بات لافتاً أن أفغانستان وبسبب ظروفها السياسية والاجتماعية والدينية أصبحت «خزّاناً» لمواضيع تخص المرأة وقضاياها، وإذا كان المجتمع الغربي ينتج نجمات السينما «المشرقطات» واللواتي يبحثن عن الفضائح والثروات في مشوار شهرتهن، فالنساء الأفغانيات وبحسب ما تبين الصور أو النصوص المكتوبة، هن ضحايا «الفاشية الاجتماعية والدينية».ثمة ثلاثة نماذج عن واقع المرأة الأفغانية منذ الاحتلال السوفياتي إلى الزمن الطالباني والأميركي: الفتاة الأفغانية عائشة التي ظهرت مجدوعة الأنف على غلاف مجلة «تايم» الأميركية، وشربات جولا صاحبة الصورة الشهيرة على غلاف مجلة «ناشونال جيوغرافيك»، والشاعرة الأفغانية نادية أنجومان التي قُتلت على يد زوجها بعد ضربها المبرح حتى الموت. ربما علينا البدء في هذا السياق من قصة عائشة التي لا تزال تثير الجدل حتى الآن، إذ فازت الصورة التي التقطها المصور الجنوب إفريقي جودي بيبر لعائشة بجائزة «صورة الصحافة العالمية» لعام 2010، وهي أكثر جوائز الصحافة مكانة. وتعود قصتها إلى أن عائشة تعرضت بموجب أمر من قائد طالباني، إلى جدع أنفها وقطع أذنها العام الماضي كعقاب لها على الفرار من منزل زوجها. ووصفت عائشة جريمة تقطيعها في مارس (آذار) الماضي في حديث لشبكة CNN بالقول: «عندما قطع أنفي وأذني أغشي علي... شعرت كأن ماءً بارداً جرى صبه على أنفي، فتحت عيناي، ولم أر شيئاً لأن الدم كان يغطيهما». وأوضحت أن تقطيع الأوصال يعد «قصاصاً عادلاً لجريمة جلب العار إلى عائلة الزوج»، إبان حكم طالبان. وذكرت أيضاً أنها كانت في سن الـ 16 عاماً عندما سُلِّمت إلى والد زوجها وأشقائه العشرة، وجميعهم من عناصر طالبان، فعاشت معهم لمدة عامين قبيل أن تفر هاربة. وعلى رغم أن الهروب ليس جناية في أفغانستان، إلا أنه يُنظر إليه كجريمة في حال كان الجاني امرأة.«عدالة طالبان»قال أعضاء هيئة جائزة «الصحافة العالمية» إن الصورة على رغم أنها صادمة، اختيرت لأنها تلقي الضوء على العنف ضد النساء بصورة واضحة. والحال أن وجه عائشة على غلاف مجلة «تايم» مشوّه بصورة يصعب على المرء تخيّلها، وهو علامة على «عدالة طالبان» الفاشية، لكن مجلة «تايم» وظفت الصورة في إطار سياسي، إذ عنونت «هذا مثال لما سيحدث إذا انسحبنا من أفغانستان»، واعتبرت الصحافية إيرين كارمون على مدونة «جيزيبيل» التي تناصر قضايا المرأة: «القضية ليست الصورة، إنه العنوان... وثمة ارتباط بين ما يمكن وما ينبغي أن يقوم به الجيش الأميركي الموجود هناك». سرعان ما تحولت الصورة إلى رمز لرهانات الحرب التي تدور رحاها منذ ما يقرب من العقد. وأثارت تعليقات على الإنترنت وتسببت في انطلاق نقاشات حول قضايا كثيرة بدءاً من محاربة الإجهاض إلى العنف ضد المرأة. وباتت صورة عائشة إشارة الى الفاشية الجديدة في العالم.ليست طالبان وحدها من يقطع الأعضاء، ففي زمن صدام حسين كان عقاب بعضهم من خلال قطع الأذن مثلاً حتى بات هناك حزب الأعضاء المقطّعة، وفي لبنان أمثلة فاشية من زمن الحرب على تقطيع الأعضاء على «الحواجز الطيارة» أو «حواجز القتل على الهوية»، واشتهر بعض الميليشيا بقطع الألسن. لكن اللافت في قصة عائشة تبيان صورتها وشجاعة مجلة «تايم» في نشرها على رغم أنها من دون شك تخيف الكبار والصغار وتؤثر نفسياً على الجميع.اللافت أيضاً في ما يتعلّق بالصورة وصاحبتها أن الأخيرة كانت محظوظة لأنها وجدت من ينقذها أخيراً ويهتم بها، إذ ذكرت التقارير أنه أجريت لها جراحة ووُضع لها أنف صناعي... لكن مهما يكن يبقى الرعب شبحاً يخرج من صورة عائشة، شبح يشير الى واقع الفاشية الجديدة.عينا شربات جولاقدّم بعض المراقبين مقارنات بين صورة عائشة على غلاف «تايم» وبين بعض أكثر الصور تأثيراً التي كانت من بينها صورة اللاجئة خضراء العينين التي تدعى شربات جولا والتي ظهرت على غلاف مجلة «ناشونال جيوغرافيك» عام 1985، وأصبحت في ما بعد رمزاً لمعاناة أفغانستان تحت الاحتلال السوفياتي. شربات وعائشة، فتاة تعيش المأساة الاجتماعية في مخيم اللاجئين الأفغان، وفتاة قُطع أنفها، والجامع بين صورتيهما أنهما تشكلان إشارة الزمن الى الواقع والثقافة والمجتمع والأحوال كلها، فصورة شربات أشبه بأيقونة الجمال وسط جو مأساوي، وصورة عائشة إشارة إلى رعب قل نظيره أو يصعب تخيّله... الصورة وحدها تحكي.رممت إحدى الجمعيات أنف عائشة التي أطلت في وسائل الإعلام، وربما تتحول قصتها إلى فيلم سينمائي أو وثائقي، خصوصاً في خضم الحرب على طالبان... أما شربات فغزت عالم الميديا من غير قصد. كان لافتاً حصولها على المركز السادس في مسابقة «أجمل عينين» في العالم على شبكة الإنترنت قبل سنوات، هي التي سحرت العالم، منتصف الثمانينات، بجمال عينيها وكانت في الرابعة عشرة من العمر، بعدما التقط لها المصور ستيف ماكوري صورة في أحد مخيمات اللاجئين الأفغان في باكستان، نُشرت على غلاف مجلة «ناشونال جيوغرافيك» الأميركية عام 1985، لتصبح الصورة الأكثر شعبية في تاريخ المجلة.وعلى رغم أن جولا أصبحت زوجة وأماً، إلا أن العالم لا يزال يتذكر عينيها الساحرتين. وهي حلت في تلك المرتبة إلى جانب تشارليز ثيرون وصوفيا لورين وإليزابيت تايلور وإيشواريا راي وأنجيلينا جولي، وغيرهن.السؤال: هل اختار منظمو المسابقة الفتاة الأفغانية للديكور أم أنهم يريدون الترويج للمسابقة من خلال العيون الأفغانية؟ فحين أعلنت نتائج المسابقة تصدرت أخبار شربات جولا واجهة وسائل الإعلام... ربما لأنها صاحبة الجمال الصافي من دون سينما أو نجومية.شربات التي تحدثنا عنها مراراً في مقالات سابقة، تقول حكايتها إنها امرأة أفغانية من قبيلة البشتون تتسم بنظرات تخترق الذاكرة، بل تخترق معنى الصورة، هي أيقونة للتصوير الحديث من بلد كان طريقاً للحرير وصار منبعاً للحروب والإرهاب والشعر والأساطير والأوثان والمعاني. لعيني شربات قصة امتدت سبعة عشر عاماً كانت تُعرف فيها شربات باسم «الفتاة الأفغانية» بين جميع موظفي مجلة «ناشونال جيوغرافيك»، فلا أحد منهم يعرف اسمها الحقيقي ولا حتى المصور الذي التقط لها صورة قبل عقدين تقريباً. حتى أن أحد النقاد قال إنها أيقونة من أيقونات التصوير الفوتوغرافي المعاصر، وإن وجهها يذكّره بغموض ابتسامة الموناليزا.قصة شربات جولا باتت معروفة للمتابعين، وهي بدأت عندما ذهب أحد مصوري «ناشونال جيوغرافيك» ستيڤ ماكوري إلى باكستان في النصف الأول من الثمانينات في رحلة عمل، وخلال تلك الرحلة، وبينما كان يقوم بعمله في أحد مخيمات اللاجئين الأفغان في شمال باكستان، استرعت انتباهه فتاة في الثالثة عشرة من عمرها بخجلها وحزنها، لكنه فوجئ بها تسأله: «هل تأخذ لي صورة؟». قالت تلك العبارة باللغة البشتونية التي كان ستيف قد تعلم شيئاً منها لتساعده في إنجاز عمله.يقول ماكوري إن هذه الفتاة عانت حياة صعبة كما كانت سنوات أفغانستان الثلاث والعشرين صعبة أيضاً، فقد قتل مليون ونصف مليون شخص، وشُرّد الملايين خلال هذه السنوات من حياة البلاد الفقيرة. يضيف: «لم أعتقد أن صورة تلك الفتاة ستكون مختلفة عن أي شيء صورته في ذلك اليوم، غير أنها كانت مختلفة كل الاختلاف. فالصورة التي التقطتها عام 1984 أصبحت، عقب نشرها على غلاف المجلة عام 1985، إحدى أهم الصور التي يشار إليها عند الحديث عن المعاناة الأفغانية».ظل اسم تلك الفتاة غير معروف طوال 17 عاماً إلى أن قرر تلفزيون «ناشونال جيوغرافيك» عام 2001 إرسال ماكوري مجدداً للبحث عن الفتاة لمعرفة تأثير الأحداث في أفغانستان عليها.عاد ماكوري إلى باكستان بحثاً عن شربات جولا في مخيمات اللاجئين على رغم معرفته بصعوبة العثور عليها بعد هذه السنوات كافة. شاهد عدداً من الفتيات اللواتي يملكن عينين شبيهتين باللتين تملكهما شربات جولا، لكنه لم يعثر على شربات. فجأة رأى أحد اللاجئين الأفغان صورة شربات في يد ماكوري، فقال إنه يعرفها إذ كانا يلعبان في المخيم نفسه عندما كانا طفلين. وأضاف أنه يعلم أين تعيش الآن.استغرقت رحلة الوصول إليها من أحد الجبال القريبة من منطقة تورا بورا نحو ثلاثة أيام قطع فيها المسافرون جبالاً تعتبر مهلكة، إذ مات فيها لاجئون كثر أثناء هربهم من ويلات الحرب في أفغانستان. وعندما حضرت شربات إلى المخيم ورآها ماكوري وعرف أنها هي، قالت له عندما أراها صورتها: «لم أشاهد هذه الصورة سابقاً، لكنها بالتأكيد هي صورتي». ثم تذكرت المناسبة التي التقطت فيها الصورة...عرف ماكوري شربات لأنه يعرف قوة نظراتها، فلها النظرة التي رآها قبل 17 عاماً. وتقول مجلة «ناشونال جيوغرافيك» إنها عثرت على الفتاة بعد بحث مضن وبتطبيق تكنولوجيا المسح الإلكتروني على بؤبؤ عين الفتاة في الصورة القديمة والجديدة للتأكد من أنها الشخص نفسه.كانت شربات جولا في الثالثة عشرة من عمرها عندما التقط المصور ستيڤ ماكوري صورتها عام 1984، وعندما التقطت لها الصورة الثانية بعد سنوات كانت قد أصبحت زوجة وأماً.في هذا اللقاء عرف ماكوري للمرة الأولى اسم «الفتاة الأفغانية» التي لم تكن تدري طوال اللقاء لماذا تم إحضارها، أو عمَّا أحدثته صورتها من تأثير عند نشرها على غلاف المجلة، أو عن جائزة «غولد كادا» التي حصدها ستيف، بفضل نظرة عينيها ووجهها الطفولي، في بقعة لا تعرف سوى الحرب.كانت تعبيرات شربات تتسم بالحدة ولم تبتسم طوال اللقاء، ذلك أن السنوات لم تترك لها سوى المعاناة والعينين الخضراوين. وعندما سئلت كيف استطاعت مواصلة الحياة على رغم مما لاقته من أهوال ومصاعب؟ أجابت: «إنها مشيئة الله».لم يكن في خلد ماكوري أن صورته ستحظى بهذه الشهرة، ولم يكن يعلم يوماً أنه سيعود للبحث عن صاحبة الصورة، وأنه سيجدها. بدا في عمله وبحثه عن الصورة كأنه يعيش الحب الأول ويبحث عن الحبيبة الأولى. زهرة قرمزيّةمثال آخر على المرأة الأفغانية، الشاعرة نادية أنجومان (25 عاماً) التي اكتسبت شهرة واسعة في الأوساط الأدبية في أفغانستان بعد الإطاحة بنظام حكم حركة طالبان المتشددة نهاية عام 2001.أنجومان ضربها زوجها حتى الموت لأنها قالت كلاماً جميلاً في الحياة. فوقعت ضحية العنف المنزلي ضد النساء الذي لا يزال سائداً في البلاد على غرار المعاملة السيئة وجرائم الشرف، وعكست مأساتها أوضاع النساء الأفغانيات عموماً والتي لم تشهد إلا تحسناً محدوداً، علماً أنهن كن قد حرمن من متابعة الدروس أو الخروج من منازلهن بمفردهن خلال فترة حكم طالبان التي امتدت من عام 1996 إلى عام 2001. استوحى الروائي الأفغاني عتيق رحيمي رواية «صخرة الصبر» من قصة واقعية صورها في فيلم وثائقي له عن ناديا أنجومان وقد ذهب رحيمي فعلاً لمقابلة القاتل في السجن لإنجاز الوثائقي غير أنه علم بأنه في غيبوبة بعدما حاول الانتحار وتم إنقاذه... فتخيل الكاتب لو أن الشاعرة المصروعة هنا لتقف أمام زوجها وتقول كل ما في داخلها. من هنا ولدت لديه فكرة رواية «صخرة الصبر».تخرجت الشاعرة أنجومان في كلية الآداب في جامعة هيرات ونشرت ديوانها الأول عام 2005 بعنوان «غولي دويدي» أو «الزهرة القرمزية» ونال رواجاً واسعاً. لكن لم يكتب لها العيش لنشر ديوانها الثاني. وتركت أنجومان خلفها وليداً ذا ستة أشهر.قالت في قصيدة «القرمزية الداكنة»:لا دافع لديَّ لأفتح فمي بالغناءسواء أغنيتُ أم لم أغنِّفإني مدانة بالكراهية ما أقول عن حلاوة الأشياء وفمي مليء بالمرارة؟!وكيف أصف المفجّرَ الوحشيَّ في فمي؟!إنني محبوسة في هذا الركن من القفص، ملأى بمشاعر السوداوية والحزندائمة الفكر في أني ما ولدت لهدف وعليَّ إبقاء شفتيَّ مغلقتينأعلم أنه الربيع ووقت البهجةلكنَّ أجنحي مقفلة مهيضة ولا أستطيع الطيرانأحلم بيوم أفتح فيه قفصي وأنطلقعندما أضع رأسي خارجاً لأغني «الغزال» بفرحلست ضعيفة كصفصافة يهزها النسيم أنا امرأة أفغانية تنوح ...كتبت أنجومان في قصيدة أخرى:ضوء النجوم في القفصكيف قلبك إذن!لا شك في أنه يرفرف بوحشيةدائماً يغني ضد الظلامالظلام الذي يعرفه ليشعر أخيراً بلدغة الخدربالموت... تمر بهدوء هذه الرؤية المختصرة للحياةللشخص الذي لا يرى أبداًللضوء الخالص.يمسك قلبك أنينك المسممبمخلب يزدرد كل خوفكحتى الآن لم يكن مثلك من باع قراره ولم يقو على الغناءلا تكن هادئاًاحتضن قبركقفص المرمر الأبيضالمساحة الشاحبة الرثة البائسةلن أسجن هناكطائر حكيم تحلق كلماتي عالياًبحرية تحلق... تطير وتعيش مرة أخرى.
توابل - ثقافات
أنف عائشة الأفغانيّة... علامة العقل الفاشي
17-02-2011