خلال وجوده في لبنان لم يجد ياسين الفرصة الحقيقية التي كان في حاجة إليها، والفرص التي أتيحت أمامه لم تعطه الدور الأول أو الثاني أو حتى الثالث، لكن أمام ضغوط الحياة اضطر أن يقبل بها لتسيير حياته، فقد أراد البعض استغلال اسمه، فشارك في «كرم الهوى، لقاء الغرباء، وفرسان الغرام».

من السينما إلى التلفزيون حيث قدم ياسين البرامج وامتد نشاطه إلى المشاركة في الحفلات الفنية وبعض الملاهي والفنادق، ووجدت الإعلانات الدعائية فيه «صيداً»، فسقط في إغرائها وقدم إعلانات تروج لبضائع مختلفة!

Ad

خلال هذه الأعمال التي لا ترضي روح الفنان الحقيقي، تولّد الأمل في قلب ياسين وظهرت الرغبة في أن تظل الأضواء مسلطة عليه، فشكّل فرقة مسرحية جديدة تعمل في سورية ولبنان، وشارك معه محمود المليجي، عقيلة راتب، جمالات زايد، هالة الشواربي، وبعض فناني سورية ولبنان، وحاول ياسين أن يعيد مجد الأيام الخوالي التي تجول خلالها في ربوع مدن سورية ولبنان وذاق حلاوة النجاح وصنع له اسما في تاريخ الفن حفره بالجهد والتعب والمثابرة، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، إذ خسر رأس ماله الذي حققه من السينما والتلفزيون، ولم تحقق الفرقة أي نجاح مادي أو فني.

استجابة لمبادرات كثيرة عادت «الطيور المهاجرة»، وهو الاسم الذي أطلق على الفنانين الذين استقروا فترة في لبنان، وعاد معهم ياسين، لكن فجأة تبخرت الوعود.

ومضى زمن طويل لم يسأل أحد فيه عن ياسين، فذهب إلى عبد الحميد جودة السحار الذي كان يتولى منصب رئيس هيئة مؤسسة السينما آنذاك، وشكا له موقف المنتجين والمخرجين منه، خصوصاً أولئك الذين يعملون لحساب المؤسسة وقال له إنه من غير المعقول بعد أن كان يمثل ستة أفلام شهرياً يجد نفسه من دون عمل!

أبدى السحار دهشته، وأكد أنه معجب بموهبة ياسين ولا يحب ممثلاً كما يحبه، ووعده بأن يحقق رغبته في العمل وابتهج ياسين بذلك وانتظر تنفيذ الوعد من دون جدوى، فبدأ يطوف على مكاتب المنتجين، خصوصاً الذين مثل لحسابهم أفلاماً كثيرة سجّلت أرباحاً مادية طائلة، واستقبله هؤلاء استقبالاً طيباً، ووعدوه بالكثير، لكن الوعود لم يكن مصيرها أفضل من وعود السحار!

روح مناضلة

ترك المرض على جسد ياسين الواهن علامات جعلته يبدو وهو في أواخر الخمسينيات، كعجوز في السبعين، لكن المرض لم يستطع الوصول إلى روحه المناضلة، فقد حزن ياسين على ضياع الفرقة التي تحمل اسمه، والكثيرين الذين كانوا «يأكلون عيش» من ورائه، فتوقفه عن الصعود إلى خشبة المسرح أو عدم وقوفه أمام الكاميرات، معناه أن يتشرد بعض الأسر وتنطفئ الأنوار من حول اسمه... وهو الذي ضحى كثيراً خلال مشوار حياته كي يصنع هذا البريق، فلماذا لا تستمر تضحيته ويحاول ثانية؟

عاد ياسين وبدأ مجدداً، وعُرضت عليه أعمال لم تكن ترقى إلى مستواه وشهرته، لكن الظروف عاندته، فالجسد لم يعد يحتمل، والروح المرحة الضاحكة طوال الوقت أزاحها بغض المرض وهمومه، وانعكس ذلك على شخصية ياسين، حتى على خشبة المسرح، والجمهور بطبعه لا يرحم، فهو لا يعرف ظروف الفنان ولا معاناته ولا آلامه، يريد رؤيته كما تعوّد عليه، وربما كان ذلك السبب الرئيس في اعتزال ليلى مراد في أوج مجدها وشهرتها وعمرها لم يتجاوز الـ 33 عاماً في عام 1955، ولم يلتفت ياسين إلى ذلك لشدة حبه لفنه وجمهوره، لكن الأخير خذله، ولم يعد يأتي لمشاهدة «سمعة»، وتراجعت عروض الفرقة، وتبع ذلك هروب بعض أعضائها إلى مسارح التلفزيون وانشغال البعض الآخر بأضواء السينما، تاركاً ياسين وحيداً يكابد آلامه.

هنا تدخل ياسين الابن في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فهو يريد أن يفعل شيئاً لمساعدة والده، فتقدّم لإخراج أول سهرة درامية في حياته كمخرج بعنوان «دوائر الشك»، واختار والده بطلاً، ظناً منه أنه سيحقق إحدى أمنياته وهو في بداية حياته العملية، ويصنع عملاً لتاريخه الشخصي، يجمع بينه وبين إسماعيل ياسين ليس الأب، فقد ظهر معه سابقاً في فيلم «إسماعيل ياسين بوليس حربي»، بل صاحب التاريخ الطويل والنجم الكبير، فقرر الظهور مع والده في مشاهد عدة في هذه السهرة، كذلك كانت أمنية ياسين تقديم عمل من إخراج ابنه الوحيد، وتحققت أمنية الاثنين، وكانت الأخيرة لكليهما!

العودة إلى البدايات

في عام 1970، وفي يوم عيد ميلاد إسماعيل ياسين (12 سبتمبر) يُفاجأ جمهور مسرح «ملهى رمسيس» بوقوف ياسين على خشبة المسرح يلقي مونولوجاته، وكان حدثاً غريباً وغير متوقع، فبعد غياب ما يقرب من 20 عاماً أو أكثر عاد لإلقاء مونولوجاته في الملاهي الليلية... ما أشبه الليلة بالليالي البارحة!

لم يكن الفرق بعيداً بين رواد ملهى بديعة، حيث وقف ياسين في بداية حياته يلقي مونولوجاته، والجمهور الذي وقف أمامه في ملهى رمسيس، لكن المدهش أن الجمهور أحسن استقباله، ودفع هذا النجاح أكثر من ملهى إلى التعاقد معه!

لم يكن ياسين هذه المرة الشاب الذي يبحث لنفسه عن مكان بين الكبار، بل كان نجماً خلفه تاريخ طويل، يحاول أن يصنع مستقبلاً موازياً له فشتان بين الشاب الذي يبدأ حياته وابن الستين الذي تمكنت منه الأمراض، واضطرته الظروف الصحية لتقديم وصلته مرتدياً «الشبشب» لإصابته بمرض النقرس!

من الملهى الليلي إلى السينما، كأنما التاريخ يعيد نفسه، قبل ياسين العودة ليس في دور البطولة أو البطل الثاني أو حتى «السنيد»... بل أحد الأدوار المساعدة أمام أبطال مثل هند رستم، ورشدي أباظة، وغيرهما من الذين كان يؤدي سابقاً الأدوار نفسها مثلهم.

عندما شعر أن الدنيا قد تضحك له مجدداً، وجدها تضحك عليه، ورحل الرجل الذي أحبه وتعلق به، على المستويين الرسمي والإنساني، ففي الساعة السابعة و45 دقيقة من مساء يوم 28 سبتمبر عام 1970، وقبل صعوده إلى خشبة المسرح لإلقاءمونولوجاته كما تعود يومياً، سمع من الإذاعة خبر رحيل الزعيم جمال عبد الناصر!

بكىطويلاً كما لم يبكِ يوم رحيل والده، وعلى رغم أنه كان يكبر الزعيم بست سنوات، إلا أنه كان يشعر بأنه والده الحقيقي، ما أوقعه تحت وطأة الأمراض مجدداً، وبسبب ظروفه الصحية السيئة بقي في بيته غالبية أيام الأسبوع بلا عمل!

بلا الأصدقاء

لم يكن ياسين مسح دموعه بعد على رحيل عبد الناصر، حتى بكى مجدداً أحد أقرب الأصدقاء إليه، فقد رحل المخرج فطين عبد الوهاب، صديق العمر والنجاح والشهرة... ولم يكد قلب إسماعيل في جنازة صديقه يصرخ باكياً، كما ودع سابقاً أبو السعود الإبياري، حتى أعلنت مصلحة الضرائب عن بيع عمارته في منطقة الزمالك وفاء للضرائب المستحقة عليه، وأعطته الدولة معاشاً استثنائياً بعد أن تذكرت الصحافة والحياة الفنية أن هذا الفنان كان في أحد الأيام «فلاشة الضوء» على غالبية دور العرض السينمائي، ثم عاوده المرض بقسوة ونصحه الأطباء بالراحة والبعد عن جو الحزن الذي أحاط به في القاهرة، فقد تغير كل شيء، ولم تعد الأجواء والأحوال السياسية والاقتصادية كما كانت، تبدل كل شيء حتى الفن، وطغت المادة على كل شيء.

بعد أن كان ياسين يعيش وسط جيل من الفنانين يعملون بإخلاص وحب لأجل الفن... رأى الجميع يعمل لأجل المال والشهرة والأضواء، فشعر أنه وحيد في هذا العالم الذي بات غريباً عليه، وكان لا بد من أن يتقبل الأوضاع الجديدة التي أفرزتها الحياة السياسية والاجتماعية في مطلع السبعينات!

شريط الذكريات

ذهب ياسين إلى الإسكندرية لعله يجد في هوائها نسمة ترد إلى قلبه الهدوء وإلى نفسه الراحة، وهناك حيث الهدوء والراحة، وأمام شاطئ البحر راح يستعرض تاريخ حياته منذ بدأ رحلة الهروب من السويس بحثاً عن مكان الأضواء في القاهرة.

وانهالت الذكريات: من مطرب المونولوج، إلى مطرب المونولوجات الأول، ثم ممثل في الأفلام كافة، ثم أول ممثل يقدم سلسلة أفلام باسمه... أول ممثل يقدم ما يزيد على 18 فيلماً سنوياً... تذكر المنتجين والمخرجين الذين كانوا يتهافتون عليه، وينتظرون منه مجرد توقيع، النجاح في الدول العربية، الصعود خطوة خطوة إلى سماء الشهرة والمجد في المونولوج والسينما والمسرح، و{أفيشات} الأفلام التي كانت تحمل اسمه وتغطي دور العرض كافة... والمسرح الذي أعطاه كل ما كسبه... ثم تجاهل الجميع له وانحسار الأضواء عنه وقسوة معاملة الضرائب له وحجزها على أمواله في البنوك وعمارته!! تساقط الأصدقاء الذين ساندوه ووقفوا إلى جانبه يصنعون مجده ومجدهم.. تذكر المخرجين والمنتجين الذين كسبوا من ورائه أموالاً طائلة ولا يسألون عنه ولا يعترفون به الآن.

ربما حزّ في قلبه أن يعود إلى نقطة الصفر ليبدأ مجدداً في هذا العمر المتأخر، أو ربما أوحت إليه الإسكندرية بنوع آخر من الذكريات، إذ ارتبطت زيجاته الفاشلة والناجحة بها.

من يدري في ما كان يفكر ياسين في أيامه الأخيرة؟ هل كان يفكر في المستقبل ويشحذ القلب والنفس في فترة الراحة والاستجمام ليبدأ مجدداً، متذكراً أن ما مضى كان أشد قسوة وأكثر حلكة وظلاماً من الحاضر، فلا شك في أنه كسب الآف الجنيهات، وأكثر ما كان يسعده على رغم ضياعها، أنه لم ينفقها على الشرب أو النساء أو اللهو، بل على الفن، لذلك كان على يقين بأن القلب والإرادة التي شقّت طريقها إلى القمةتستطيع الانتصار مجدداً.

الاستعداد للنهاية

بدأ ياسين في هذه الفترة يشعر بدنو أجله، خصوصاً بعد أن اشتدّ المرض عليه، ومنعه داء «النقرس» من معشوقته «اللحمة» وكان يقول ذلك لابنه ياسين وهو يضحك:

- أنا بدأت حياتي وأنا نفسي في حتة لحمة، أو حتة فرخة، ويظهر إن حياتي هتنتهي برضه وأنا نفسي فيها.

كان يروي لابنه غالباً كيف خرج من السويس وهو لا يملك من حطام الدنيا سوى الجنيهات الستة، وكيف كان ينام في المساجد ويأكل مع المجاذيب وكيف شق طريقه على الشوك، ثم كيف تحولت الحياة من دمعة حزينة إلى بسمة كبيرة حتى أصبح ملك السينما والمسرح المتوج، وكيف بدأ العد التنازلي، حتى تآمرت عليه الدنيا! ضحك ياسين طويلاً... واندهش ابنه:

- بتضحك على إيه يا عم إسماعيل.

بضحك على الدنيا اللي ضحكت عليا، بتخلص تارها (ثأرها) منيّ.

- ليه بتقول كده؟

- لأن اللي أنا شفته محدش شافه، ومعتقدش أن ممكن حد يشوفه بعد كده خالص مهما نجح ومهما طلع.

- أنا متأكد من ده.

- مش علشان أنا أبوك، لا لأن فعلاً اللي حصل ده لما ببصله دلوقت بحس إنه مكنش طبيعي. ده كان حلم. تخيل الولد السويسي الصغير اللي محلتوش «اللضا» ومفيش في جيبه ولا مليم وجاي ونفسه يغني زي عبد الوهاب، يوصل بيه الحال أنه يكون أغلى نجم في مصر والدول العربية، وينجح النجاح ده كله. وبعدين بعد ما الدنيا تطلع بيه لسابع سما تنزله مرة واحدة لسابع أرض.

- بس انت لسه إسماعيل ياسين مهما حصل.

- إسماعيل ياسين مات خلاص.

- ألف بعد الشر عنك. متقولش كده.

- ده مش أنا اللي بقول، الدنيا هي اللي قالت كلمتها خلاص.

- بابا أرجوك بلاش الكلام ده خلينا نغير السيرة.

- يا ابني الموت علينا حق.

وضحك ياسين كثيراً

- بتضحك على إيه؟

- افتكرت عمك عبد الفتاح القصري الله يرحمه لما كان دايما يقول: «الموت عليكوا حق وكأنه مش عليه هو كمان}. أهو مات وبرضه بعد العز والفخفخة مات وهو مش لاقي حق الدوا.

- الموت ده حاجة فظيعة.

- تتصور إني مش خايف من الموت.

صمت ياسين الابن منتظراً أن يتابع والده حديثه.

- مقولتليش ليه؟

- ليه؟

- لأني محضر للموت ألف نكتة. أول ما أحس بيه داخل عليه هفضل أقول نكت لنفسي علشان أفضل أضحك. وزي ما عشت أضحك الناس أموت وأنا بضحك!

وصدقت مقولة ياسين، إذ كانت توقعاته بالنسبة إلى نهاية حياته صادقة، وعاد من الإسكندرية إلى القاهرة في 23 مايو (أيار) 1972 وأمضى أمسيته مع أسرته، ولم يتوقف ليلتها عن إلقاء النكات... ضحك وضحكوا حتى سالت الدموع من عيونهم، ومع الساعات الأولى من صباح 24 مايو سلّم ياسين الروح مبتسماً.

رحل ياسين عن عمر يناهز الستين عاماً، حتى الطبيب الذي احتاج إليه في اللحظات الأخيرة من حياته لم يكن إلى جانبه...

رحل إسماعيل ياسين، بعد أن أضحك الملايين... أضحك الدنيا كلها، وضحك عليها، ولم يكن يدري أنها هي التي ستضحك أخيراً... رحل بعد أن كان يوماً ملكاً متوجاً تجري من حوله الحاشية يميناً ويساراً.

رحل ياسين تاركاً لنا ثروة قومية تقدر بنحو خمسمئة فيلم حول المواضيع والشخصيات كافة، وما يزيد على 80 مسرحية، صوّر منها التلفزيون المصري أكثر من 50 مسرحية.

رحل جسد إسماعيل ياسين، لكن روحه المرحة الجميلة الضاحكة لا تزال ترفرف في سماء حياتنا المفتوحة.