الشاعر والفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844-1900) منظّر فلسفة «إرادة القوة» التي تبنتها النازية- الهتلرية في ما بعد، فقد أمضى طفولة صعبة جداً إذ فقد أباه وهو في الرابعة من عمره ثم أخاه بعد أقل من عام. وكانت أمه ضعيفة الشخصية، الأمر الذي جعلها تستسلم لسلطة أخته.

وكان نيتشه محاطاً بحنان من أفراد عائلته، ومعهم جدته، لكن هذا الوضع لم ينقذه من «جنون العظمة» الذي هو نتيجة عدم القدرة على التكيّف كما قال المفكر فريديرك إنغلز.

Ad

من يطالع «ديوان نيتشه» المترجم الى العربية عن «دار الجمل»، يُلاحظ كثرة العبارات التي تتطرق إلى الجنون، إذ كان نيتشه يتصرَّف كأن الجنون صفة شعرية، بل إن صفة الجنون تلازم شعره أو أن الشعر والجنون متلازمان. فهو ينهي الديوان بعبارة: «يركض... كالمجنون لا يعلم أين». وثمة عشرات القصائد والشذرات الشعرية - الفلسفية في هذا الكتاب من بينها: «مجرَّد شاعر مجرَّد مجنون»، «مجنون في قنوط»، وهو يصرخ: «مجّدوا فيَّ أمة المجانين». وهذه العبارة تكفي لتوصيف رجل عظيم مثل نيتشه «ألهم» كثيراً من الفلاسفة والشعراء والمراهقين و{النازيين» وكانت صفته الدائمة أنه مصاب بجنون العظمة.

نيتشة أحد أكثر الفلاسفة الذين تحدثوا عن الجنون، فقد ورد في الجزء الأول من كتابه الموصوف بأنه شعري «هكذا تحدث زرادشت» قوله: «دائماً يوجد بعض الجنون في الحب، لكن دائماً يوجد بعض المنطق في الجنون أيضاً». وسيرة نيتشه الفلسفية لا تنفصل عن سيرته الحياتية، إنهما متلازمتان أو متآخيتان، وقد ولدت الفلسفة لديه من رحم الجنون والألم. لنقل إنه حوّل الألم إلى معرفة ثاقبة، وقدَّم نصه للمراهقين والكبار في آن، وهنا تكمن خطورته.

ولد نيتشه عام 1844 في مقاطعة ساكسونيا في ألمانيا. كان ابناً لقس لوثري المذهب، اسمه لودفيك توفي عام 1849 وعمره 36 عاماً بعد إصابته بالجنون. أما الابن، الذي طالما عانى من اعتلال صحته، فقد ظنّ أنه مقدر له أيضاً أن يموت في سن السادسة والثلاثين. وكما تخبرنا دراسة والتر كاوفمان الكلاسيكية، فإنه منذ السادسة، وعلى أثر وفاة أخيه الأصغر عام 1850، نشأ نيتشه على يدي والدته في محيط بيتي أنثوي بالكامل. ومنذ عام 1858 التحق بالمدرسة الداخلية القديمة في فورتا وتفوّق في الدين والأدب الألماني والدراسات الكلاسيكية، لكنه كان ضعيفاً في الرياضيات والرسم. آنذاك بدأ الباحث الشاب يعاني من آلام الصداع النصفي (الشقيقة) التي لازمته معظم حياته.

بعد تخرجه في فورتا عام 1864 ذهب نيتشه إلى جامعة بون حيث درس اللاهوت وفقه اللغة التاريخي والمقارن. في عام 1965 ترك دراسة اللاهوت وذهب إلى لايبزغ حيث وقع تحت تأثير شوبنهاور وكتابه «العالم كإرادة وفكرة». وكان ريتشيل أستاذه النموذجي فتتلمذ على يديه، وتخصَّص في الفيلولوجيا الكلاسيكيَّة تحت تأثير أستاذه الذي قال عن تلميذه «إنه عبقري» فثبته دكتوراً قبل أن يناقش الأطروحة. ودرّس نيتشه في بازل من عام 1869 الى عام 1879 عندما اضطر إلى التقاعد بسبب اعتلال صحته.

فاغنر

تعرف نيتشه إلى شخصيات مهمة في عصره، من بينها الموسيقيَّان ريتشارد فاغنر وبيتر غاست والكاتب بول ريه وأوفر بك ولوندرياس سالومي (عشيقته المستحيلة)... وقد استقال من مهنة التعليم وقدمت له منحة على شكل معاش بسبب سوء حالته الصحية، ما سمح له بالسفر إلى كثير من البلدان الأوروبية سائحاً. انتهى به المطاف بانهيار عقلي أدى إلى جنونه في أواخر سنة 1888، فأشرفت أخته إلزابيت عليه وعلى كتبه ومخلفاته، الى حين وفاته.

حين رحل، كان نيتشه بالكاد أتمّ العام السادس والخمسين، لكن العمر أتاح له، أن يضع عدداً لا بأس به من المؤلفات الفلسفية والشعرية التي «قد لا تكون فلسفة خالصة ولا أدباً خالصاً، لكنها تنتمي الى ما هو وسط بين الاثنين» بحسب توصيف النقاد.

قلنا إن عدم القدرة على التكيّف يولّد «جنون العظمة»، وأول تحول حصل في حياة الفيلسوف كان منذ طفولته الأولى عندما قطع رأساً مع الإيمان الديني المسيحي. أما التحوُّل الثاني الذي لم يكن واضح المعالم، بما فيه الكفاية إذا قورن بالأول، فكان في جفوته مع المؤلف الموسيقي ريشارد فاغنر ثم خيبته من «حب مستحيل» مع لو- اندرياس سالومي.

كان نيتشه يعتقد بأنّ اللذة والألم هما الثابت الوحيد، وهما مفهومان استعارهما سيغموند فرويد لاحقاً. تعرّف مؤسس علم التحليل النفسي إلى نيتشه من خلال لو ـ أندرياس سالومي التي كانت تلميذته. وكانت سالومي، الروسية، قد التقت بنيتشه من خلال صديقها الكاتب بول ريه. وتبين من رسائل نيتشه إلى صديقه فرانز أوفربيك أنّ سالومي كانت ربما حبه الوحيد والأبدي، وآلمه جداً أن تفضل الكاتب ريه عليه، خصوصاً بعدما أسهمت شقيقته إليزابيت في إبعاد أحدهما عن الآخر، كما يقول في إحدى تلك الرسائل...

سالومي، المرأة الروسية اليهودية التي ولدت عام 1861 وتوفيت عام 1937، كانت تخفي وراء نقاب جمالها ثقافة مبهرة، أو عبقرية «سحرت» العباقرة (أحبّها فرويد والشاعر الألماني ريلكه). من يصدّق أن نيتشه، الذي أوصى بعدم الذهاب إلى المرأة من دون سوط، والذي كتب وقال كل ما من شأنه الحطّ من قيمتها وإنسانيتها، انتهى في مستشفى للأمراض العقلية بسبب غيرته على أمرأة أحبها، ورفضت الزواج منه؟ سالومي هي التي أفقدته عقله أو جزءاً منه، وثمة من قال إنها أوصلته إلى عيادة مدينة إيّنا (قسم الطب النفسي)، كذلك صرّحت بذلك أمه، ورعته حتى وفاتها عام 1897، وثمة من اعتبر أن نيتشه لم يكن محظوظاً مع النساء.

النافل أنه عندما تعرفت سالومي الى فيلسوف الألمان كان عمرها لا يزيد على 21 عاماً، وكان نيتشه بلغ الثامنة والثلاثين وأنجز قسماً كبيراً من أعماله، وتهيأ إلى الانعطاف الكبير الذي سيقوده الى «هكذا تكلم زرادشت». وبعد أن أحبها كتب لها قصائد عدة، من بينها:

«اجعلي شعلتك، يا روحي، تتقد

دعيني في لهيب الصراع أجد إجابة لجوهرك اللغزي

دعيني أفكر وأحيا ألفاً من السنوات

وأرمي فيها كل ما لديك... كلّه.

وإن لم يكن لديك من سعادة باقية تقدمينها إليَّ

فلن يكون في وسعك أن تزيدي من آلامي».

بعد هذه الخيبات التي تركت في أعماقه جروحاً عميقة لم تندمل، صبَّ نيتشه جام غضبه على النساء في كثير من مؤلفاته. قال: «النساء يتآمرن دائماً على نفوس أزواجهن الأكثر رفعة، يردن سلب مستقبلهم منهم لحاضر مريح بعيد عن الألم». وفي «هكذا تكلم زرادشت» ذكر: «يجب أن يهيأ الرجال للحرب، وأن تهيأ النساء للترفيه عن المحارب».

كتبت المجلة الأدبية الفرنسة بأن آلام نيتشه كانت واقعية. ذلك أنه كان يعاني صداعات نصفية رهيبة سبق لأبيه أن عانى منها بدوره. ثبت كذلك أنه كان يعالج أمراضه الجسدية بالفلسفة وآلامه بالمعرفة وهو بذلك اعتاد على تحويل معاناته إلى معرفة. ومن بين هذه الأمراض التي كان يتعافى منها مرض اسمه «ريتشارد فاغنر». قال عنه: «لم يكن فاغنر إلا واحدا من أمراضي» ثم أتى داء سالومي وغيرها. كان نيتشه يتعامل مع كل اختبار كما لو كان معركة وكل هدنة كما لو كانت سحقاً لخصمه، وتكمن أهميته في تأثيره على كثر من كتّاب القرن العشرين وفلاسفته، بقدر ما كانت في كتبه التي تناول فيها عدداً كبيراً من المواضيع الفكرية والفنية والفلسفية والفيلولوجية. فبين عامي 1872 و1888 نشر تسعة كتب وأعدّ أربعة أخرى للطبع.

استند «إرادة القوة» الى ملاحظات كان نيتشه كتبها في الثمانينات من ذلك القرن، ونشر للمرة الأولى بعد وفاته عام 1901، وهو يقدم أقوى تأكيد على موقف نيتشه المناهض للمثالية بصورة جذرية. موقف جذب انتباه المفكرين في فترة ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية على حد سواء.

انتقد نيتشه العقل باسم الجنون، أو الشعر: أي باسم ديونيسوس. ومعلوم أن الأخير زعيم الخمر والنشوة والسكر... واستخدمه نيتشه لنقد العقلانية السقراطية في الفلسفة الإغريقية وإحلاله بديلاً عنها. هذا ما جعله ربما الفيلسوف الأكثر تميزاً في القرن التاسع عشر، إضافةً إلى ما قدّمه من أطروحات جعلته أبا الوجوديين، وكان لها أثر واضح على الفلاسفة جان بول سارتر، ميشال فوكو، جورج باتاي، والروائيين توماس مان، وجوزيف كونراد، وأندريه جيد، والكاتب موريس بلانشو... واللبناني جبران خليل جبران.

أعاد نيتشه النظر في مفاهيم الأخلاق والتقدّم والعلم واللغة، وأخضعها إلى نقد بلا هوادة. مفاتيح مشروعه الفكري صارت محاور ومفاتيح معرفيّة أساسيّة، من «إرادة القوة» إلى «العود الأبدي»، مروراً بـ{الرجل السوبرماني» (أو الأسمى). أما مشروعه في الانقلاب على الفكر الأفلاطوني وتجاوز الميتافيزيقيا، فصار مفتاح مشاريع فلسفيّة شتّى من مارتن هايدغر إلى ميشال فوكو، مروراً بجاك دريدا وجيل دولوز.

أفلاطون

اعتاد نيتشه على مهاجمة من يدين لهم بفلسفته، فقد هاجم أفلاطون الذي استمد كثيراً من أفكاره. وهو تأسَّف لأن الأخير طرد الشعراء من جمهوريته ولأن الأسطورة انفصلت عن العقل بدءاً من سقراط. فقبل ذلك كان العالم اليوناني يعيش حالة انسجام رائعة بين الشعر والفلسفة أو بين الأسطورة والعقل. وفي كتابه «ولادة التراجيديا» المنشور عام 1872 عندما كان في الثامنة والعشرين، عاد نيتشه إلى مرحلة الفلاسفة ما قبل السقراطيين كهيراقليطس وسواه، وقدّم مبدأين بقيا حاضرين في كتاباته حتى النهاية وهما: المبدأ الديونيسي وهو مبدأ الفوضى والأحلام والسكر والجسد المتوتر، والمبدأ الأبولّوني وهو مبدأ النظام وإعطاء الشكل. ويرتبط كلاهما بنزعة جمالية تتعلق بالحياة باعتبارها عملاً فنياً. هكذا، ففي مقدمته الأولى للكتاب المذكور آنفاً قال: «يمثل الفن أعلى مهمة في هذه الحياة والنشاط الميتافيزيقي الحقيقي فيها». لهذا السبب أيضاً صبَّ جام غضبه على سقراط وتلميذه أفلاطون بشكل مسعور أحياناَ ومن دون سبب.

في الواقع، سمح نيتشه لنفسه بأن يشك في كل شيء، وأن يدفع ثمن هذه الشكوك حتى انهار عقله أخيراً وجنّ. فقد شك في جميع العقائد التي توالت على البشرية منذ أقدم العصور وحتى وقته. وكشف عن طابعها النسبي أو التاريخي، فيما أنها كانت تقدم نفسها كحقائق مطلقة، مقدسة، متعالية. وكان يتفلسف «والمطرقة في يده»، كما ذكر، لتحطيم الأوهام والأصنام المعبودة من البشر أو التي نصبها هؤلاء كأصنام ثم راحوا يعبدونها وكأنها تتعالى عليهم.

أعلن نيتشه حرباً شعواء في أواخر أيام إنتاجه على الجميع من فاغنر إلى السيد المسيح وغيرهما، وبعد انهيار عقله بدت العصبية واضحة لديه حتى في ضحكته.

بالغ نيتشه كثيراً في إطراء نفسه عندما قال: «سيقسم المستقبل الماضي الى ما قبل نيتشه وما بعده، لكنه أفلح في تقديم قيمة لم تكن معروفة علمياً في الأخلاق، وهي الارستقراطية. وهو مقسم الأخلاق الإنسانية إلى أخلاق سادة وأخلاق عبيد، ونادى بملء الحياة الأرضية وجعلها مثمرة لأنه ليس أمامنا سواها، هكذا ينظر هو وهكذا أراد أن يقول معلناً أنه الفيلسوف الوحيد الذي عليه أن يحدد مسار تاريخ الكائنات الأرضية البشري.

وفي عمله الأكثر شاعرية وشهرة «هكذا تكلم زرادشت» نجد أن نيتشه يجعل زرادشت مثال «الإنسان الأسمى»، إذ ينزل من الجبل ليتحدث إلى الناس في السوق، ولأن هؤلاء لا يفهمون إلا لغة المنفعة (لغة قيمة التداول وما يمكن حسابه مادياً)، يخفقون في فهم زرادشت ويعتبرونه رجلاً مجنوناً. وبما أن أخلاق المساومة تسيطر عليهم وما يصاحبها من تعلق بالمنفعة، فإن جميعهم يريد الشيء نفسه: «لا راعٍ وقطيع واحد. كل واحد يريد الشيء نفسه. الكل متماثل: وكل من يفكر خلاف ذلك يذهب طواعية إلى دار المجانين».

نهاية

في تورين عام 1889، تعرّض نيتشه لضربة قاضية. كانت ضربة الجنون وراح يتعثر في عماه في غرفته وأخذ يكتب رسائل بدا فيها الجنون واضحاً، فأُرسل الى مستشفى الأمراض العقلية، لكن سرعان ما جاءت أمه العجوز لتأخذه معها ليعيش تحت عنايتها. وبقي معها الى أن توفيت فاعتنت به أخته. وفي أحد الأيام سمعها تبكي وهي تنظر إليه ولم يستطع أن يفهم سبب دموعها فسألها: «لماذا تبكين يا إليزابيث، هل أنت حزينة؟». وعندما سمعها مرةً تتحدث عن الكتب أضاء وجهه الشاحب وقال في تألق وبهجة: «آه، فقد كتبت أنا أيضاً كتباً حسنة».

أوضح الكاتب سمير عبده في كتابه «هكذا تكلَّم نيتشه»: «تنتهي كتابات نيتشه بولوجه في ظلمة الجنون، وعلى ذلك لا يمكننا تسمية مرضه بالجنون إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذا الجنون ما هو الا تعبير عن النمط النفسي الخاص المعروف بين العظماء والعلماء والمفكرين. كذلك لا يمكننا أن نستبعد أن يكون للانفعالات التى تردى بها قد أدت أحياناً الى المرض أو الصحة، وفي هذه الحالة يكون المرض نتيجة لفكره الواعي. أذاً، يمكن تفسير حياة نيتشه بالجنون وذلك حين وصل بتفكيره الى المنطقة التي لا يكاد المرء يتصور بعدها مزيداً بالنسبة اليه. وعلى هذا يبدو الجنون نتيجة منطقية لتطور لا بد منه. حتى تنتهي حياته أخيراً في عام 1900 بعدما يقرب من 12 سنة من ضياع عقله»...

كَتَب

«بما أني نويت أن أوجه للبشرية خلال فترة قصيرة أكبر تحدٍ شهدته في تاريخها كله، فإنه ينبغي عليَّ أن أقدم نفسي، أن أقول من أنا. من أنا في نهاية المطاف؟ في الواقع إنه كان ينبغي على الناس أن يعرفوا من أنا لأني لست أحد أولئك الذين عاشوا أو ماتوا من دون أن يتركوا شهادة أو أثراً على مرورهم فوق هذه الأرض. لكن التفاوت الهائل بين عظمة مهمتي وصَغَار معاصريّ تجلى في الحقيقة التالية: وهي أن أحداً لم يسمع بي ولم يرني! أنا أعيش فقط على الرصيد الذي أوليه لنفسي، على إيماني بذاتي. وربما كان وجودي ذاته عبارة عن وهم؟ أنا شخص غير موجود إطلاقاً! يكفي أن أتحدث مع أي «مثقف» ألماني يجيء إلى سويسرا حيث أقيم كي أتأكد من أني غير موجود أبداً. لا أحد يسمع بي. لا أحد يعرف من هو فريديريك نيتشه... لذلك فإن من واجبي أن أقول لكم محذراً: اسمعوا أيها الناس: فأنا كذا وكذا، ولست كذا وكذا. إياكم ثم إياكم أن تغلطوا فيّ أو تخلطوا بيني وبين أي شخص آخر!».

«أن تبحث في الوجود عن كل ما يجعلك تغترب عن نفسك وتطرح أسئلة على ذاتك ويقينياتك الحميمة، يعني البحث عن كل ما حُذِف من قبل الأخلاق التقليدية. لقد اكتسبت تجربة طويلة من خلال اقتحامي المناطق الممنوعة المحرَّمة، من خلال توغُّلي في الأعماق والأقاصي، هناك حيث لا يذهب أحد ولا يغامر مخلوق قط... وعندئذ اكتشفت الأسباب التي دفعت بالناس، وعلى مدار العصور، إلى تقديس هذا أو ذاك، وإلى رفعه إلى مرتبة المثال الأخلاقي الأعلى. وعندئذ أيضاً تبدت لي حياة الفلاسفة المخبوءة على حقيقتها، وفهمت نفسياتهم وشخصياتهم. واكتشفت في ما بعد أن معيار القيم الحقيقي هو التالي: كم هو مقدار جرعة الحقيقة التي يستطيع فيلسوفٌ ما أن يتحملها، أن يخاطر بها أو لأجلها؟ هذا هو السؤال الأساسي، وكل ما عدا ذلك تفاصيل ثانوية».