها، بل على تقديم لمحات من النفس الإنسانية ورحابتها وما يعتمل فيها وما تنطوي عليه.«الوتر» تجربة خاصة بكل معنى الكلمة، أقدم عليها مجدي الهواري مخرجاً ومنتجاً، ليقدم أنضج أفلامه... لا شكّ في أن مستوى النضج الفني والتقني والجمالي في الفيلم يجعله مفاجأة سارة، بكل معنى الكلمة، للمشاهد وأحد أحسن أفلام 2010 المصرية، ومسك الختام بحقّ إذ عُرض في خاتمة العام. يستند «الوتر» (سيناريو محمد ناير)، في بنائه الدرامي وسرده السينمائي إلى معمار القصيدة وروح المعزوفة الموسيقية، لذلك تبدو الأحداث مجرد «تكأة» أو حجة درامية، بما في ذلك جريمة قتل الموزع الموسيقي الشاب (أحمد السعدني) وتحقيق الضابط الشاب الرائد محمد سليم (مصطفى شعبان) على مدار الفيلم واتهام الفتاتين الشقيقتين مايسة (غادة عادل) ومنة (أروى جودة). ذلك كله لتقديم حالة من الجمال، إذا جاز التعبير، لها طابعها الموسيقي والشعري على غرار العمل الأوبرالي أو الباليه، حيث تكون الحدوتة، عادة، على درجة من البساطة والسذاجة، باعتبار أن الأهم هو الإطار الكلي والروح الجمالية التي تتدفق من ينابيع ومصادر الجمال، متنوعة متناغمة، لتخاطب في النهاية روح المتلقي ووجدانه وتحلّق به في عالمها ليكون مع العرض أو العمل، ليس كما قبله أو من دونه.لذا نلاحظ جهداً خاصاً واجتهاداً مميزاً وروحاً وثّابة إبداعية على صعد: التصوير والإضاءة والمونتاج والموسيقى التصويرية والمؤثرات والديكور، منذ اللقطات الأولى أو السطور الشعرية الأولى أو النفحات الموسيقية الافتتاحية في هذا الفيلم ـ القصيد.لكل حالة جمالية في أي عمل فني من أي نوع ينابيع أو مصادر، وقد أدار الهواري مجمل عناصر الفيلم الفنية بحيث تتضافر وتتكامل لينبع منها الجمال الذي يشعر به ويسعى إلى حضوره كي يلمس «وتراً» خاصاً لدى المتلقي، ابتداء من النص، بل من العنوان «الوتر» وصولاً إلى الفتاتين العازفتين إحداهما على الكمان والثانية على التشيللو ووالدهما الموسيقار الراحل، حتى الشاب، الذي يخدعهما ويذهب ضحية نزقه وعدم وجود أي وازع أو مبدأ رادع في حياته، يعمل بدوره موزعاً موسيقياً، كذلك المحقق فإن زوجته الشابة، التي قتلت بدورها في موقف صادم، كانت ترسم اللوحات... فيما جملة الاستهلال أو الافتتاح في الفيلم هي: «لو الحياة آلة موسيقية والناس أوتار وفيه بيننا وتر فاسد، يبقى لازم نضبط الأوتار عشان ميكونش فيه أي نشاز في اللحن».لذلك، تفوّق الهواري وكان على مستوى طبيعة التجربة، وقد ساهمت مختلف العناصر الفنية، خصوصاً التصوير (مازن المتجول، عمرو فاروق) والمونتاج (غادة عز الدين) والموسيقى (محمد مدحت ـ أمير هداية)، في إبراز الصورة على درجة إحكام ملحوظة دقيقة في ضبط الإضاءة، بما يناسب غموض بناء الفيلم الشعري ـ الموسيقي وروحه، من دون تعتيم أو إشراق ظاهر ليس في مكانه. جسدت الموسيقى جمالاً عذباً، على رغم تعبيرها عن أشجان وعذابات معظم المشاهد، واستطاع المخرج توظيف الـ «الفلاش باك» بقدر تضمينه التصورات المتخيلة غير الواقعية، فرأينا، مثلاً، تصوّر المحقق لارتكاب الشخصيات جريمة القتل مجسداً، فكان المونتاج مرهفاً رشيقاً، يخدم الرؤية الكلية الجمالية للمخرج بدقة.بقدر ما ساعد حجم اللقطة وزاوية الكاميرا واختيار التكوين على تجسيد هذه الرؤية، ساعد حضور وحركة الممثل داخل التكوين ومدى فهمه لروح الشخصية وطبيعتها أيضاً، فتضافر أداء الممثلين الأدوار المؤثرة في التعبير بالإحساس الداخلي والإيماءة والنظرة، في المقدمة غادة عادل لنضجها التعبيري، وتناغم معها كلّ من أروى جودة ومصطفى شعبان وأحمد السعدني وعلي حسنين وغيرهم.نتيجة تجربة «الوتر» السينمائية، ذات الطبيعة والروح الموسيقية، جديرة بتشجيع مخرجها على التحليق بل الانطلاق إلى آفاق أبعد وأرحب جمالياً، موسيقياً وشعرياً، وبلورة عالم فني خاص وأسلوب سينمائي مميز يضيف إلى تجارب واجتهادات السينما المصرية العربية إسهاماً وملمحاً وروحاً جديدة.
توابل - سيما
الوتر... حالة من الجمال
21-01-2011