تربعت قضية القومية الأويغورية في بؤرة المشهد الدولي في الأيام القليلة الماضية بسبب الاضطرابات التي شهدها إقليم شينغيانغ الواقع في شمال غرب الصين، والذي يضم قوميتين متناحرتين، هما القومية الأويغورية المسلمة وقومية الهان الصينية، التي تشكل الأغلبية في عموم الصين. ومع استئثار المواجهات الدامية التي راح ضحيتها 156 قتيلاً وأكثر من ألف جريح بالاهتمام الدولي بشكل خطف الأضواء من قضايا ملتهبة، كان الأداء التركي الدبلوماسي حيال الصين بخصوص الاضطرابات يثير الكثير من التساؤلات حول الدوافع التي تحرك السياسة الخارجية لحكومة حزب «العدالة والتنمية».

Ad

ومرد التساؤلات وعلامات الاستفهام أن أنقرة ذهبت في مواجهتها مع الصين حدوداً غير مسبوقة، خصوصاً أن الصين التي تستهدفها السياسة التركية بالضغط هي قوة عظمى وعضو دائم في مجلس الأمن ومالكة لقدرات نووية عسكرية وأكبر بلدان العالم من حيث عدد السكان وأحد أكبر بلدان العالم من حيث المساحة. وبلغت التحركات التركية المعادية للصين قمتها مع وصف رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان المصادمات بين القومية الأويغورية المسلمة وقومية الهان الصينية المسنودة من الدولة الصينية بأنها نوع من أنواع «الإبادة الجماعية».

ظهر واضحاً أن حكومة حزب «العدالة والتنمية» راغبة في تدويل قضية الأويغور عندما طالبت بتحويل المسألة إلى مجلس الأمن الدولي، وهو ما أدانته الصين بشدة. واعتبرت وزارة الخارجية الصينية أن ما يجري هو «شأن داخلي صيني»، وألمح دبلوماسيون صينيون إلى «تشابهات» بين ما يجري في إقليم شينغيانغ من اضطرابات من ناحية، وبين ما يجري في الأناضول من تحركات انفصالية كردية من ناحية أخرى. تزعمت تركيا الحملة الدولية المنددة بالقمع الصيني للتظاهرات وبقتل المدنيين العزل، في حين دافعت روسيا بشدة عن الصين ووحدة أراضيها وشددت على عدم التدخل في شؤونها الداخلية، أما موقف الغرب بجناحيه الأميركي والأوروبي، فكان مندداً ببكين ولكن بلهجة أقل من تلك التي اعتمدتها تركيا. اللافت في هذا السياق أن الموقف التركي تقدم على المواقف الغربية كلها، بعدما تدرج في مسالة الأويغور بشكل سريع ويومي. زار الرئيس التركي عبدالله غول الصين على رأس وفد اقتصادي تركي كبير قبل خمسة أيام من بدء الاضطرابات، حيث زار أيضاً إقليم شينغيانغ إضافة إلى العاصمة بكين ووصف الأويغور بأنهم «يجسدون جسر صداقة» بين تركيا والصين.

انهار «جسر الصداقة» بعد زيارة غول بأيام قليلة ومعدودة، حين أعلن أردوغان بعد بدء التظاهرات أن تركيا ستقدم تأشيرة دخول إلى ربيعة قدير زعيمة الأويغور في المنفى، بعدما امتنعت تركيا عن تقديم تأشيرة دخول لها في عامي 2006 و2007. ثم أعلن أردوغان بعدها بيوم واحد أن بلاده ستقدم ملف الأويغور إلى مجلس الأمن، وفي اليوم الذي أعقبه أعلنت تركيا أن ما يجري هو «إبادة جماعية»، وهي كلمة تعرف تركيا وطأتها السياسية والمعنوية، خصوصاً بسبب اتهامها من الأرمن أنها قامت بإبادة جماعية في حقهم عام 1915. حرصت تركيا في السابق على تغليب اعتبارات علاقاتها الدولية مع الصين على اعتبارات تعاطفها مع قومية الأويغور، وهم قومية تنتمي إلى أولاد عثمان الاثنى عشر أي إلى القبائل المؤسسة للعرق التركي- كما يعتقد الأتراك- فضلاً عن أنهم يتحدثون لغة تعد أحد فروع شجرة اللغة التركية.

وفي النهاية ينتمي الأويغور إلى تركستان الشرقية الممتدة من منطقة آسيا الوسطى وحتى إقليم شينغيانغ، ولكن هذه الحقائق التاريخية والعرقية واللغوية كانت موجودة طوال ألف سنة على الأقل، فلماذا تغير الموقف التركي الآن؟ ويزداد السؤال إلحاحاً عند ملاحظة السقف المتدني للتحرك التركي في مجلس الأمن، بسبب «الفيتو» الصيني والروسي الذي سيمنع صدور أي قرار في المجلس ضد مصلحة الصين. فلماذا التضحية بالعلاقات مع الصين مقابل تحرك دبلوماسي لن تكتب له الحياة لأكثر من فترة زمنية محدودة؟

تتضح الصورة بعض الشيء إذا أضفنا إلى ذلك العامل الاقتصادي بين الصين وتركيا، إذ إن هناك عجزاً تركياً كبيراً في التجارة الخارجية مع الصين، وحتى زيارة الرئيس التركي غول على رأس وفد اقتصادي كبير جرت لأغراض اقتصادية في الأساس. يبلغ حجم التجارة الخارجية بين البلدين حوالي 12.5 مليار دولار سنوياً، من بينها ما يزيد على عشرة مليارات صادرات صينية لتركيا والبقية صادرات تركية إلى الصين. وكما هو واضح لا يشجع الميزان التجاري بين البلدين تركيا على الاستمرار في الوتيرة التجارية نفسها، فإذا أضفنا إلى هذه الحقيقة مناشدة وزير التجارة والصناعة التركي نهاد أرغون لمواطنيه الأتراك «مقاطعة البضائع الصينية» لعرفنا جانباً آخر من الصورة.

يتمثل الجزء الأهم من حسابات أنقره في رغبة حكومة حزب «العدالة والتنمية» في خلق أجندة قومية تركية وأجندة تركية إسلامية أيضا، وهي الأجندة التي ستحمل على جناحيها النفوذ التركي إلى مناطق حضوره التاريخي مرة أخرى. هنا بالضبط يتشابه ما تفعله تركيا الآن بما فعلته عند نهاية العام الماضي من تضامن كبير مع غزة إبان العدوان الإسرائيلي عليها، وهو ما أكسب تركيا الكثير من التعاطف في العالم العربي. تأمل أنقرة الآن في توسيع نفوذها المعنوي وقوتها الناعمة عند شعوب قيرغيزستان، وأوزبكستان، وتركمانستان، وأذربيجان، وقازاقستان، وعموم آسيا الوسطى والقوقاز.

كانت مهمة تركيا سهلة في التضامن مع غزة بسبب غياب الخصوم الأقوياء في الشرق الأوسط، ولكن في الطريق إلى تركستان الشرقية تتقاطع مصالح تركيا مع مصالح روسيا والصين، وهما خصمان أقوى من تركيا بمراحل. وتزداد المهمة التركية صعوبة على صعوبتها في تركستان الشرقية بسبب غياب عامل «التاريخ المشترك»؛ فآسيا الوسطى لم تكن جزءاً من الإمبراطورية العثمانية ولم تتحد مع الأتراك في دولة منذ مئات كثيرة من السنين، في حين اندرج المشرق العربي بكامله في الإمبراطورية العثمانية حتى تفكك الإمبراطورية مع نهاية الحرب العالمية الأولى، أي قبل أقل من قرن. يقضي التفسير الأرجح للسلوك التركي حيال المسألة الأويغورية بأن تركيا تغلب اعتبارات توسيع نفوذها المعنوي واستعراض قوتها الناعمة في مناطق حضورها التاريخي، ويسهل هذه المهمة الثمن المتدني نسبياً لقاء حركتها الإعلامية والدبلوماسية ضد الصين والراجع إلى ميل الميزان التجاري بين البلدين بشدة لغير مصلحتها!

* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية

والاستراتيجية- القاهرة