تبدّد الخوف الذي انتاب بديعة بسبب حرب وهيبة عليها، فقد أطلق صاحب مقهى «الشهبندر» دعاية غير مسبوقة لوهيبة، لكن الجمهور أعرض عن المقهى ليلة افتتاحه وتدفّق على

Ad

الـ «لونابارك»، وكانت بديعة تزداد تألقاً ونجاحاً وتحقق مكاسب في حلب حتى انتهى موسم الصيف، وانتهى معه عقد عملها في «لونابارك».

عادت بديعة إلى بيروت ومعها ماري بار زميلتها وصديقتها المخلصة، وما إن علم صاحب مقهى «كوكب الشرق» بعودتها من حلب، حتى زارها في منزلها وطلب منها الغناء مجدداً لديه، فوافقت بديعة على رغم أن أجرها كان أقلّ مما كان في حلب بسبب ظروف الحرب الصعبة.

استقبل رواد «كوكب الشرق» بديعة وماري بالهتاف والتصفيق الحاد، وكانت لياليهما أقرب إلى عرس دائم لا ينفضّ، فما إن تصعدا إلى المسرح حتى ينفجر الجمهور بالهتاف والتصفيق والإعجاب الشديد بالثنائي الرائع، وأمام هذا الإعجاب الجماهيري غير المسبوق آنذاك، شعرت بديعة بأنها حققت الكثير مما كانت تحلم به وفرحت بذاتها وبنجاحها.

آنذاك، كان صاحب مقهى «المرصد» يتحيّن الفرص لاسترداد بديعة ثانيةً لتغني في ملهاه، فأحال عليها منير، صديقها الجديد المعروف بكلامه الجميل وأسلوبه اللطيف ومعاملته الرقيقة، الذي أقنعها بالعودة إلى «المرصد»، هكذا عادت بديعة وعاد معها معجبوها وكانوا بالآلاف ومن الفئات والأعمار والمناطق كافة.

جولييت ابنة بديعة

ذات صباح دامٍ من أيام الحرب القاسية بفعل الجوع والموت، أطلّت بديعة من شرفتها، وبينما هي واقفة شاهدت طفلة تقلّب في مخلفات الشارع بحثاً عن لقمة تسد جوعها، فنادت شقيقتها نظلة وطلبت منها أن تأتيها بتلك الطفلة، وما إن شاهدت هذه الأخيرة الطعام الذي وضعته نظلة أمامها حتى انكبّت عليه بشراسة لتقتل الجوع الذي تمكّن منها وكاد يقتلها، فتركتها بديعة تأكل على قدر طاقتها. قضت هذه الطفلة أسبوعاً في بيت بديعة ثم ماتت ليس من الجوع بل من التخمة.

تأثرت بديعة بموت الطفلة لأنها آوتها لتحميها من أن يفتك بها الجوع، وإذا بها تموت من الشبع، فعاشت أياماً من الحزن والألم، إلى أن راودتها فكرة تبني طفلة لتؤنس حياتها. علمت إحدى جاراتها برغبتها هذه، وصودف أنها كانت تعمل في دار للأيتام تديرها الراهبات بالقرب من نهر بيروت، فأسرت إليها بأن الراهبات فتحن باب التبنّي أمام الأشخاص القادرين على الإنفاق على الأولاد.

قصدت بديعة دار الأيتام ومعها طبيبها الخاص، فرحبت بها الراهبات أيما ترحيب، وعرضن عليها الأطفال، فاسترعت انتباهها طفلة شقراء ذات عينين زرقاوين تشعّ منهما البراءة، إلا أنها كانت هزيلة فوقع اختيارها عليها وفرحت بها فرحاً شديداً، وعرفت من ثمّ أن والد الطفلة كان في أميركا الجنوبية، ثم تزوّج وعاد إلى لبنان ورُزق بهذه الطفلة وسماها خوليا، فأطلقت عليها بديعة اسم جولييت.

إلى حلب مجدداً

في إحدى الليالي بينما كانت بديعة تعمل في مقهى «المرصد»، وتحقق النجاح تلو الآخر، قصدها ميخائيل مغربية، صاحب مقهى «الشهبندر» في حلب، ودعاها هي وفرقتها إلى العشاء، ثم طلب منها العمل في ملهاه، فذُهلت بديعة لطلبه إذ لم يكن الموسم الصيفي قد حلّ بعد ولا يستقيم أن تترك دفء بيروت وتذهب في ذلك الشتاء القارس إلى حلب، إلا أنه فاجأها بأمر تحويل فندقه القديم في حلب إلى ملهى شتوي، تتوافر فيه وسائل التدفئة، فسألته باستغراب: «كيف تريدني أن أعمل لديك وأنت لم تترك أحداً في حلب إلا وأخبرته أنني لا أجيد الغناء والرقص؟»، لم ينكر ميخائيل ذلك إلا أنه برر موقفه بأن بديعة كانت أحد أسباب إقفال محله الصيفي، ثم قدّم لها شديد أسفه واعتذاره.

وافقت بديعة شرط أن تعمل خمسة عشر يوماً لقاء خمسين ليرة ذهبية كاختبار، وذهبت بمفردها هذه المرة، لأن صديق ماري باز ثار على أحكام العائلة الكريمة التي ينتمي إليها وقرر الزواج من ماري والهجرة إلى أميركا، وبالفعل سافرت هذه الأخيرة معه.

كانت بديعة اتفقت مع ميخائيل على مرتّب شهري قدره مائتا ليرة ذهبية في حال حققت نجاحاً خلال الخمسة عشر يوماً الأولى، وقد ركز ميخائيل على شرط النجاح في العقد ظناً منه أن نجاح بديعة مرتبط بماري وأنها لن تنجح هذه المرة.

سافرت بديعة إلى حلب برفقة الملحن عزت الجاهلي، وكانت «فستق مملح لذيذ يا أفندي» أول أغنية قدمتها من ألحان الجاهلي، فانتشرت في بلد الفستق، وأصبحت على كل لسان، تمّ ذلك كله في الخمسة عشر يوماً الأولى. بعدها قررت بديعة عدم البقاء مع ميخائيل واختارت العودة إلى بيروت، فجن جنون هذا الأخير وثار ثورة عارمة، وأحال عليها كل أصدقائها لإقناعها بالبقاء في حلب، فوافقت شرط أن تحصل على أجرها مئتي ليرة ذهباً مقدماً كل ثلاثين يوماً.

شراء منزل جديد

بعد فترة قصيرة أنهت بديعة عملها في حلب، ثم عادت إلى بيروت ملهوفة على طفلتها جولييت، ولما دخلت المنزل راحت تقبلها بجنون، إلا أن الأخيرة قابلتها ببرودة عجيبة كما لو كانت هذه السيدة غريبة عنها، لم تعبأ بديعة بذلك التصرّف وفرحت لأن الطفلة أصبحت جميلة.

في تلك الفترة اقترحت شقيقتها نظلة عليها شراء منزل جديد خاص بها، وأخبرتها عن منزل جميل في حي الرميل، كان ثمنه قبل الحرب ألف ليرة ذهباً ويعرض الآن بألف ليرة تركية فحسب، ونصحتها ببيع الأساور الذهبية التي في يدها لشراء البيت.

وفيما كانتا تتحدثان، أقبل السمسار جبران عليهما وشارك نظلة في إقناع بديعة بشراء البيت، الذي كان مبنياً من الصخور وحوله سور وحديقة ويطلّ على البحر، فاقتنعت بديعة بما سمعته من أختها ومن السمسار ودفعت عربون البيت مائتين وخمسين ليرة تركية.

بعدها عادت بديعة إلى العمل في «كوكب الشرق»، وكان المعجبون يزدادون يوماً بعد يوم، وفي مقدّمهم الضابط التركي صلاح الدين، إلا أن بديعة لم تكن تجد وقتاً كافياً لترضي الجميع ولم تعد تلتقي به إلا في ما ندر، لأنه كان كثير التجوال بين ألمانيا وتركيا، وكلما عاد إلى بيروت يسأل عن بديعة فلا يجدها، إما أن تكون سافرت إلى طرابلس وإما إلى حلب، فصارت لقاءاته بها صعبة وقليلة.

قد تكون معرفة بديعة بمنير وراء إهمالها صلاح الدين. كان منير يحمل أعباء كثيرة عن بديعة أولها أعباء المنزل، يدّخر لها المال الذي تكسبه من عملها في «كوكب الشرق» لتوفير باقي ثمن البيت، في المقابل رأت فيه بديعة الطيبة والكرم.

جميل بك التركي

ذات يوم وبينما كانت بديعة عند الخيّاطة الخاصة بها، التقت سيدة قصيرة القامة تتمتع بوجه وسيم، فعرّفتها الخياطة عليها بأنها زوجة منير، سألتها بديعة بفضول: «وهل منير متزوج؟»، أجابتها السيدة: «نعم... وله ثلاثة أطفال»، فأشفقت بديعة على تلك السيدة ورددت في عقلها: «ها هي شابة جميلة ولها ثلاثة أطفال لكنها تشعر بانكسار، لا بد من أن الغيرة تفتك بها من الداخل». ثم التفتت إلى السيدة قائلة: «صدقيني لو كان لديّ علم بأن منير متزوج وله ثلاثة أطفال لما قبلت بصداقته أبداً»، تابعت: «على كل حال اطمئني سأتخلّص من صداقته بلطافة»، فكشفت لها السيّدة بأن زوجها كان يتحجج بأنه يرافق شقيقها إلى مقهى «كوكب الشرق» وأنه يتأخر بسببه إلا أن شقيقها أنكر هذا الأمر، فافتضح أمره ما جعله سريع الغضب ويهددها بالطلاق وباتت تخاف من أن يحرمها أولادها وبيتها ورجت بديعة أن تعيده إلى بيته وألا يعلم أنها التقت بها أو حدّثتها.

حزّت دموع تلك المرأة في نفس بديعة وآلتمها، فطيبت خاطرها ووعدتها بأن تقطع علاقتها بمنير تماماً، من ثم راحت تفكر في طريقة تحقق فيها غايتها من دون إعطاء أي أسباب، لا سيما أنه كان كريماً معها ولم يظهر لها سوى اللهفة والحبّ والتعاون ووعدها بأن يدفع عنها ما تبقى من ثمن البيت، على أن تسدد له المبلغ بالتقسيط، ولم يعد أمام بديعة سوى أيام قليلة لتسجّل البيت باسمها.

ظلت بديعة تتخبط في حيرة حتى جاء إلى «المرصد» تاجر معروف من أثرياء حلب يدعى محمد وبصحبته شاب تركي وسيم يدعى جميل بك، فقدّم محمد صديقه التركي إلى بديعة، وجلست تتحدث معه إلى أن جاء موعد تقديم فقرتها، فأظهر لها استحساناً دفعها إلى القبول بالمضي بعلاقة صداقة معه.

تتابعت لقاءات بديعة بجميل، وكانت تتعمد الإكثار منها وتتحدث عنها حتى تصل إلى منير، وبالفعل علم الأخير بالأمر ووقعت مشادات بينهما، ثم انتهت علاقتهما من دون أن يعلم بأمر لقاء زوجته بها.

كانت بديعة تبحث عن الحبّ وتؤمن به ويسيل لعابها لكلمات الرجال الرقيقة والخادعة، وفي ساعة صفاء، صارحها جميل بك بأنه لم يعد يطيق فراقها وطلب منها أن تصحبه معها إلى حلب، لكنها تذكرت المنزل الذي لم تسجله بعد، وخشيت أن تخسره وتخسر معه الـمئتين وخمسين ليرة تركية التي دفعتها كعربون. لاحظ جميل ارتباكها واستحلفها أن تبوح بما في داخلها، فروت له ما حدث لها مع منير وأبلغته حاجتها إلى مائتي ليرة لإتمام صفقة البيت. بعد مشاورات دارت بين جميل وصديقه محمد، وافق الأول على دفع المبلغ شرط أن يكتب ربع البيت باسمه، فرضخت بديعة لهذا الشرط العجيب، هكذا اشترت البيت وسجلت ربعه باسم جميل بك.

تساءلت بديعة مراراً عن إصرار جميل بك على كتابة ربع البيت باسمه، ولماذا لم يعطها المبلغ كسلفة، لكن يبدو أن بريق الحبّ خدعها فوافقت على طلبه ظناً منها أنه يحبها مع أن عقلها أنبأها بغير ذلك. وبعد تفكير أقنعت نفسها بأن جميل طلب منها ذلك ليحتفظ بها.

تركت بديعة بيروت برفقة جميل واهتمت به على حساب عملها وفرقتها، اعتقاداً منها بأنه الوحيد في الحياة الذي يستحقّ التضحية من أجله، وأمضت شهرين برفقته في حلب بين حب ووجد وسهر وأشواق ولهفة، ضاربة عرض الحائط بالجمهور المعجب بها والهتافات والتصفيق والليرات الذهبية والشهرة، ونسيت لياليها المتوهّجة وفساتينها المزركشة وعاشت له وحده، من دون أن تفكّر في غيره.

ذات صباح دعتها إحدى جاراتها لتناول القهوة في منزلها، وما إن لبت الدعوة حتى فوجئت بوجود بشير القصير وزكي ضاهر، صاحبي الـ{لونابارك»، فعرضا عليها العمل في الملهى، إلا أن بديعة طلبت منهما فرصة للتفكير في الأمر. بعد مغادرتهما حاولت جارتها إقناعها بالعودة إلى العمل، وأكدت لها أن الحب لا يدوم، ونصحتها بألا تضيّع شبابها لأن الرجال لا أمان لهم، وألا تدفن مواهبها الفنية...

غدر جميل بك

أحدث لقاء بديعة بجارتها زلزالاً في نفسها ولم يغمض لها جفن في تلك الليلة، وكانت عبارة «الرجال لا أمان لهم» تدور في رأسها، للمرّة الأولى ارتسمت في ذهنها علامات استفهام: ما حقيقة جميل بك؟ هل كان أقرضها مئتي ليرة تركية لو لم تسجّل له ربع البيت؟ هل أعطاها هذا المبلغ لتطمئن إليه وتترك عملها من أجله؟ فجأة زالت الغشاوة عن عين بديعة وبدأت تتوجس فيه شراً.

في المساء عاد إليها جميل فاستقبلته من دون أن تظهر له مخاوفها، إلا أنها أفرطت للمرّة الأولى في الشرب، حين رآها بهذا الشكل استدرجها إلى غرفته وأخذ يلاطفها ويسألها عما بها وما سرّ هذا التغيير المفاجئ، فارتمت على صدره باكية ومن دون أن تتفوه بكلمة واحدة. تابع جميل مداعباته لها، حتى صارحته بمقابلتها لصاحبي المقهى، فسألها إذا كانت اتفقت معهما، أجابت: «نعم وسنبدأ العمل بعد شهر»، عندها جن جنونه لأنها تصرّفت من دون إذنه وبما يغضبه.

إزاء ردة فعله العنيفة، ذكرته بديعة بأنها مسؤولة عن أسرة وبيت وعن شقيقتها وأولادها، وأعربت عن ندمها لترك شقيقتها في بيروت فريسة للفقر والجوع بعدما انتقلت من قريتها شيخان لتعيش مع بديعة وتحميها من أنياب الجوع، وبما أنها لم تعد تملك مالاً يسدّ رمقها ورمق أسرتها قررت العودة إلى العمل واتفقت مع صاحب المقهى على أن تبدأ الغناء فيه بعد شهر.

استشاط جميل غيظاً ونهرها قائلاً: «بسببك أنا في حلب بعيداً عن أهلي هذا الوقت كله، وبسببك تركت عملي في اسطنبول، وما دمت اتخذت قرارك بهجري، سأعود بدوري إلى تركيا». فردت بديعة: «أما أنا فسأعود إلى بيروت، أريد أن أطمئن على شقيقتي وأولادها وابنتي جولييت، وعدني صاحب المقهى بأن يقرضني مرتّب شهرين، هكذا يمكنني أن أردّ لك المئتي ليرة وتعيد إلي ربع البيت».

في تلك اللحظة رأت بديعة شخصاً آخر أمامها راح يردد بالتركية: تمام تمام بديعة خانم، إنتي إعمل ترتيبات كله مظبوط ... عفارم عليك بديعة».

ما إن تأكّد جميل بك من أن بديعة ستهجره حتى ظهر على حقيقته، فراح يراقبها مراقبة السجان ويسيء معاملتها، وكانت بديعة تتحمله على مضض لتسترجع ربع البيت الذي كتبته له، وبعد أيام قالت له: «هل يمكن أن ترافقني إلى بيروت لأعيد لك المبلغ وتعيد لي بدورك ربع البيت المسجّل باسمك؟} فأجابها: «لا أحبّ بيروت ولا أرغب في مرافقتك إلى هناك، سأوكّل محمد أفندي صديقي وادفعي له مئتي وخمسين ليرة ذهباً»، فاعترضت بديعة: «لكنك لم تقرضني سوى مئتي ليرة»، فقال لها: «صحيح ولكن ثمن البيت يقدّر اليوم بألف ليرة ذهب، وأنا أريد نصيبي بالكامل، فإذا كان هذا يوافقك فأهلاً، أما إذا كان لديك أي اعتراض فافعلي ما تشائين!».