ملفت للنظر كيف يستطيع نظام ما أن يجعل من الشعب بأكمله مجرد مرآة عاكسة لصورته. الملامح والظلال وحتى نبرة الصوت وأسلوب التعبير والمفردات، جميعها توحي بالتطابق وكأن عملية استنساخ طويلة مازالت تجري منذ عقود، حتى ليختلط على المرء معرفة من يعكس صورة من، ومن انبثق عن الآخر.

Ad

المؤسف أن الأمر غالبا ما ينجح، فلا يعرف العالم من هذا الشعب إلا الصورة التي رسمها نظامه السياسي عنه وقدمها دائما بمناسبات عديدة وأشكال مختلفة إنما بمضمون واحد. العالم يصدق أن هذا الشعب «متخلف» وذاك أصولي متشدد، وآخر بدائي وهمجي ينتظر الفرصة لممارسة هوايته في التهام «الغرباء»، ومهما صدرت من أصوات عن هذا المجتمع أو ذاك، تتحدث بنبرة مختلفة وبمفردات مختلفة وبخطاب يحمل القيم الإنسانية الجامعة التي لا تعرف شرقا أو غربا، يبقى تقييم تلك الأصوات على أنها معزولة ونخبوية ولا تعكس حقيقة تيارات في هذا المجتمع أو أي شرائح واسعة منه.

صورة الشعب كمرآة عاكسة لنظامه بما يحمله من رؤى وإيديولوجيات وسياسات ونظرة للحياة، تنكر عليه، أي على الشعب، واقع ما يحمله من تنوع واختلاف، وما ينطوي عليه من إمكانات وما يخبئ من مشاريع للمستقبل حتى في ظل الصمت المطبق عن حاضر لا يرضى عنه.

هكذا كانت صورة الشعب الإيراني قبل أن يرفع عنه الحجاب أخيرا، الصورة التي صنعت محليا وجرى تقبلها على نطاق واسع في مختلف أنحاء العالم. صفوف متراصة من النساء المتشحات بالسواد والرجال الغاضبين الملوحين بقبضاتهم والهادرين بأصواتهم طلبا للموت «للشيطان الأكبر». أعداد هائلة من أشخاص لا متمايزين يبدو كل منهم نسخة عن الآخر أو مجرد امتداد له.

وبالنسبة للأجيال الجديدة بشكل خاص سواء في دول المنطقة أو خارجها، كان من الصعب تصديق ما تراه عبر الأفلام المصورة والمنقولة على نطاق واسع في الشبكة الإلكترونية. هناك مجتمع آخر لم يعلموا بوجوده من قبل. أعداد هائلة من الشباب والصبايا بهيئة لا تشبه تلك الصورة النمطية في شيء. هؤلاء يشبهون نظراءهم في مختلف أنحاء العالم، يتقنون لغة «الشيطان الأكبر» ويستخدمونها في لافتات احتجاجهم عبر شوارع طهران وغيرها، يتحدثون عن أحلام لا تختلف في شيء عن أحلام ملايين الشبان والشابات في مجتمعات مماثلة أو مختلفة كليا. وصبايا إيران، تبين فضلا عن جمالهن الساحر! أنهن الأكثر توقا للحياة التي خرجن متظاهرات من أجلها، من أي أحد آخر ضمن الأمواج الهادرة في تلك الاحتجاجات. تبين أن شيرين عبادي، ليست ظاهرة منعزلة ونخبوية! ولا تمثل إلا نفسها، أو بأفضل الأحوال، تمثل التيار «المتغربن» والضئيل ضمن بيئة محافظة ورافضة لما تروجه من قيم إنسانية شاملة حول الحرية والعدالة، وأن هناك أكثر من السياسة وراء تلك الاحتجاجات، هناك نمط حياة وثقافة تصارع لتجد لنفسها موطئ قدم. الوجه الآخر لإيران الذي ظهر جليا خلال الأيام القليلة الماضية، أبرز جليا، أن الشعوب التي تعيش في ظل أنظمة مماثلة أو مشابهة، لا يمكن اختزالها في الصورة التي تقدمها تلك الأنظمة عنها ويتناقلها العالم كأنها حقيقة مطلقة.

لأجل ذلك، فإن هذا الوجه على الأرجح لم يعجب أحدا من تلك الأنظمة، بغض النظر عن اتفاقها أو اختلافها أو حتى عداوتها مع النظام الإيراني. جميعها يحسب حساب الوجه المخفي لمجتمعاتها، التي تعمل جاهدة لكبت تعبيره عن نفسه وإظهاره للعلن. جميعها تفضل الحفاظ على الشبه المفروض بالقوة، بينها وبين «جماهيرها».

الوجه الآخر لإيران الذي كان مخفيا وراء ستار ثقيل، يثبت أنه لا يمكن التحكم بقناعات الناس وأحلامهم إلى ما لانهاية، حتى لو أتقن التحكم بالتعبير عن تلك القناعات والأحلام ما طال الزمن، وأن محاولة النظر من خلف الستار، أجدى من التجاهل والانتظار حتى يعلن ذلك الجانب المخفي عن نفسه، بشكل مؤلم ومأساوي أحيانا.

بهذا القدر من الألم والأسى، أظهرت ندى وجهها؛ الصبية بملامحها الجميلة، تقف إلى جانب والدها في إحدى المظاهرات يوم السبت الفائت، قبل أن تصيبها رصاصة مجهول في صدرها ونراها تسلم الروح أمام الكاميرا، فيما والدها يحاول عبثا مناداتها بغير جواب؛ لم يبق على الشاشة إلا العينين تحدقان بخليط من الرعب والدهشة؛ إنه ضرب من الجنون، أن يقتضي نزع الحجاب عن أحلام مغايرة، تلقي رصاصة في الصدر.

* كاتبة سورية

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء