تعود مدينة الفسطاط إلى بؤرة الضوء والاهتمام، بعد قرار رئيس مجلس الوزراء المصري أحمد نظيف بتشكيل مجموعة عمل من وزارات عدة لوضع مخطط متكامل يعيد المدينة العريقة إلى مجدها، ويؤكد على طابعها الإسلامي الأصيل.

الفسطاط أقدم المدن الإسلامية في قارة أفريقيا وثالثة المدن الإسلامية (بعد البصرة والكوفة)، لها تاريخ خاص يتعدّى مكونات المكان ليتعانق مع مفردات التاريخ، فمنها خرج حملة السيوف لفتح أفريقيا، ومن جامعها العتيق خرج حملة الأقلام لنشر رسالة السماء في ربوع الأرض، مغاربها ومشارقها.

Ad

كان للمدينة تاريخها سبق ظهور الإسلام، إذ كانت ضاحية لمدينة منف الفرعونية في فجر التاريخ، عندما كانت هذه الأخيرة عاصمة مصر الموحّدة.

بما أن المدينة قريبة من الدلتا وغير بعيدة عن الصعيد المصري، ركّز الحكّام اهتمامهم عليها، وكان لملوك الفراعنة حامية مقيمة في هذه المنطقة وبني فيها حصن بابليون الذي تعاقب الفرس والروم على السيطرة عليه قبل مجيء العرب.

إهمال البحاثة

أحد أشهر معالم الفسطاط التاريخية جامع عمرو بن العاص، أقدم جوامع مصر، ومجمع الأديان بكنائسه ومعابده وبقايا حصن بابليون، أقدم آثار المدينة، مساجد السيدة نفيسة والإمامين الليث بن سعد والشافعي، سور مجرى العيون الذي وضعت له خطة منفصلة ومتكاملة لإعادته إلى مكانته التاريخية وإعادة المجرى المائي إلى شكله الوظيفي، لا سيما أن الغرض الرئيس من السور كان نقل المياه العذبة إلى حكّام مصر ساكني قلعة الجبل.

في كتابه عن الفسطاط يوضح الخبير الأثري د. خالد عزب، مدير إدارة الإعلام في مكتبة الإسكندرية، أن الباحثين المسلمين أهملوا هذه المدينة، على رغم أنها تروي قصة مصر الإسلامية في القرون الستة الأولى من الهجرة.

يعزو عزب سبب خراب المدينة الرئيسي إلى حريق هائل التهمها، أواخر العصر الفاطمي، ومجاعات متتالية اجتاحت مصر في العصور الوسطى.

يختلف عزب مع آراء تؤكد على انتهاء دور المدينة في العصر العثماني، ويشدد على استمرارها في أداء دور تاريخي، لكن كضاحية جنوبية لمدينة القاهرة التي ابتلعت المدن المقامة حولها وأدمجتها في كيان واحد تحت مسمى «القاهرة».

جهاز التنسيق الحضاري

توضح الدكتورة سهير حواس، أستاذ العمارة ونائب رئيس جهاز التنسيق الحضاري، أن جهاز التنسيق الحضاري له سلطات مباشرة في المشاريع الخاصة بالمناطق الحضارية: «يجب عرض مخطط مشروع تطوير الفسطاط العام على جهاز التنسيق، لإعطاء موافقته النهائية وتوصياته بشأن معايير يجب اتباعها في التعامل مع محيط الآثار من مبان غير أثرية، ووضعها في إطارها الإسلامي لإيجاد تناغم بين الأثر ومحيطه».

تشدد حواس على ضرورة إزالة التعدّيات على سور مجرى العيون لإعادته إلى رونقه التاريخي كأثر له طبيعة خاصة، واستخدام بحيرة «عين الصيرة» لإنشاء حديقة رائعة الجمال تبتكر واقعاً حضارياً جديداً.

عمرو بن العاص

يروي المؤرخ المصري ابن عبد الحكم كيفية تأسيس الفسطاط، وهي أقدم رواية وصلتنا عن تأسيس هذه المدينة العريقة، يقول: «يرجع تأسيس مدينة الفسطاط إلى الوقت الذي حقّق فيه القائد العربي المسلم عمرو بن العاص انتصاره الساحق على الحامية البيزنطية في حصن بابليون، بعدها أمر جنوده بمتابعة الزحف صوب الإسكندرية، حاضرة البلاد آنذاك، وأمر بفض فسطاطه، خيمة القيادة، الذي ضربه قرب حصن بابليون، فإذا يمام قد فرخ عليه فأقرّه كما هو.

لم يكد عمرو بن العاص يفتح الإسكندرية ويجد مساكنها خالية من ساكنيها من الروم الذين رحلوا عن المدينة، حتى أرسل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يستأذنه السكن فيها واتخاذها مقراً للإدارة الإسلامية، كما كانت مقراً للإدارة البيزنطية سابقاً، فسأل عمر الرسول: هل يحول بيني وبين المسلمين ماء؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، إذا جرى النيل. فكتب عمر إلى عمرو: إني لا أحب أن تنزل المسلمين منزلاً يحول الماء بيني وبينهم في شتاء لا صيف. فتحول عمرو بن العاص من الإسكندرية إلى حصن بابليون حيث فسطاطه المنصوب ووجد أن فرخ اليمام قد كبر، فأمر بوضع خطط المدينة الجديدة التي عرفت بـ الفسطاط عام21هـ/641م».

نمت الفسطاط بشكل سريع فاق التوقعات، بفضل الموقع العبقري، فهي تطلّ على النيل وغير بعيدة عن البحر المتوسط والبحر الأحمر وقريبة من طرق التجارة العالمية ومدن الحجاز وبلاد الشام، إضافة إلى أنها كانت مقرّ شمال أفريقيا العسكري والإداري إبان الفتوح الإسلامية. هكذا، أصبحت عاصمة مصر الإسلامية، في غضون أعوام قليلة، إحدى كبرى مدن العالم الإسلامي، ما دفع الجغرافي العربي الكبير المقدسي، عندما زارها في القرن الرابع الهجري، إلى القول إنها «ناسخ بغداد ومفخر الإسلام ومتجر الأنام، وأجل من مدينة السلام... ليس في الأمصار آهل منه».

أحد أبرز معالم جامع «الفسطاط الكبير» المعروف أكثر بإسم جامع «عمرو بن العاص»، وكان أحد أكبر مراكز نشر الإسلام والثقافة الإسلامية في العالم الإسلامي مع ظهور أعلام للتدريس فيه كالإمامين الليث بن سعد والشافعي ومدرسته في الفقه والإمام ورش (عثمان بن سعيد) في علم القراءات.

على رغم تأسيس القاهرة في منتصف القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) وتحوّل شؤون الحكم مع الفاطميين إليها، لم تتأثر مكانة الفسطاط، وأصبحت القاهرة مجرد ضاحية ملكية لمدينة مصر الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الأولى.

إحراق المدينة

لم تفقد الفسطاط مكانتها إلا في نهاية العصر الفاطمي، ففي غمار الفوضى التي عمّت البلاد وتقدّم القوى الصليبية صوب المدينة، أمر شاور وزير الخليفة العاضد بحرقها سنة 564 هـ/ 1168م، واستمر الحريق 54 يوماً فهجرها أهلها وصارت خراباً، ولم ينج من الحريق سوى مسجد عمرو بأعجوبة، هكذا بدأت تفقد مكانتها شيئاً فشيئاً حتى اضمحلت، وصارت أحد أحياء وريثتها مدينة القاهرة في منتصف القرن السادس الهجري، فانزوت في ركن التاريخ واحتفظت بتاريخها العريق ضمن شوارعها وحاراتها، ذلك التاريخ الذي سجله مؤرخو مصر أمثال ابن عبد الحكم وابن زولاق والمسبحي والمقريزي وابن دقماق. وما زالت آثار الحريق الضخم الذي ضرب «الفسطاط» ماثلة في خرائب مصر القديمة. هكذا كان مصير الفسطاط مرتبطاً في بدايتها بعبقرية قائد اتخذ قرار إنشاء المدينة، ونهايتها مرتبطة بغباء وزير لم يكن بمستوى الحدث فأمر بإحراقها.