يتوقع عدد كبير من المنظرين والمراقبين ممن يظنون امتلاكهم حكمة التعرف على طبيعة السياسة الأميركية السائدة أن يمنى الديمقراطيون المؤيدون لباراك أوباما بهزيمة في انتخابات منتصف الولاية الثلاثاء المقبل، ومن قبيل المفارقة، أن تكون رعاية الإدارة الأميركية لعملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين هي أحد العناصر القليلة التي لم تتعرض لانتقادات في سجّل أداء أوباما، هي أيضاً أحد المجالات التي تحتاج إلى التغيير في 3 نوفمبر.

يندر الإجماع عادةً في مثل هذه القضايا، لكن ثمة درجة كبيرة من التوافق بين الأحزاب نفسها وذوي الخبرة في واشنطن بأن الأمور اتخذت منحىً سيئاً، فالرئيس الذي نُصّب وسط آمال كبيرة، عموماً وللشرق الأوسط خصوصاً، تعثر حظه في الأشهر الـ(21) من ولايته. حظي أوباما بفضل كبير لجعله السلام بين إسرائيل والفلسطينيين أولويةً في أول يوم له في الرئاسة، معلناً إياه مصلحة أميركية تخدم الأمن القومي، ولتعيينه رجل الدولة الكبير في السن الذي اشتهر بمساعيه في أيرلندا الشمالية، جورج ميتشل، كمبعوث خاص له. منذ ذلك الحين، خاض في خلافات مدوية مع الإسرائيليين، وأدلى بخطاب معسول في القاهرة، إنما لم يحرز الكثير من التقدم الملموس. تمثلت ثمرة جهود أوباما في جولة افتتاحية لمحادثات مباشرة بين الجانبين، متوقفة حالياً. إن سألنا إذن أولئك المعنيين ما سبب تحوّل الأمل إلى خيبة أمل، سيقدّمون الإجابة عينها: طلب الإدارة الأميركية المبكر من إسرائيل وقف كامل عمليات البناء الاستيطانية في الضفة الغربية المحتلة قبل مباشرة أي محادثات. لا شك أن الفلسطينيين وكثيرين غيرهم لن يرغبوا في أكثر من مثل هذه النتيجة، لكن اعتراضهم لم يكن على جوهر المطلب إنما على سياسته.

Ad

في هذا الإطار، سيخبر الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، بحد ذاته زوّاره في مقره في رام الله بأن هذا الإنذار خطأ فادح، فقد جرت مفاوضات في السابق قبل أي تجميد لعمليات البناء، لكن حين فُرض الشرط المسبق، اضطُر عباس إلى الإصرار عليه أيضاً. على حد قول هذا الأخير: «وضعني ذلك في أعلى شجرة ولم أجد سلّماً يوصلني إلى الأسفل».

في المقابل، يقول آخرون إن المطلب منطقي لكن المشكلة أن الولايات المتحدة لم تلتزم به، فعوضاً عن التشبث به، وجدت نفسها في مماحكة، مساومةً في النهاية على تجميد جزئي وموقت. بتعبير أبسط، ضعفت الولايات المتحدة، الأمر الذي أفقد الإدارة ماء وجهها إلى غير رجعة.

بلغت تلك المرحلة الأولى المتمثلة في مواجهة معدلة مع إسرائيل، أوجها في مارس، حين اسُتقبل نائب الرئيس جو بايدن خلال زيارته البلاد بإعلان بناء المزيد من المساكن في القدس الشرقية، لكن لا هو ولا أوباما احتفظ بغضبه لنفسه.  

على حد قول دانييل ليفاي، من «المؤسسة الأميركية الجديدة»، مجموعة بحث في واشنطن، تكمن مشكلة المقاربة الأولى في أن أوباما لم «يستطع بناء جسور ثقة مع الشعب الإسرائيلي». فلو أراد أوباما أن يمارس نفوذه على القيادة الإسرائيلية، كما فعل بيل كلينتون، لكان عليه أولاً طمأنة الإسرائيليين بأنه ليس «باراك حسين أوباما» الآتي من الميثولوجيا العدائية. لكنه لم يقدم على مثل هذه الخطوة، ولم يعط حتى مقابلة منفردة مخططة بعناية للإعلام الإسرائيلي. في المقابل، مُلئ الفراغ بما يعتقد ليفاي أنه «حملة مدبرة لإضعاف صورة أوباما في عيون الشعب الإسرائيلي»، حملة دعمها بنيامين نتنياهو العازم على عدم تكرار التجربة التي مر بها في تسعينيات القرن الماضي، حين تمكن رئيس أميركي أكثر شعبيةً بين الإسرائيليين منه من دفعه إلى طاولة المفاوضات. في جميع الأحوال، بعد حادثة بايدن، غير البيت الأبيض مساره، مستخلصاً أن المواجهة لا تثمر الكثير. فتلا ذلك إفراط اعتيادي في تصحيح الأمور في واشنطن. وبينما تراجعت شهرة ميتشل، حظي الوسيط الأميركي المخضرم، دينيس روس، بالنفوذ، وتتمثل مقاربته، على حد قول أحد منتقديها، في «فرض أقصى ما يستطيع الإسرائيليون القيام به». الإيجابي في مثل هذه الاستراتيجية أنها واقعية، وتتفهم أنه «في النهاية، إن أردنا إحراز تقدم، فإن علينا العمل مع الحكومة الإسرائيلية، وليس ضدها»، بحسب تعبير أحد مؤيديها. أما الجانب السلبي فهي أنها تعجز عن حث الإسرائيليين على المضي قدماً.

يعيدنا ذلك إلى جولة المحادثات التي انطلقت في سبتمبر وتوقفت منذ سمحت إسرائيل بانتهاء مدة التجميد الجزئي لعمليات بناء المستوطنات. ههنا يتحدث المعنيون بمرارة. يقول أحد المستشارين الفلسطينيين: «الأميركيون يائسون، ولا يملكون أدنى فكرة عما يقومون به أو بأي هدف».

تنطلق الانتقادات من القاعدة التي تجري المحادثات على أساسها، فلا توجد شروط مرجعية، ولا كتاب إلى الطرفين كما كانت الحال قبل مؤتمر مدريد في عام 1991، ولا معايير محددة من قبل الأميركيين كما حدث قبل «مؤتمر كامب ديفيد» في عام 2000، بل يُفترض بالجانبين المضي قدماً فحسب.

فضلاً عن ذلك، يضيف أحد المطلعين الفلسطينيين أن واشنطن تهدر «أفضل أوراقها». حرصاً منها على إبقاء نتنياهو على طاولة المفاوضات، عرضت الولايات المتحدة أمامه مجموعة من «المحفزات» التي تتراوح من حقه في شراء طائرات مقاتلة من نوع F35، والتي لا يملكها أي أحد آخر في العالم، إلى التساهل مع وجود عسكري إسرائيلي متواصل على طول وادي الأردن، ربما لما بعد 30 عاماً عاماً من عقد أي اتفاق سلام، مطوقاً بذلك أي دولة فلسطينية في المستقبل عند حدودها الشرقية والغربية.

من جهتهم، يشير آخرون إلى المساعي التي تواصلها واشنطن وراء الكواليس، «مشغلّةً خطوط الهاتف» مع العواصم الأجنبية لحماية إسرائيل من الانتقادات الدولية الحادة أو العزل، بما في ذلك تمهيد الطريق لعضويتها في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (أويسيد) وقت سابق من هذا العام. لكن أحد المراقبين يتساءل، «لم كل ذلك؟»، مشككاً في أن الولايات المتحدة تقدم كل هذه الملذات لقاء مجرد تمديد موقت لقرار تجميد البناء الجزئي في إسرائيل، ربما لستين يوماً. وفي سياق أكثر إثارةً للقلق، يقول أحد المطلعين المعنيين إن واشنطن تعد بما يستحيل الإيفاء به، مشيرةً إلى تنازلات للفلسطينيين لم توافق عليها إسرائيل بعد، كالوعد بإقامة دولة على نطاق واسع على حدود عام 1967. بالفعل ينطوي ذلك على نفحة يأس ويدل على أن الإدارة تغير سياستها جذرياً لتفادي إخفاق شعبي آخر.

في المقابل، ثمة أسباب تدعو إلى اتخاذ موقف دفاعي، إذ يستحق أوباما الفضل لتمسكّه بمسألة فضّل سلفه تجاهلها ومن شأنها دوماً تقليص الهيبة الرئاسية بدل تعزيزها. وتشير المقاربة المتبعة إلى أن إسرائيل تحركت قليلاً سواءً بفضل العصا الأولية أو الجزرات اللاحقة: يقول البعض إن تجميد المستوطنات أجبر إسرائيل على الإقرار بأنها مشكلة لا يمكن أن تستمر إلى الأبد. كذلك تشير إلى الحقيقة البديهية بأن مسؤولية عدم تحقيق نجاح لا تُعزى إلى الولايات المتحدة وحدها، فالطرفان بحد ذاتهما ضعيفان، إذ يحكم عباس نصفاً واحداً فقط من شعب منقسم، بينما تُعاق حركة نتنياهو- إن كان صادقا بعقد اتفاق سلام كما يصر في مناسبات عدة- بسبب شركاء من اليمين المتشدد في تحالفه.

مع ذلك، يجب أن تتضمن الحسابات ما بعد انتخابات منتصف الولاية إعداد تحليل صادق للأمر الحاصل في إحدى أبرز أولويات الرئيس في السياسة الخارجية، وتجهيز خطة للإجراءات التي يجب اتخاذها في المرحلة اللاحقة، بما فيها تنظيم خطة يضعها أوباما للمنطقة وإقناع الطرفين بالتفاوض بشأنها. قد يعني ذلك إيجاد ممر جديد بين الضغوط غير الحكيمة التي مورست على إسرائيل في عام 2009 والسخاء الذي أُظهر تجاهها في الأشهر الأخيرة من دون أن يُقابَل.   

بغض النظر عن المسار الذي سيختاره أوباما، وسيحظى حتماً بالإعجاب لعدم تخليه عن هذه الفوضى برمتها، عليه تغيير المسار. حان الوقت للضغط على زر إعادة ضبط العلاقات، على حد تعبير وزيرة خارجيته.