العراقي الراحل عقيل علي أحد أبرز الشعراء الإشكاليين في بنية القصيدة العربية الحديثة. فقد أثيرت حوله أقاويل كثيرة، ونشبت لأجله صراعات واسعة في الوسط الثقافي العراقي.

عقيل علي أحد شعراء العراق الذين لم نعرفهم جيداً الا بعد وفاتهم، هكذا الموت يقرّب المسافات، أو يجعل المرء تحت الأنظار. الموت المأساوي ظاهرة لافتة لدى شعراء العراق، من جان دمو الى سركون بولص، مروراً بمحمود البريكان ونازك الملائكة. إنه الموت في المنفى أو الموت على الرصيف. هكذا يرتبط الشعر في جانب منه بالشقاء.

Ad

من يقرأ سيرة علي يعرف طعم الشقاء الذي رافقه في حياته، الشقاء في بلاده وفي منفاه على عكس ما يعنون مجموعته «جنائن آدم»، فالجنائن في حياة الشاعر كانت أقرب الى وعد إبليس في الجنة.

قبل أن أقرأ كتب علي رأيت صوره مشرداً في أحد مواقع الإنترنت، بدا أن الذي التقط الصور فخوراً بانجازه الصحافي، كأنه اكتشف مفاعلاً نووياً وصوّره، لنقل إنه فخور بمآسي الآخرين وهو مارس اعتداء قاسياً على «حرماتهم» وحياتهم الخاصة. بدل أن يحاول مساعدة شاعر أصابته المأساة لجأ الى نشر صوره في حالته المزرية، فأضاف الى حياته مأساة جديدة، أشبه باغتيال لصاحبها. ذلك كله بزعم المهنية والسبق الصحافي الذي لم يعد موجوداً في العالم.

كم بدا مشهد علي في أيامه الأخيرة قاسياً. من يتأمله يقول إن الأشعار كافة لا تعبّر عن مأساة الوجود.

المهم القول إنه كان جيداً أن تعيد «دار الجمل» إصدار «جنائن آدم وقصائد أخرى» لعقيل علي الذي توفي مشرداً في العراء ببغداد في 15 مايو (أيار) عام 2005، ومارس أعمالاً يدويّة في الناصرية وبغداد. وحسناً فعل الشاعر العراقي كاظم جهاد عندما قدم لأعمال علي المنشورة، اذ يعتبر أن الأخير كتب مجموعتيه الأوليين في أشهر معدودة، بعد مراكمته قراءات بالغة الكثافة، وإثر تجارب حياتية لا تغيب عنها مسحة التمرّد ونشدان الخلاص. ويشير جهاد الى أن شقاء علي كان في محاولته الهجرة سيراً على الأقدام من العراق إلى الكويت، وفي مشاركته في الحرب الداخلية العراقية – العراقية.

مقدمة جهاد كانت كافية لتسليط الضوء على عالم علي وسيرته ومرجعياته الشعرية. عايش الشاعر فترات عصيبة من تحولات سياسية واجتماعية تركت آثارها الكبيرة في العراق، فعلي المتمرد سيق الى الخدمة الإلزامية، وكان قد تشكّل آنذاك وعيه المعرفي الذي برز في ما نشرته مجلة «الكلمة» عن شعراء جيل ما بعد الستينات، وعكسه كان الغالب من مجايليه. كان يكتب قصيدة التفعيلة وبغنائية مفرطة، لما كان الإعلام الصدامي يركز على أن ما يحدث في كردستان تمرداً والمقاتلين ضد النظام. رأى علي المجازر والإبادة ضد الأكراد المدنيين العزل في القرى، فجاءت آثار الصدمة النفسية كبيرة عليه، ولاحقاً تعرّض الى الصعقات الكهربائية في المستشفى العسكري.

في بداية الثمانينات نشبت الحرب العراقية - الإيرانية، وكان الشاعر يعمل خبّازاً وقد تزوج ورزق أول أولاده. لكن كان الوضع السياسي والأمني قد اشتد، واضطر أن يتوارى عن عيني السلطة وعدم الاحتكاك بها. كان هذا الخيار صعباً على المستوى الحياتي المعيشي، لكن علي اعتاد الإغلاق والتهميش والتغييب الذي أحاطه. على رغم أن هذه الفترة شهدت نشر نصوصه خارج العراق بمساعدة كاظم جهاد وبدأ الحديث عنه وعن شعريته المثيرة للانتباه بتوهجها وتفردها، وبرز ذلك عبر ما كتبه عنه شعراء وكتاب لبنانيون.

التسعينات

شهدت مرحلة التسعينات تداعيات غزو العراق الكويت، وما لحقها من كوارث على البنيتين الاجتماعية والاقتصادية في العراق، فكانت فترة عصيبة على علي، وتدهورت حالتاه الاقتصادية والصحيّة، واستمرّ في العمل أجيراً في الأفران. لكن على المستوى الشعري كانت هذه الفترة خصبة، وتميّزت بتعميق وتطوير أسلوبه في قصائد «جنائن أدم، أعشاب آسيا، وحجارة التوازن».

كذلك أنتج قصائد «شتاء النقود، بلادي، عند بلادي، تهجي اللقيا، الخباز»، وغيرها من نصوص أعادت تسليط الضوء عليه داخلياً هذه المرة، وصاحبها دخول مجموعتيه الشعريتين الصادرتين في الخارج وبداية حملة التربص به والإساءة إليه، خصوصاً بعد انتقاله الى بغداد للبحث عن عمل.

في خضم الفوضى التي حدثت أثناء بداية سقوط صدام، لم يتمكّن علي من تنظيم وضعه المعاشي. كان الشارع ملاذه والرصيف بيته، ومات مقتولاً بحسب تقرير الطب العدلي «إثر حادث مع كدمات على الوجه وضربة قرب الأنف».

من الناحية الشعرية تكفي قراءة مقدمة كاظم جهاد للتعرّف إلى عالم علي الخاص.

مختارات

َمرْثِيَة (إلى عَبد الأمير الحُصَيري)

كَانَ يُطِيلُ التَرَقُّبَ فِي وَدَاعِ حُضُورِهِ

ذَائِباً فِي ضَيْقِ اللَّحْظَةِ

يُحَدقُ بُِِشُحُوبِ البَهْجَةِ، وأَرْضُهُ قَدْ تَقَهْقَرَتْ

يُخْضِعُ مَا تَبَقَّى مِنَ الصَحْوِ

وَيَتَوَالَدُ مِنْ عَشِيَاتِ الشطُط.

«لاَ مَفَرَّ لَكَ

لاَ مَفَرَّ...»

أَيَةُ سَمَاءٍ تَرْتَكِزُ عَلَى حَتْفِكَ

دَائِماً

أَنْتَ، يَا طَائِرَ الغِنَاء؟

هُنَاكَ تَرْقُدُ ثمَالَةَ الجَسَدِ

هُنَاكَ تَلْتَقِي الثِمَارُ فِي مَرْقَى الدُمُوعِ

هُنَاكَ... ابْتَلَعَتِ الشَمْسُ ظُلُمَات قَلْبك

بِلا رَحْمَةٍ تَقَيَّأت الظُلُمَاتُ ثِمَارَ قَلْبك

كُنْتُ أبْقِي عَلَيْك آفَلاً فِي الزَّوْبَعَةِ المِيتَةِ

وَكُنْتُ، بِلاَ هَوَادَةٍ،

أَقْلبُ فُصُولَ وَحْدَتِكَ.