"حين سقطت العقلانية في المجتمع الكويتي، وهيمنت قوى الظلام الديني، كان لابد من التحرك لتحريض المجتمع على استعادة الرشد والوعي"، د. أحمد البغدادي "تجديد الفكر الديني- دعوة لاستخدام العقل".

Ad

لم ينطلق الدكتور الراحل أحمد البغدادي في كثير من آرائه وأفكاره التنويرية، إلا بعد سيطرة تيارات الإسلام السياسي على مفاصل المجتمع الكويتي، وبعدها تحولت الكويت من منارة ثقافية من مجتمع تعددي بطبيعته يتعايش فيه المختلفون منذ بداية تأسيس الدولة الدستورية الحديثة، إلى دولة فتاوى وغياب القانون وتشريع القوانين المخالفة للدستور وحقوق الإنسان، بفضل التحالف الديني مع السلطة. ولذلك لم يكن الدكتور البغدادي والحداثيون في العالم العربي والإسلامي إلا فكراً لمحاولة رأب الصدع في الثقافة العربية من خلال دورهم في إنعاش العقول والتفكير العلمي، لإنقاذ ما تم إفساده من ثروة ثقافية بدءاً من دور المعتزلة والمدارس الفكرية وانتهاءً إلى ما قبل نكسة العرب 1967. الدور الذي لعبه كل من طه حسين وزكي نجيب محمود ومحمود محمد طه وفؤاد زكريا وفرج فودة ونصر حامد أبو زيد وأحمد البغدادي وجمال البنا ومحمد شحرور وأحمد صبحي منصور وغيرهم الكثير، هو دور فعال لإعادة دور العقل والنقد الى التراث الديني باعتباره تجربة إنسانية خاضعة للتحليل والنقد. إلا إن هؤلاء وغيرهم من التنويريين يشتركون في سمة واحدة، وهي أنهم عانوا سلطة الكهنوت الديني فأعدم محمود محمد طه بتهمة الردة في السودان، وقتل فرج فودة على يد أحد المتطرفين وبتأييد شيخ الأزهر و"الإخوان المسلمين"، واتهم بالردة نصر أبوزيد والتفريق بينه وبين زوجته بقانون الحسبة، وسُجن البغدادي ورفعت ضده قضايا عدة بسبب آرائه المناوئة لسلطة الكهنوت، وغيرها من القضايا على الكثير من المفكرين التي ستبقى عنواناً للدور الديني في مواجهة الآخر.

اجتهد البغدادي في كتابه "تجديد الفكر الديني- دعوة لاستخدام العقل" في إبراز دور النقد واعتماد المنهج العقلي في التفكير بعيداً عن نمطية التفكير السلفي، أو كما يقول البغدادي "إن السلف ليس أفضل من الخلف"... فالبغدادي امتداد فكري للمفكرين العقلانيين الذين حاولوا إعادة النظر في المنهج الديني المتبع والخالي من النقد والتحليل.

وباعتبار أن الزمن والمكان والبيئة خلاقة لمفاهيم لا يمكن اعتبارها ذات علاقة بالدين، بل هي ذات علاقة بسلطة الفهم الديني، وهو بالضرورة تفسير بشري للدين لا يمكن بحال من الأحول إلا بوضعه تحت منظار التحليل والنقد. ولذلك يقول البغدادي: "العلاقة بين النص الديني والبشر علاقة عضوية، بمعنى وجود العنصر البشري في النص الديني قرآنا كان أم حديثاً". لذلك فإن دلالات النص الديني مختلفة باختلاف المفسرين لهذا النص وباعتباره "حمّال ذو وجوه"، إلا أن تلك الاجتهادات التي مارسها الأوائل في الدولة الإسلامية ووسع النص الديني لتفسيراتهم واجتهاداتهم المختلفة ولم تسع اللاحقين من بعدهم!

إن الضرورة قد شكلت في فكر الدكتور البغدادي أهمية البحث والتحليل والنقد للجانب التاريخي للطوائف الدينية المتناحرة والتي مزقت أواصر المجتمع الكويتي والعربي الإسلامي على حد سواء، بسبب التعصب وغياب الوعي الثقافي لدى تلك الطوائف الدينية وإشاعة ثقافة الكراهية بين الطائفتين الكبيرتين الشيعة والسُنّة. وتنامى شعور الخوف لدى البغدادي على المجتمع الكويتي من إثارة تلك القضايا المختلفة حول قضايا تاريخية (الخلافة، حديث الدار، الصحابة) في ظل نظام الدولة الدستوري، وغياب دور الدولة والمواطنة في أدبيات التيارات الدينية، واستبدالها بفكرة دولة الخلافة (حزب التحرير)، متناسين بذلك الأساس الشرعي لديهم لقيام الدولة الدينية وآليات اختيار الخليفة وغيرها من الآليات التنظيمية للدولة المزعومة، وهي ليست سوى دعوة لتكريس مفهوم الدكتاتورية في نظام الدولة الدينية... ويتساءل البغدادي في هذا الإطار عما هو سبب انتهاء دولة الخلافة الراشدة؟ وما هي الأسباب التي حالت دون ديمومتها وتحولها إلى دولة وراثية قمعية؟

إن الوعي والقراءة للتراث الديني برؤية نقدية كفيلان لمعرفة المسيرة التاريخية للدولة الإسلامية التي تحولت بفعل التجربة وغياب الأصل التشريعي إلى قيام الدول الدينية كما يتصورها أصحاب فكرة الدولة الدينية، اضافة الى القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان والتعددية المذهبية والدينية والفكرية والحريات كمفاهيم متأصلة بين بني البشر.

لم يكن البغدادي إلا ثائراً على النمطية في التفكير في زمن الإجابات الجاهزة التي يقدمها رجال الدين بعيدة، وناقداً على المجتمع الذي لا يسعى الى الدفاع عن حريته بل يعاضد من يقمع حرياتهم، وناقداً شرساً لتيارات الإسلام السياسي المتقنع بثوب الصلاح والإيمان، وهو يمارس أشنع الجرائم والتكسب باسم الدين والإيمان الساذج. إن دعوة البغدادي الى استخدام العقل هي دعوة الى تحرير الإنسان وعقله في زمن كثرت فيه الأساطير وتفسير الأحلام وخداع الإنسان تحت مسمى الإيمان، وحتى يعود الى العقل دوره ونشاطه في بناء الإنسان والمجتمع، وحتى لا نغرق في لجة الفكر الظلامي.

وداعاً "أبا أنور" سنفتقدك أباً وأخاً وعقلاً، لكننا سنناضل في سبيل الحرية كما علمتنا.