على شاشة الجزيرة، شاركت في حلقتين نقاشيتين لتحليل خطاب أوباما للعالم الإسلامي: الأولى جمعتني بالدكتور عبدالخالق عبدالله (الإمارات) والدكتور عزمي بشارة (فلسطين) واستمرت ثلاث ساعات، بدأت قبيل إلقاء الخطاب في الرابع من يونيو واستكملت بعد الانتهاء منه، بينما ساهمت في الثانية مع الدكتور محمد المسفر (قطر) وعضو عن حزب العمال في مجلس العموم البريطاني عبر نافذة برنامج أكثر من رأي في الخامس من يونيو. وقد تركت الحلقتان لدي العديد من الانطباعات المرتبطة بأسلوب ومحتوى نقاشنا في العالم العربي حول سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وأبعاد الاستمرارية والتغير بها، أجملها في النقاط التالية:

1- تصوغ الرؤى الإيديولوجية والمواقف المسبقة من الولايات المتحدة قناعات قطاع واسع من المحللين والكتاب العرب، بينما تتواضع لديهم قيمة المعلومة الموثقة والدراسة المعمقة. والأمر لا يقتصر هنا على المتوجسين من انحياز واشنطن الثابت لإسرائيل وما يستتبعه من افتئات على الحقوق العربية أو أولئك المتبنين دوما لنظرية المؤامرة كسياق تفسيري وحيد لفهم السياسات الأميركية وتحولاتها، بل يمتد ليشمل أقلاما وأصواتا متعاطفة مع الولايات المتحدة وراغبة في رؤية علاقتها مع العالم العربي تتطور على نحو إيجابي. والحصيلة هي نزوع مستمر يهيمن على الإعلام العربي لتسجيل مواقف الـ«مع» والضد إزاء القوة العظمى دون معلومات حقيقية أو تحليلات متماسكة تقدم للمشاهدين والقراء.

Ad

بعض من شاركوا في الحلقتين النقاشيتين المذكورتين على شاشة الجزيرة لم يسجلوا ملاحظة واحدة أثناء إلقاء أوباما لخطابه، ولم يخطوا على أوراق خواطر أو أفكار حول مضمون ما تناوله من قضايا وصراعات، واكتفوا بالتبعية بتسجيل المواقف دون معايير واضحة والمبالغة بأسلوب عرضها إن باتجاه تشاؤم كامل يستند إلى ادعاء انتفاء قدرة ورغبة إدارة أوباما في تغيير السياسات الأميركية في الشرق الأوسط أو باتجاه تفاؤل لا حدود له يرى أنصاره في أوباما مهدي هذا الزمان المنتظر.

2- يبدو أن الرؤى الإيديولوجية والمواقف المسبقة تختزل على الشاشة التلفزيونية، بما تحمله هذه الأخيرة من انحياز بنيوي للجملة القصيرة والطرح البسيط (أو ثقافة السوند بايت كما يقال باللغة الإنكليزية)، إلى مجموعة من الشعارات السطحية المفتقدة حتى لوهج الإيديولوجية وللبريق المتميز لنظريات المؤامرة في عالمنا العربي.

تحدث أوباما، في خطاب ما كان ليخرج عن حيز التناول العام، عن رغبة إدارته في التأسيس لمرحلة جديدة في العلاقة بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي وأشار إلى مجمل مواقفه بشأن ظاهرة العنف الراديكالي والقضية الفلسطينية والعراق وأفغانستان ومسألة الديمقراطية وحقوق المرأة والتنمية الاقتصادية. وعوضا عن الشروع في محاولة تحليلية جادة لرصد مساحات التغير المتوقعة في السياسات الأميركية انطلاقا من الخطاب ومقارنة ما أعلن من مواقف ونوايا بما نفذ وينفذ على الأرض من خطوات، ذهب بعض من زمالتهم في الحلقتين النقاشيتين على شاشة الجزيرة إلى تسفيه ما جاء به أوباما معتمدين على عبارات من شاكلة «حديث معسول ولا تغيرات فعلية على الأرض» و«خطاب أوباما يعبر عن تغير في الأسلوب واللغة أما التغير في السياسات فلا وجود له»، وتناسوا التحولات على الأرض في الموقف الأميركي من إسرائيل بشأن المستوطنات وحل الدولتين والتأكيد على الانسحاب من العراق والانفتاح التفاوضي على إيران وكذلك تجاهلوا قصر عمر الإدارة الجديدة وكونها موضوعيا بحاجة إلى مزيد من الوقت لصياغة سياساتها وتنفيذها. البعض الآخر، ولا أستثني من هؤلاء نفسي فربما وقعت في ذات الشرك في لحظة أو أكثر، اندفع إلى تأويل الخطاب «كبرنامج عمل ملزم» للإدارة الجديدة وتفاءل بقرب حل القضية الفلسطينية والملفات العالقة مع إيران دون تقدير للمعوقات الموضوعية التي تعترض طريق أوباما إن داخل الولايات المتحدة (قوة اللوبي الإسرائيلي) أو خارجها (حكومة اليمين الإسرائيلية وخوف بعض مراكز صناعة القرار داخل إيران من الانفتاح على واشنطن).

3- تستتبع هيمنة الرؤى الإيديولوجية والمواقف المسبقة على نقاشنا العربي حول السياسات الأميركية اختلاف مسارات ومضامين هذا النقاش جذريا عن نظائره العالمية. فبينما وقف قطاع واسع من المحللين والكتاب العرب بعد خطاب أوباما في المربع الأول متهما أو مدافعا عن واشنطن، وفي الحالتين متبنيا لنظرة كليانية لا تعتبر بالطابع التدرجي والجزئي لصياغة السياسة وتنفيذها وكذلك بالظروف الموضوعية المؤثرة في كليهما، تميزت النقاشات العالمية بدرجة عالية من الطرح التفصيلي والمقاربات التحليلية. توقفت المؤسسات الإعلامية الأميركية والأوروبية، على تنوع توجهاتها السياسية بين يمين ويسار، طويلا أمام استبدال أوباما لعبارة الحرب على الإرهاب بحديث عن مواجهة العنف والتطرف وقدموا طروحات متفاوتة لتفسير التغير في الموقف الأميركي من إسرائيل ولتحديد مغزى اعتراف أوباما الضمني بشرعية «حماس» استنادا إلى وجودها السياسي والشعبي بين الفلسطينيين ومدلولات امتناعه عن إلصاق صفة الإرهاب بها.

وعندما حاولت طرح مثل هذه القضايا التفصيلية في الحلقتين النقاشيتين المذكورتين وطالبت «حماس» والفلسطينيين بإدراك التغير النوعي في الموقف الأميركي منهم ومن إسرائيل، اتهمني أحدهم بالعمل على إضفاء هالة من البريق على خطاب أوباما دون وجه حق، وشدد آخر على سطحية التغير المزعوم بالنظر إلى غياب حسم الإدارة الأميركية الجديدة بشأن وضعية القدس وحق العودة للاجئين الفلسطينيين والحدود النهائية للدولة الفلسطينية. هكذا وكأن محاولة رصد مساحات فعلية أو متوقعة للتغير في السياسات الأميركية لا قيمة لها ولا أهمية لفهم مدلولاتها طالما أن هذه لا ترقى إلى مطلق الالتزام الفوري بكامل الحقوق العربية.

باتت الحاجة ماسة في نقاشنا العربي حول السياسات الأميركية في الشرق الأوسط إلى جرعة أقل من الرؤى الإيديولوجية وتقدير أفضل لأهمية التغيرات الجزئية والصغيرة وتدرجية تنفيذها على الأرض. ولا شك عندي في أن المدخل الوحيد لإنجاز ذلك إنما يتمثل في إعلاء المعلومة على الرأي وتقديم حق المشاهدين والقراء في المعرفة الموضوعية بما يدور حولهم على النزوع المرضي نحو تسجيل المواقف وإعادة إنتاج ثنائيات المع والضد الحدية.

* أكاديمي مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء