في الوسط الثقافي والفني معمعة جديدة اسمها «أصل عبد الحليم حافظ»، ففجأة استفاقت إحدى المجلات المصرية ونسبت بعد تحقيق «شعبوي» أصل الراحل عبد الحليم الى السعودية.بالطبع، همّ كل صحافي البحث عن الإثارة لجذب القراء، وأن تفتح المجلة المصرية باب النقاش في أصل العندليب الأسمر، فهي بذلك تضرب على الوتر الحساس أو ترقص في المنطقة الحمراء (الممنوعة) إذا جاز التعبير. فقد يجد البعض في ذلك مفاجأة يرفضها ملايين من عشاق «العندليب» في مصر، خصوصاً عندما تقفز إلى أذهانهم عشرات الأغاني الوطنية الصادقة التي ارتبطت باسمه وأرّخت لعهد كامل شهد تغيرات سياسية واجتماعية وأحداثاً عسكرية خطيرة. بل إن عبد الحليم كان يعتبر عبد الناصر أباه الروحي، بل إن شخصية عبد الحليم تعكس الروح المصرية والمراهقة المصرية. أن يكون عبد الحليم من أصل مصري أو تركي أو لبناني، فهذه ليست بالمسألة المهمة. فالبحث عن حقيقة الأصل هو «وهم بوهم» بتعبير المتصوّف إبن عربي، خصوصاً حين يستند ألى أصل عائلة العندليب الراحل. ناهيك عن أن متابع كواليس النجوم المصريين وسيرهم يفهم تركيبة المجتمع الفني المصري، التي تشبه تركيبة المجتمع الأميركي. دوّن الكاتب اللبناني فارس يواكيم كتاباً بعنوان «ظلال الأرز على ضفاف النيل»، ويبيّن فيه أن عشرات من الفنانين والمبدعين اللبنانيين هاجروا إلى مصر، ومنهم من «تمصَّر» (يستعد يواكيم لإصدار كتاب عن السوريين الذين هاجروا الى مصر، منهم سعاد حسني). وقبل يواكيم دوَّن المؤرخ اللبناني مسعود ضاهر كتاباً عن هجرة العائلات اللبنانية الى مصر.ثمة عشرات من النجوم المصريين الذين أتوا من المغرب وسورية وتركيا والجزائر وحتى السعودية، ويذكر أكثر من مرجع أن الفنانة الحسناء شيريهان والراقصة تحية كاريوكا من أب سعودي وأم مصرية... على هذا يمكن وصف الفن المصري بأنه يختصر الفنانين العرب، ويجمع شخصيات فنية من جنسيات مختلفة تحت سقف واحد، وكأن الثقافة المصرية تفرض شروطها على من يتعاون مع أقطابها.لا جديد ولا غريب في أن يُقال إن أصل عبد الحليم حافظ سعودي، ففي ذلك عودة الى وهم الأسلاف، فيما العالم كلّه قائم على الهجرات. قد تكون عائلة شبّانة (عائلة عبد الحليم) قد هاجرت من اليمن إلى السعودية قبل أن تهاجر من الأخيرة إلى مصر، وربما إلى فرنسا وأميركا والأردن ولبنان.دوّن الروائي اللبناني أمين معلوف كتابه «بدايات»، ويظهر فيه كيف تشعبت عشيرة المعلوف تبعاً للمصالح، في الطوائف والانتماءات والبلدان والصوفية والماسونية والعلمانية. يقول معلوف: «أنتمي إلى عشيرة ترتحل منذ الأزل في صحراء بحجم الكون. مواطننا نفارقها متى جف الينبوع، وبيوتنا خيام من حجارة، وجنسياتنا مسألة تواريخ أو سفن. كل ما يصل بيننا، وراء الأجيال، ووراء البحار، ووراء بابل اللغات، رنين اسم...». معظم أبناء العالم العربي يشبه شخصيات رواية معلوف. على أن الحديث عن عبد الحليم يختلف قليلاً باعتباره نجماً. فغالبية الأمم سواء كانت دولاً أو جماعات أو عشائر، تحاول قدر المستطاع نسب بعض الرموز أو النجوم إليها كتعبير عن تفوّقها أو تمايزها، وهذا هو الجوهر «السخيف» للبحث عن أصل العندليب، فلا يهم أن يكون صاحب الصوت العذب مصرياً أو لبنانياً أو سعودياً، لأن الفن يتخطى الهويات غالباً. سبق أن تحدثنا عن «شغف» بعض الجماعات في الشرق الأوسط عن أصل السيدة فيروز، فبدا من أبحاثها كأن لها مئة أصل وأصل، إذ تختلف وتتضارب الأراء حول المكان الذي وصل منه وديع حداد والد فيروز، هو أحد السريان الذين هاجروا من مدينة ماردين إلى لبنان. كذلك، تقول معلومات أخرى إنه جاء في عام 1924 من الناصرة في فلسطين إلى بيروت، فيما تعيده إحدى الروايات إلى مدينة حلب السورية، أو إلى المنطقة الحدودية بين سورية وتركيا، قبل أن تعرج به رواية ثالثة إلى بلاد حوران السورية. وهنا تتدخّل رواية رابعة مؤكدة أنه أرمني هرب من المجازر التي أنزلها الأتراك بالأرمن خلال الحرب العالمية الأولى... واللبنانيون أكثر من المصريين يفتشون عن جذور المشاهير في العالم، بدءاً بحديثهم عن شاكيرا وسلمى حايك، وصولاً الى رجوعهم إلى الحضارة الفينيقية.الحديث عن الأصول فيه ضرب من الأساطير. يوضح الناقد رولان بارت أن عالمنا الراهن يصنع أساطيره أيضاً، ويبدو أن الإنسان بحاجة دوماً إلى أساطير تعينه في العيش، وتعد الأسطورة نمطاً دلالياً وشكلاً فنياً أو كما عبر: «إنها نسق من التواصل، إنها رسالة». وفي هذا الإطار، نتأمل كيف تُحاك الأساطير حول عبد الحليم حافظ (وغيره)، الذي حدثت بلبلة كبيرة سابقاً حول ضريحه، فنقلت «خبريات» فاقت التوقعات عن جثمانه، كأننا نقرأ في رواية خيالية أو رواية خيال علمي عن جثمان غير قابل للتحلّل، ويوم رحيله قيل الكثير عن تصرفات معجبيه وبعضهم انتحر، ويُقال الكثير حول نشوئه وعائلته الفقيرة ورميه بالطماطم في بداية مشواره الفني، وعلاقته بالناصرية والرئيس عبد الناصر.البدايةالتحقيق في أصل العندليب الأسمر الذي نشرته مجلة «روز اليوسف» المصرية (مؤسسة هذه المجلة فاطمة اليوسف من أصل لبناني) بدأ في حوار طويل مع الشاعر السعودي سعود شربتلي، نشرته مجلة خليجية أخيراً، حكى فيه ذكرياته مع نجوم الغناء والموسيقى في العالم العربي، ومن بينهم عبد الحليم الذي التقاه للمرة الأولى في صيف عام 1964. بعد عامين، تكرر اللقاء بين شربتلي وعبد الحليم في لندن. آنذاك اعترف الأخير بأنه «يعشق الغناء السعودي والإيقاعات السعودية، ويميل ذوقه إلى طلال مداح أكثر من محمد عبده، لأن مداح يغني من قلبه وبإحساس أكبر». عائلة العندليب تُقر بأن أصلها سعودي والمتحدث الرسمي باسمها محمد شبانة أقر بهذا مبتسماً، وقال: «فعلاً... ده صحيح... عائلة شبانة أصلها سعودي. وإن شئت الدقة من منطقة نجد والحجاز قبل تأسيس المملكة السعودية».
توابل - ثقافات
عبد الحليم حافظ وأسطورة الأصل
12-11-2010