تميل حكومات الدول المتخلفة إلى انتهاج السلوكيات الأقل جهداً والأكثر بعداً عن المتطلبات المضنية للنظام الديمقراطي، فتتجمد مسؤولية الحكم على أفضل تقدير عند السعي إلى معالجة ما يتلقى من مشاكل مباشرة، دون أي سلوك يطرق باب المشاكل قبل استفحالها وتحولها إلى أزمات.

Ad

وإن كان هذا الأمر واقع حال تقلّ استثناءاته، فإن بعض المشكلات تستوجب تحركاً عاجلاً يبرره الحدّ الأدنى من البصيرة والإحساس بمسؤولية الحكم مهما اختلف مصاف الدول، إلا أنه في القرن الحادي والعشرين، يبدو أن حكومة لبنان تلتزم دور تصريف الأعمال، متسلحة بتوالي الأزمات والحروب، فتعفي نفسها من ترف الديمقراطية، وهي تحديداً تمثيل سلطة الشعب ومصالحه الحالية والمستقبلية.

ففي خضم توسع مفهوم الأمن القومي نحو مضامين الأمن الإنساني والاجتماعي، من سابع المستحيلات أن تكون حكومة لبنان تهتمّ بارتفاع أسعار الشقق السكنية بشكل عشوائي دون أي رقابة، وهي أزمة تمسّ الأمن الاجتماعي في صلبه، خصوصا أنها تترافق مع نمو سكاني لكن دون أي نمو اقتصادي.

المعلوم أن أكثر ما يحرِّك سوق العقارات في لبنان هم بشكل أساسي العاملون في الخارج الذين يرسلون أموالهم إلى داخل البلد، إلا أن الأكثرية الساحقة منهم تقترض من مصارف لبنان لشراء شقة وتأمين سكن. وبالتالي، فإن واقع استقرار الطلب والتصاعد المطرد للأسعار لا يعبِّر عن أسباب محلية وعن أي نمو اقتصادي.

كان لبنان في مأمن عن هذه الأزمة التي مازالت تنمو لو أن هناك حكومة تراقب وتسأل وتفقه معنى المستقبل والتخطيط الاستراتيجي، وتفهم أن الحرية الاقتصادية واقتصاد السوق لا يعنيان غض النظر عن أزمة اجتماعية كبرى قد تتفجر خلال السنوات المقبلة، في بلد عادة ما تهرول أزماته وهواجسه فجأة نحو الشارع، قبل استيقاظ البرلمان والحكومة.

من يراقب ويحاسب التجار الذين فرحوا برفع أسعار العقارات بسبب غلاء المواد الأولية، وبقوا فرحين حين تراجعت أسعار المواد وزاد الكسب، ثم حين استقرت التكلفة واستمرت أسعار العقارات بالتصاعد، وهي مازالت تتصاعد بشكل مخيف في بيروت، وكل ضواحيها وكل لبنان؟ وطبعاً، ما بال التجار بالأمن الاجتماعي ومستقبل البلاد وواجبات المواطنة، التي تسقط كلها أمام الربح السريع والاستثنائي وفي ظل انعدام رقابة الدولة؟!

سعر المتر المربع يبدأ من 1500 دولار في أقصى ضواحي بيروت، والحد الأدنى للأجور يبلغ $330 شهرياً، والإيجارات تتصاعد على خطى أسعار العقارات، ما يوحي بأزمة سكن مقبلة، على وقع نمو سكاني وركود اقتصادي وانعدام الإنماء المتوازن وضعف كبير في موارد الدولة التي تعجز حتى عن التفكير في إقامة نماذج لمساكن مدعومة. هل المطلوب أن يشعر النواب والوزراء وغيرهم من المسؤولين بالمشكلة بشكل شخصي، حتى يبادروا إلى دق جرس الإنذار ويراقبوا حجم الكسب في سوق العقارات؟ طبعاً لا، لأنهم لن يشعروا أبداً بالأمر، طالما أن في لبنان لكثير من النواب والوزراء «هذا وذاك»، ولا من يسأل من أين أتى وكيف كبر. ولسان حال أصغر طفل في لبنان يتحدث عن حجم الرشوة التي تجتاح معظم أجهزة ومؤسسات الدولة، ويتحدى الحكومة أن تنفي ذلك.

عقارات بيروت تجعلها قطعة من مانهاتن، والحد الأدنى لأجورها يجعلها جهنم على الأرض، وقروض الشقق تُستدان من لبنان بفوائد كبيرة وتسدّد في الغربة القسرية والمستمرة، في ظل حكومة تعيش على الآنية وتقتات من الصراعات. هي تناقضات صارخة لا يعتقدنّ أحد أنها قد تذوب في طواحين البلد العجيب، شأن كل التناقضات السياسية في لبنان، فالآتي قد يكبر ويكون أعظم، قبل أن يقرأ ساسة لبنان الفصل الأول من مضامين التخطيط الاستراتيجي والأمن الاجتماعي.

الغريب أن الكثيرين في لبنان يسمعون أعضاء في الحكومة والبرلمان يتحدثون على سبيل «الدردشة» في المجالس الخاصة، عن ارتفاع أسعار العقارات في البلد- كحديثهم عن مباريات كأس العالم وتقلب الطقس- لكن دون أن يشعروا بواجب رسمي حقيقي تجاه الأمر، وكأنهم وزراء ونواب في جمهورية المريخ!

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة