بعد انزواء الحدث الاحتجاجي في إيران وتراجع الاهتمام الإعلامي به، عاد النقاش العربي حول السياسة وشؤونها في صيف 2009 للمعاناة من سجالات عقيمة لا نفع من ورائها. ففي مصر، تدور رحى سجال عقيم حول شائعة حل مجلس الشعب الحالي قبل انتهاء دورته في 2011، على الرغم من النفي الرسمي وحقيقة التزام نظام الرئيس مبارك والحزب الوطني الحاكم طوال العقود الثلاث الماضية باستكمال الدورات التشريعية إلى نهايتها، ما لم تصدر أحكام قضائية تقطع بعدم دستورية مجلس الشعب وبحتمية حله، وهو ما حدث في 1984 و1987 و1990.وفي لبنان، يستمر السجال الصاخب حول تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة سعد الحريري ويمتزج الحديث العام عن تناقضات مواقف القوى اللبنانية المختلفة بمبالغات حين النظر إلى أدوار القوى الدولية والإقليمية وفي مقدمتها الولايات المتحدة وفرنسا وسورية والسعودية، التي إما تتهم بتعويق مهمة الحريري في تشكيل الحكومة، وإما تُشكر على السعي لإنجاحها. صخب لا يهدأ وإعلام يلهث وراء التصريحات الحدية، وإن لم يحصل عليها ينتجها ذاتياً، كل ذلك على الرغم من غياب المعلومة المؤكدة ومحاولات جميع الأطراف الداخلية والخارجية التقاط الأنفاس وكسب الوقت.ومن عمان، خرج علينا رئيس الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية فاروق القدومي بتصريحات نارية يتهم بها الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالتورط في مخطط أميركي-إسرائيلي لاغتيال الزعيم الراحل ياسر عرفات انتهى بتسميمه ووفاته في 2004. من جهة، لم ترتب هذه الاتهامات، التي جاءت في لحظة فلسطينية شديدة الدقة ناتجة عن التعثر المستمر لحوارات القاهرة بين «فتح» و»حماس»، وتعنت حكومة اليمين الإسرائيلية بشأن شروط استئناف مفاوضات التسوية مع السلطة الفلسطينية، وامتناع الولايات المتحدة إلى اليوم عن الضغط الفعلي على الحكومة الإسرائيلية بغية تغيير موقفها، سوى تغييب الرأي العام الفلسطيني والعربي عن حقيقة ما يدور في القاهرة وبين رام الله وتل أبيب وبين الأخيرة وواشنطن. ومن جهة أخرى، وجد البعض في اتهامات القدومي فرصة جديدة لإعادة إنتاج خطاب التخوين الرديء ضد محمود عباس وحركة «فتح» وبالتبعية تعميق التصدعات والخلافات بين القوى الفلسطينية، وهي اليوم أحوج ما تكون إلى التنسيق والتعاون.المحبط هنا، فضلا عن كون هذه السجالات ارتبطت إما بشائعات ذات مصداقية محدودة (مصر)، وإما باتهامات شديدة الخطورة لا دليل ملموسا عليها (فلسطين)، وصخبها السلبي غير المستند إلى أساس معلوماتي واضح (لبنان)، هو وظيفتها الإلهائية وما ترتبه من تغييب لقضايا مهمة تستحق أن يدار النقاش العام حولها.فمصر، على سبيل المثال، مقبلة على فترة سياسية ومجتمعية دقيقة في العامين القادمين تتخللها انتخابات تشريعية في 2010 ورئاسية في 2011. وفي حين سيختلف القانون المنظم للانتخابات التشريعية 2010 عن القانون الفردي الذي أديرت وفقا له انتخابات 2005، قد تفتح الانتخابات الرئاسية الباب لتغيير شخص الرئيس إن قرر مبارك عدم الترشح لفترة سادسة. وكما أشار الدكتور عبدالمنعم سعيد منذ أيام في مقال لافت بصحيفة «الأهرام»، ومع أخذ القيود المفروضة على ممارسة التعددية السياسية في مصر، واختلاف الإمكانات والفرص بين الحزب الوطني الحاكم وأحزاب المعارضة والمستقلين في الاعتبار، وأنا لا أتجاهلها أبداً، ينتظر المصريون من القوى السياسية الشروع في صياغة برامجها للاستحقاقين الانتخابيين وتجهيز أطرها التنظيمية وكوادرها لإداراتهما. تواجه مصر أيضا تحديات اقتصادية واجتماعية كبرى (معدلات الفقر، والبطالة، والتهميش... وجميعها في تصاعد كما أشرت في مقال سابق)، وتزيد الأزمة الاقتصادية العالمية من وطأتها وتستدعي نقاشاً وطنياً صريحا حول السبل المثلى للتعامل معها، يجب على فعاليات المعارضة والتيارات الفكرية والمجتمع المدني ألا يتركوه لنخبة الحكم لتنفرد به. عوضاً عن الاهتمام بهذه القضايا والاستعداد لعامين مصيرين مقبلين، يجد المصريون قطاعاً واسعاً من القوى التي ينبغي عليها أن تتنافس على رضاهم اليوم وأصواتهم الانتخابية غدا- مرة أخرى على محدودية هذه المنافسة واقعياً- منهمكاً في سجال عقيم حول شائعة حل مجلس الشعب.في لبنان، وبعد انتخابات تشريعية غابت عنها السياسة بالمعنى البرامجي والعملياتي المرتبط بقضايا اقتصادية واجتماعية محددة، وحضرت فقط بصيغة مواقف «المع والضد» الحدية، وحديث الهوية الذي لا تنتهي، يعمق السجال الدائر حول تشكيل الحكومة من ذات النزوع. والحصيلة هي عجز عقلاء القوى السياسية المختلفة والأرصن بين المحللين والإعلاميين عن تغيير دفة النقاش العام باتجاه استحقاقات الحكومة الجديدة والنظر إلى تشكيلها المحتمل وتوازناته عبر عدسة الفاعلية البرامجية وما قد يستطيع الحريري تقديمه لمواطنين ضاقوا ذرعاً من طول انتظار حكومة قادرة على اتخاذ القرارات ووضعها موضع التنفيذ.أما عن فلسطين، فحدث ولا حرج: حوار وطني متعثر في ظل ضياع البوصلة الاستراتيجية لـ»فتح» وكذلك «حماس»، وتدخلات لأطراف إقليمية ودولية تطلب وتشترط، وحكومة تسيير أعمال لا شرعية دستورية لها، وأكثر من مليون فلسطيني يعانون أوضاعاً إنسانية مأساوية لابد من تغييرها، وحكومة يمين إسرائيلية تسوِّف وتماطل وترفض عملياً حل الدولتين وتوسع المستوطنات رغماً عن أنف العرب وربما الولايات المتحدة. أيعقل إزاء كل هذا أن يكون سجال الفلسطينيين في صيف 2009 حول اتهامات لا سند لها لمحمود عباس بالضلوع في اغتيال عرفات وأن يلتقطها إسماعيل هنية ويطالب «بإجراء تحقيق فيها» وتفرد لها بعض الفضائيات مساحات زمنية واسعة؟وليت الأمر يقف عند حدود مصر ولبنان وفلسطين، بل هو يتعداه للتأثير على خريطة نقاشاتنا العامة حول السياسة الإقليمية بذات الطبيعة الإلهائية والتغييبية في ما خص القضايا المصيرية. بعيدا عن الاهتمام بإيران وتداعيات الاحتجاجات الأخيرة على مشهدها السياسي الداخلي ودورها الإقليمي وعلاقتها بالقوى الخارجية، يمر العرب اليوم بلحظة تعيد بها الولايات المتحدة مع انسحابها من العراق التفكير في أولوياتها وأدوات حماية مصالحها في الشرق الأوسط وتعمل على صياغة رؤية جديدة من قضايا السلام والحرب في المنطقة. وفي حين ينفتح العراق على مرحلة مغايرة ويستمر تدهور الأوضاع في فلسطين والتوتر في لبنان وتبرز تحديات كبرى في السودان واليمن، تواجه بقية الدول العربية بما فيها دول الخليج معضلات التكيف مع الأزمة الاقتصادية العالمية ويتأثر بعضها بصورة مباشرة بمجمل التطورات الإقليمية في إيران والعراق وفلسطين ولبنان. أليست هذه القضايا أحق بالنقاش والاختلاف حولها من شائعة مصرية ومبالغات لبنانية واتهامات جزافية تكمل شق الصف الفلسطيني؟ بالقطع نعم، إلا أنها ثقافتنا السياسية وسجالاتها العقيمة التي دوماً ما تلهينا عن الاهتمام بالحاضر وتحدياته الحقيقية.* أكاديمي مصري
مقالات
سجالات صيف 2009
20-07-2009