في السنوات الخمس الماضية أطلقت الدعوات مراراً وتكراراً للتمسك بالوحدة الوطنية من قبل أمير البلاد وكبار المسؤولين وعقلاء المجتمع الذين يعون خطورة الفتنة على أمن الجتمع. هذا التأكيد المتكرر على أهمية الوحدة الوطنية يدل على أن هذه الوحدة تتعرض لخطر حقيقي وصلت فيه الأمور في العديد من المرات إلى حافة الفتنة بين بعض شرائح المجتمع.

Ad

الخطر على الوحدة الوطنية يتوزع على محورين: المحور الأول هو محور الحضر-البدو، أما المحور الثاني فهو محور السنّة-الشيعة. في كلا المحورين كانت هناك مظاهر واضحة لاصطفاف قسم من المجتمع في مقابل قسم آخر، ففي المحور السني-الشيعي تكرر الاصطفاف الطائفي عدة مرات في قضايا التأبين والفالي والعريفي والحوادث الطائفية في العراق وترخيص بعض المساجد ولافتات صيام يوم عاشوراء، بل حتى في القضية التي كانت محل اتفاق بين السنّة والشيعة، وهي قضية ياسر الحبيب لم يخلُ الأمر من تأجيج طائفي بغيض، وهذا كله يدل على الحساسية المفرطة التي لا تحتاج سوى إلى إثارة بسيطة لتتحول سريعاً ككرة الثلج إلى فتنة طائفية.

أما في المحور الحضري-البدوي فإن الاصطفاف وإن تجلى بشكل أقل وضوحاً من الاصطفاف السني-الشيعي إلا أنه يمكن للمدقق في ما خلف الكواليس أن يدرك عمق هذا الاصطفاف، والذي كان صارخاً في "هوشات" نواب حضر ونواب بدو داخل مجلس الأمة، وما تخلله من ألفاظ تنضح بالعنصرية. ولم تقتصر مظاهر هذا الانقسام على "هواش" النواب، بل ظهر جلياً في قسم كبير من السجالات التي دارت حول كيفية تقسيم الدوائر الخمس، وتكرر مرة أخرى في قضية إسقاط القروض حين اصطف نواب القبائل مع إسقاط القروض، بينما اصطف معظم النواب الحضر ضد إسقاطها، ولا يمكن القول إن ذلك كان من قبيل المصادفة. ولعل أشهر قضية تدل على الاصطفاف الحضري-البدوي هي قضية مزدوجي الجنسية، لكون هذه القضية تمثل نقطة ضعف لدى أبناء القبائل. وربما كان موقف نواب القبائل- المؤيد في مجمله- لمشروع القانون الجديد لغرفة التجارة يمثل رد فعل على إثارة قضية مزدوجي الجنسية... الأمثلة السابقة تجسد حدة الاصطفاف الحضري-البدوي وتبلوره على شكل إثارة نقاط الضعف لدى الطرف الآخر.

إذا كانت الاصطفافات الطائفية والعرقية واضحة للعيان فإن السؤال الأهم في الموضوع: ما سبب ظهور هذه الاصطفافات الحادة بين شرائح المجتمع في السنوات الأخيرة؟ من المعلوم في علم الاجتماع أن الإنسان إذا لم يجد في الدولة ملاذاً لحماية حقوقه على أساس المساواة والإنصاف في المواطنة فإنه يلجأ إلى انتماءاته العرقية أو الطائفية لكي يحتمي بها. إذن سبب الاحتقان السني-الشيعي والحضري-البدوي يعود بشكل أساسي إلى فشل الدولة في تكريس مبدأ المساواة في المواطنة وتطبيق القانون، وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال عما إذا كانت السلطة مستفيدة من هذا الانقسام بل تغذيه عبر سياسة "تربيط العصائص" من خلال ضرب شريحة بأخرى أم أنها غير مدركة أو ربما غير مهتمة لخطورة ذلك.

وفقاً لكل الاحتمالات فإنه إذا استمر تخلي السلطة عن القيام بدورها في تكريس مبدأ الإنصاف وتطبيق القانون بحيادية وعدم التمييز بين أفراد المجتمع وتقريب فئة وإبعاد أخرى فإننا مقبلون على اصطفافات أكثر حدة في الفترة المقبلة، وعندها سوف نقرأ على الوحدة الوطنية الفاتحة، وسوف يكون لسان حال السلطة "ولات حين مناص".